د. كمال اللبواني
عندما قدمت الفاتيكان اعتذارها عن موقفها السابق من عالم الفلك غاليلو ، حكمت على الفلسفة المسيحية بالموت على مذبح العلم ، والدفن في متحف أيقونات التاريخ، وقد حدث هذا بالتزامن مع تحول الديانة المسيحية لمجرد بناء قديم بالقرب من المقابر يستخدم فقط عند الموت، بعد أن استقالت من الحياة السياسية والاجتماعية والقيمية ، ومن دورها في صياغة الإنسان ، وتركت ذلك للعلم الذي تفوق عليها بعد أن اعتبرت نفسه نقيضها .
قيمة غاليلوا وشهرته أنه وضع العلم ومكتشفاته في مواجهة فلسفية علنية مع الدين عام 1632 مستخدما الخلاف بين مفهوم الدين عن مركزية الأرض والإنسان وبين مكتشفات العلم عن دوران الأرض حول الشمس ، بعكس كوبرنيكوس المكتشف الحقيقي لعلاقة الشمس والأرض والذي لم يوظفها في مواجهة العقيدة الدينية ، وعليه فعندما وقفت الكنيسة ضد غاليلو لم تكن تقصد الوقوف في وجه العلم ولا النظرية التي جاء بها كوبرنيكوس ، بقدر الدفاع عن فلسفتها وعقيدتها المبنية على مركزية الإنسان ، وعليه حاكمت وأدانت غاليلوا . ثم بدأت بالتراجع عن قرارها ، حتى أقرت أجيال جديدة من البطاركة بالهزيمة أمام العلم تباعا ، وأقالت بأيديها الدين من ساحة المنطق واليقين ، ونقلته إلى مستودع التحف الأسطورية التي تعود لمرحلة ما قبل العلم … وهكذا تم تأسيس العلمانية في الدول المسيحية كنظام سياسي على العلمية كمنهج عقلي مناقض للدين ، وهي الأسس التي بنيت عليها الحضارة الأوروبية الغربية الحديثة التي تهمل دور الدين في الحياة.
في مواجهة المسيحية مع الحداثة لم تطور المسيحية منهاجها العقلية والإجتماعية بما يتناسب مع النهضة العلمية، بل تقوقعت وتكلست ، حتى كُسرت في معاركها ضد العلم والديمقراطية وضد التحرر ، تحت ضربات الإنجازات العلمية التي حطمت النظام القديم بدءا من تغيير البنى التحتية التكنولوجية والاجتماعية التي بني عليها وصولا للعقيدة الفلسفية … ولم يستطع رجال الدين والفلاسفة المثاليون تطوير قراءة وتطبيق الدين لتجنب هزيمته واقصائه عن الحياة بنواحيها الثلاث الاقتصادية والثقافية والسياسية ، وهذا ما كرس فصل الدين عن السياسة ( علمانية ) وفصل الدين عن الثقافة ( علمية ) وفصل الدين عن الاقتصاد ( طغيان علاقات الاستغلال ) وبذلك فقدت الحضارة الحديثة أهم منبع للقيم وهو الدين ، وقامت من دونه على علاقات القوة والغلبة التي جعلتها رغم تطور أدوات الانتاج الهائلة لا تقل قباحة عن عصور الهمجية ، وما يحدث في سوريا صورة عن هذه الحضارة .
