يثب

د. كمال اللبواني
Kamalلقد حسبتها أمريكا جيدا إن هي قوضت النظام بالضربات ، أو عن طريق مساعدة المعارضة المسلحة فهي ستسمح بانتصار الخصوم بعد أن هيمن الإسلاميون السلفيون الجهاديون على المعارضة الداخلية بشكل عام، والمسلحة بشكل خاص، وإن هي تخلت عن المعارضة (وهي تفعل ذلك فعلا)، واستمر حلفاء النظام بدعمه، قد ينتصر النظام، وهو أيضا عدوها.
لذلك كان خيار “جنيف” هو الخيار الوحيد المسموح به أمريكيا، لأنه لا يسمح بفوز أي من العدوين، بل يتيح الفرصة لقيام سلطة لا تمثل أي من الطرفين (سلطة بلا لون ولا طعم ولا رائحة كما يظهر من استعراض أسمائها المقترحة)، مع العلم أن كلا الطرفين لا يتوقع أن يرضى عنها بغير القوة والإجبار كما هو باد للعيان.. لكن يبقى مقدار قوة ونفوذ تلك السلطة موضع تساؤل، إنها مرتبطة بمقدار استنزاف وضعف القوى الأخرى المتصارعة، التي يجب عزلها وإضعافها ضمن عملية منهجية تشارك بها الدول الإقليمية كلها، بما فيها إيران. ومن هنا إصرار أمريكا على حضورها ليس حبا بها، بل من أجل إلزامها بالركب الأمريكي الروسي، الذي تسلمت روسيا القيادة فيه، بعد أن ضمنت أمريكا عناصر الخطر (الكيماوي السوري والنووي الإيراني)، فروسيا اليوم فعليا هي المتعهد لهذا الحل وهي المدير الذي سيعمل على إنتاج السلطة القادمة، وعلى الجميع الحضور إليها والتباحث معها (تماما كما صرح وزير الخارجية الروسي بضرورة جر المعارضة للقدوم لموسكو).
والنتيجة المرجوة من جنيف إذا ليس السلام، ولا إيجاد نهاية للظلم والاستبداد والإجرام في سوريا. بل منع انتصار أي من الطرفين اللذين سيساقان لجنيف سوق النعاج للمسلخ .. واللذين لا يتوقعان في جنيف سوى التعرض للضغوط وانقطاع الدعم عنهم بالنتيجة. وخسارة السلطة القادمة. فالمطلوب منهم هناك هو تسليم السيادة والقرار للمجتمع الدولي و المتعهد الروسي، الذي سيفرض السلطة التي يريد، وهي بالضرورة سلطة لا علاقة لها بالهوية والدين. بل سلطة مضمونة الولاء للغرباء (أي عدم وطنيتها هو شرطها) ناهيك عن علمانيتها أو شيوعيتها، أو تمثيلها للأقليات أساسا.
روسيا اليوم تخشى فعليا قيام دولة إسلامية ولو على جزء من سوريا، لأنها ستكون قاعدة لتصدير الثورة مجددا لشعوب روسيا المسلمة المضطهدة تاريخيا، وبشكل أخطر للصين أيضا .. وكذلك الغرب يخشى التطرف وقيام دولة وقاعدة للجهاد الإسلامي خاصة في منطقة ذات موقع مهم، وروسيا أصبحت تخشى التقسيم لأنه سوف يؤدي حكما لدولة متشددة في المناطق الأخرى، لذلك لم تعد تدعم مشروع إيران بقيام دولة شيعية -مسيحية في الساحل السوري اللبناني.
