د. كمال اللبواني
يندر أن تجد جواباً مقنعاً على سؤالٍ بسيط قد يسأله أي طفل : ما هي الملائكة؟ وإذا وجدت، سمعت كلاما عاما منقولا لا يطابق أي شيء مما تعرفه وتشعر به ويمكنك عقله، وبالتالي يتم بناء أحد أركان الإيمان على التصديق وليس اليقين، لأن اليقين يحتاج للّمس العقلي غير المباشر أو الحسي المباشر والأفضل كلاهما معا … الايمان بالملائكة هو البند الثاني من أركان الإيمان الاسلامي التي تختصر: ( بالإيمان بالله، وملائكته، وكتبه ورسله ،وباليوم الآخر، والقضاء والقدر خيره وشره). فما هي هذه الملائكة ؟… وهل الإيمان بها أو ببقية أركان العقيدة يستند للتفكر والبحث عملا بقوله تعالى {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } أم يستند للتصديق والاتباع فقط ! { قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ }
نقرأ في الويكيبيديا/ الموسوعة الحرة : ( المقصود من الإيمان بالملائكة هو الاعتقاد الجازم بأن الله خلق الملائكة من نور وهم موجودون، وأنهم لا يعصون الله ما أمرهم، وأنهم قائمون بوظائفهم التي أمرهم الله القيام بها.قال تعالى: في سورة البقرة:{ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ… })
أي بحسب موسوعة المعارف هو الإيمان بوجود فاعلين من طبيعه نورانية غير مادية ، قادرين منضبطين مطيعين لا يختارون بل ينفذون، يديمون عرش الرحمن الذي ( وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) .
لذلك باختصار ومن دون أن ندخل في جدل بيزنطي عن جنس الملائكة (في زمن الحرب الأهلية والمذهبية الطاحنة). وبسبب تطور معارف اليوم نرى أن الحديث يتم عن القوانين الناظمة للوجود … فكلمة قانون العلمية الحديثة تطابق في مدلولها المعرفي كلمة ملاك الدينية. فالقانون هو نظام قوي دائم مضمر في الوجود من طبيعة غير (ماديه/ طاقة) لكنه موجود نلمسه ونعقله، وهو كائن افتراضي لا يملك حرية الاختيار كما تملك النفس التي هي أيضا من طبيعة غير مادية، فالنظام جزء لا يتجزأ من الوجود الذي لا يمكن أن يكون عبثا أو فوضى أو من طبيعة مادية فقط ، بل إن النظام هو سبب الانتقال من حالة (العماء / الخلاء ) لحالة الوجود، الذي يتم بكميات ونوعيات محددة ( نظرية الكموم الطاقية المكونة نوعيا للمادة) .
فالإيمان بالملائكة يعني الإيمان بوجود النظام السابق والحافظ للوجود، النظام والكلمة كشيء افتراضي/ غير مادي يسبق الشيء المادي وجودا ويحدد هويته ويديمه، أي هو اعتماد ديني للنظرية الفلسفية المثالية، مع العلم أن الفلسفة ليست المعرفة بالواقع ( التي هي مجال اختصاص العلوم ) بل هي معرفة هذه المعرفة : نظاما ومنطقا وتوظيفا … أما الدين فهو منظومة استنتاجات فلسفية متكاملة عن الوجود وعلاقتنا به . أي أن الدين تعريفا هو منظومة (معرفية – فلسفية – قيمية ) غير منقطعة عن سياق المعرفة والتفكر العقلي ، وعن الواقع بجانبيه الملموس والمحتجب / عالم الشهادة وعالم الغيب .
فإذا كان هذا الكون قد خلق بكلمات / نظام ثابت محكم سبقه وجودا وأدامه ما أدام الخالق هذا النظام ( نقصد هنا الإيمان بالملائكة الشداد {وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ}) ، فهناك أيضا في هذا النظام عنصر الحركة والتغير والتبدل الذي يخضع أيضا لمشيئة وكلمات وغايات منظمة مبدعة تختار وتغير وتتفاعل … لها أيضا ملائكتها التي تتحكم بحركة الأحداث والتغيّرات، فلا تغير نظام الكون الثابت بل تتحرك ضمن خياراته وتحول الأحداث فيه من مجرد صدفة عبثية لاختيار حر وعمل مقصود له نظامه أو غاياته ( الملائكة المقربة مثل ميكائيل وعزرائيل وجبرائيل ، وكذلك ابليس … كنظم وقوانين للرزق والموت والمرض والوحي والشر …. {ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ } )
فذلك يقسّم وعي الوجود لمفهومين تحليليين أساسيين هما مفهوم عن الثابت في ناموس الكون ، ومفهوم عن المتحرك والمتغير فيه ، واحد سمي بالقضاء وآخر عرف بالقدر ( بالفلسفة يسمونهما الضرورة والصدفة ) … كما أن معرفة الخالق هي أيضا منقسمة فلسفيا كما قال أبو الأعلى المودودي بذات الطريقة : معرفة الله كرب خالق سيد حاكم ، وإله قريب مجيب مبدع ومتفاعل ، وهكذا …
لا يمكن بناء إيمان حقيقي (ليس مجرد تصديق) من دون ربط وثيق بينه وبين العقل والفلسفة، وبينهما وبين أساسهما أقصد المعارف والعلوم … فننفتح بوعينا بعد الاطلاع على التطور العلمي والمعرفي والفلسفي الهائل على وعي جديد وتفكير جديد في معاني كلمات مثل جبريل وابليس وعزائيل والكتاب والقرآن والوحي والتنزيل والقضاء والقدر و و … وكلها عناصر أساسية في الإيمان الديني السماوي عامة والاسلامي خاصة، لا يصلح ولا يكتمل من دونها. وهكذا ومع تطور العقول تتطور مدلولات النص المنزل من دون تغيير في حرفه ، وهو ما يجعله متكيفا مع تغير الأزمنة والعقول وهذا سره …
يتم عادة في مدارس الشريعة المرور بطريقة متسرعة فوق أركان الإيمان، والاعتماد فقط على النقل وحده والتركيز تعويضا على أركان الاسلام والشريعة من دون التفكير بالعقيدة ، وباعتماد التصديق المباشر المطلق بدل التفكر النقدي تجنبا لتهمة التكفير الجاهزة للانطلاق … مما يمهد لشيوع تدين شكلي من دون وجود يقين وضمير حقيقي ذاتي وازع هو أساس السلطة الدينية وامتحان الأنفس، ويؤسس لافتراق بين النظم المعرفية العلمية والفلسفية العقلية الحديثة، والنظم الايمانية التقليدية الموروثة ، والتي تصبح في مواجهة مع العقل والعلم والحداثة، ويؤسس لقصور فهم عام يشمل ما بعد أركان الإيمان أقصد أركان الاسلام و أحكام الشريعة و و…. وغيرها من تطبيقات هذا الإيمان التي عليها أن تتقيد به وتبنى عليه أولا وأساسا … { الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ }
يتبع …. ( ضرورة وصدفة … أم قضاء وقدر )