ما فعله غاليلو ليس مجرد شرح العلاقة الحركية بين الأرض والشمس فهذا سبقه إليه كوبرنيكوس ، بل هو الاستخدام الفلسفي لها ، لنقل مركزية الكون من الأرض التي يعيش عليها الإنسان (الذي يقابل الطبيعة بوعيه ) إلى الشمس الملتهبة ، التي صارت هي مركز الكون بسبب اكتشاف دوران الأرض حولها ، فالخلاف تحول لإثبات صحة الكتاب المقدس أو عدم صحته ، مع أن مجرد دوران كواكب المجموعة الشمسية حولها ليس مبررا لهذه النقلة الفلسفية ، فمركز الكون ذاتي افتراضي يبدأ من الوعي الذي يواجه هذا الكون أي من الذات من الإنسان الثابت بالنسبة لنفسه والذي يحمل معه جملته الإحداثية الديكارتية التي تتقاطع عنده ويدور ويتحرك بها ، المركز هو الإنسان المعلق على صليب الحياة الذي يتقاطع في جسده الزمان والمكان وعالم المادة وعالم الروح ، وفي قلبه يوجد عرش الرحمن القدس … غاليلو لم يكتشف القانون بل وظفه في الجدل الفكري والسياسي الدائر مع الكنيسة والعقيدة الدينية … لذلك فقط وليس لنظريته العلمية اتهم بالهرطقة الدينية ومعارضة الكتب المقدسة التي تعتبر الإنسان غاية الخلق ومركزه … فالديانة المسيحية متمركزة حول عقيدة الصليب المقدس الذي يحمل معاني ورموز كثيرة وذات دلالة ، والتي كرستها عقيدة صلب المسيح عليه ، حيث يصبح مجرد الإيمان بتلك القصة والعقيدة خلاصا وانعتاقا من عذاب الدنيا وطريقا نحو الانضمام للفرودوس الأعلى …
بضربة واحدة قوض غاليلو أحد أسس العقيدة المسيحية … مستخدما مكتشف علمي يمكن تفسيره فلسفيا بعدة طرق … فموضوع مركزية المكان موضوع افتراضي وليس موضوعي ولا مطلق ، كما أن المكان وسكونه نسبي، بل إن مفهومه ذاته عرضة للتغيير تبعا لنظرية أينشتاين عن وحدة الزمكان … التي تحدثنا عنها في المقال السابق .. وعليه فما قامت به الكنيسة هو خطأ جسيم في التعامل مع العلوم عندما وضعت نفسها كبديل عنها ، وما قام به العلماء هو خطأ مقابل عندما اعتبروا الدين ندا للحقيقة العلمية …
كما ترون نحن مستمرون في توضيح قضية التناقض بين العلم والدين وإضاءة جوانبها من خلال نماذج عملية تاريخية نأمل أن تتوصل لمنهج واضح لمقاربة هذا الموضوع يتعلق بموقف العلم من الدين وموقف الدين من العلم، كي لا توضع الحقيقة التجريبية في مواجهة الحقيقة الاستدلالية ، وهذا كله ينتج عن ايماننا بضرورة توحيد المنطق والعقل ، الذي يعكس وحدة الوجود ونواميسه ، والتي تدل على وحدة الخالق جل جلاله .
نحن نقوم بهذا الجهد الفكري التنويري لكي نجنب الإسلام ذات المصير الذي حل بالمسيحية ، وحتى لا نحرم الحضارة الحديثة من آخر منبع متوفر للقيم ، ولا نحرم الإسلام من لعب دوره التاريخي الموعود كهدى ورحمة للناس . لذلك أدعو كل علماء المسلمين ومفكريهم للمساهمة في هذا العمل وتطويره لكي نعيد قراءة الدين والحضارة معا ونجري التوفيقات الضرورية التي تزاوج بين قيم الدين وبين نظم الحياة ، وتمكن الدين من الصمود والبقاء مع تغير أنماط الحياة ، وهو ما سينعكس على بقية الديانات التي ستستعيد حيويتها مستفيدة من نجاح الفكر الإسلامي في تفهم واستيعاب العلم دون الإضرار بالعقيدة ، وإذا كنت من مناصري العلمانية السياسية التي تحمي الدين وتحمي السياسة من تشويه أحدهما للآخر ، فأنا قطعا ضد حرمان الثقافة (التي تصنع السياسة) من القيم الروحية التي تميز الإنسان عن الوحش . وهذا يتطلب التقديق في مفاهيم مثل العلمية والعلمانية وسلطة رجال الدين …