أما لماذا وصل الإسلاميون لهذه الدرجة من القوة، وهيمن جناحهم المتشدد، فهو بسبب إصرار النظام على مواجهة الثورة التي قامت ضده كديكتاتور فاسد باستعمال كل آلة القتل والتدمير، ثم الاحتماء وراء لهيب صراع تاريخي طائفي قومي طويل يحاول جاهدا جر الجميع إليه، كنا ظننا أننا تجاوزناه، لكن أعيد تأجيجه برغبة إيران وبسلوك النظام …. لقد استفز النظام وحلفاؤه كل المشاعر عند العرب السنة، لدرجة استدعت قدوم النصرة والدولة وكل من هو متحمس وصاحب مروءة ودين (إرهابي متطرف ومتشدد كما يسمونه) … وصار هناك فصل، وتحول تاريخي (من ثورة ضد النظام، لصراع طائفي قومي قديم حديث).
الأقليات عموما أخذت قراراتها بالتحالف مع النظام في وجه الأغلبية، فالكرد مثلا تخلوا عن حلفهم التاريخي مع العروبة والتركمانية (ربما بسبب استيراد الثلاثة للفكر القومي من الغرب العنصري) بنسخته الأوروبية الفاشية النازية، وتراجعوا عن إطار حلفهم الديني التقليدي، وانتهزوا الفرصة لتعزيز مشروع استقلالهم العدائي، والمسيحيون أيضا انسحبوا من هذا الغطاء الجامع للتنوع عبر التاريخ، لصالح تقوية الشيعة، التي بنظرهم ستحطم عدوهما المشترك أو تنهكه وتتحطم معه، فيسودون هم في النهاية بدعم الغرب الذي هو حليفهم الموثوق، لكنهم بذلك يقوضون أساس وجودهم الذي لم يكن النفوذ الغربي، بل الحلف التقليدي تحت راية الدولة الإسلامية، (لاحظ هنا أن أعدادهم تناقصت بشدة في العراق ولبنان) حيث انتصرت الشيعية السياسية الصفوية الجديدة، في مكان الصيغة الدينية السنية التاريخية التقليدية … التي تعتمد ثلاثة أرجل لتقوم: على (سلطان قاسٍ، وشيخ معتدل، وتاجر طري).
ما هو إذن الحل البديل عن جنيف؟ الحل البديل في لاهاي، في تجريم النظام لتبرئة الأقليات، وإقامة العدالة لمنع الانتقام والوحشية، وفتح باب المصالحة مع الاعتراف بالخصوصية والتنوع، فالصراع المرير عبر التاريخ لا يمكن تجاوزه بتكرار الجرائم المسكوت عنها، بل بالعدالة، وهي وحدها التي تسمح بالسلم، وبإعادة بناء الحلف التاريخي القديم للعيش المشترك على مبادئ: الحق والعدل، وحقوق الإنسان وقيم الدين، والقانون الدولي … هذا أفضل بالتأكيد من القفز نحو سلطة تشكلها روسيا بشخصيات كرتونية لا انتماء ولا هوية لها، لا تستطيع الدخول للداخل من دون حراسة الجيش الروسي الذي سيضطر للباس القبعات الزرق، والغوص في وحل المستنقع السوري وسط شماتة أمريكا وابتسامتها الخبيثة … وتقع روسيا تحت شهوة السيطرة والنفوذ، و ولعها بتشكيل حلف عسكري من السلطة والمعارضة لمحاربة الإسلاميين، الذين دافعوا عن بقاء الشعب والعروبة والإسلام، الروس يسعون لتشكيل حلف لأنصار النظام وللأقليات في مواجهة الثوار الذين سيستمرون بالحصول على الشرعية والدعم الداخلي والخارجي، طالما استمرت الجرائم و العدوان والخطر الوجودي الذي يهدد حياة أغلبية الناس وهوية البلاد وثقافتها …. فأين السلام الموعود في جنيف؟ إنه مرتبط فقط باستسلام المجاهدين والشعب والثورة، وتخليهم عن أهدافهم وحقوقهم، وعن معاقبة من ارتكب بحقهم أبشع وأشنع الجرائم … فهل هم فاعلون؟
لهذا السبب نحن ممن يعتبر الذهاب لجنيف خيانة للثورة والوطن والشهداء والعروبة والإسلام …. بشكل واضح وجلي.
2013/12/8

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.