للمزيد من الإطلاع على قصة غاليلو ننقل عن الويكيبيديا :
{خلال عصر النهضة ظهر كل من عالم الفلك نيكولاس كوبرنيكوس (19 فبراير 1473 – 24 مايو 1543)، والذي كان راهبًا، وقد صاغ نظرية مركزية الشمس وكون الأرض جرماً يدور في فلكها وذلك سنة 1543، وغاليليو غاليلي الكاثوليكي (15 فبراير 1564 – 8 يناير 1642)الذي نشر نظرية كوبرنيكوس ودافع عنها بقوة على أسس فيزيائية، فقام أولاً بإثبات خطأ نظرية أرسطو حول الحركة، التي تم تأسيس الكنيسة عليها وهي نموذج مركز الأرض. عندما بدأ غاليليو إلى التأكيد على أن الأرض في الواقع تدور حول الشمس، وجد نفسه قد طعن في المؤسسة الكنسية في وقت كان فيه التسلسل الهرمي للكنيسة مرتبط مع السلطة الزمنية، وكانت تعيش في صراع وتحدي سياسي متواصل يقابله صعود البروتستانتية. بما أن غاليليو دعم نظرية كوبرنيكوس علنيًا فقد قام خصوم الأخير، والذين كانوا من الداعين لنموذج مركز الأرض المعروف منذ أيام اليونان القدماء، بالهجوم عليه وشكوه إلى البابا محتجين أن ما يدْعوا إليه يخالف تفسيرهم لبعض الآيات في التوراة. رغم أن الفكرة التي أُدين جاليليو بسببها وهي مركزية الشمس كانت قد ظهرت أولاً على يد كوبرنيك واستقبلت بحفاوة في بلاط البابا بولس الثالث سنة 1543، ما يعكس تأثير الوضع السياسي على الكنيسة. بالرغم أن غاليليو لم يكن طرفًا في ذلك النزاع، وكانت قد تركه رجال الكنيسة بسبب صداقته مع البابا أوربان الثامن. فعقدت محاكمة من قبل محاكم التفتيش الرومانية سنة 1632. اتهم غاليليو بالاشتباه بالهرطقة ، وفي اليوم التالي خف الحكم إلى الإقامة الجبرية. وتم منعه من مناقشة تلك الموضوعات، وأعلنت المحكمة بأن كتاباته ممنوعة. منذ ذلك الوقت اعتكف جاليليو جاليلي في بيته وأمضى به بقية حياته.
اعتراف الكنيسة الكاثوليكية بخطئها :
أدت محاكمة جاليليو جاليلي أمام محكمة الفاتيكان إلى مناقشات طويلة عبر التاريخ. في عام 1741 صدر تصريح من البابا بنديكت الرابع عشر بطباعة كل كتب جاليليو. وفي عهد البابا بيوس السابع عام 1822 أصدر تصريح بطباعة كتاب عن النظام الشمسي لكوبرنيكوس وأنه يمثل الواقع الطبيعي.
في عام 1939 قام البابا بيوس الثاني عشر بعد أشهر قليلة من رسامته لمنصب البابوية بوصف جاليليو “أكثر أبطال البحوث شجاعة… لم يخش من العقبات والمخاطر ولا حتى من الموت”
وفي 15 أكتوبر، قام الكاردينال راتزنجر (والذي أصبح لاحقا البابا بندكتيوس السادس عشر) في خطاب لجامعة لا سابينزا بوصف جاليليو “بحالة عرضية التي سمحت لنا ان نرى مدى عمق الشك بالذات في علوم وتكنولوجيا العصر الحديث.
وفي 31 أكتوبر 1992 قدمت الهيئة العلمية بتقريرها إلى البابا يوحنا بولس الثاني، الذي قام على أساسه بإلقاء خطبة، وفيها يقدم اعتذار من الفاتيكان على ما جري لغاليليو غاليلي أثناء محاكمته أمام الفاتيكان عام 1623. وحاول البابا إزالة سوء التفاهم المتبادل بين العلم والكنيسة. وأعاد الفاتيكان في 2 نوفمبر 1992 لغاليليو كرامته براءته رسميًا، وتقرر عمل تمثال له فيها.
وفي مارس 2008 قام الفاتيكان باتمام تصحيح أخطائه تجاه جاليليو بوضع تمثال له داخل جدران الفاتيكان. وفي ديسمبر من العام نفسه اشاد البابا بندكتيوس السادس عشر بمساهماته في علم الفلك أثناء احتفالات الذكرى ال400 لأول تليسكوب لجاليليو} … انتهى اقتباس الويكيبيديا .