د. كمال اللبواني
التاريخ مليء بالحروب ، فمنذ قيام الدول والامبراطوريات كانت القوة العسكرية هي الحاكم الأساس لبقائها أو زوالها ، فالحدود بين الدول عادة محروسة بقوة الجيوش ، وهذه الحروب كثيرا ما تتجاوز نظم وتقاليد الحرب بين الدول وجيوشها ، وتنتقل لممارسة الوحشية ضد المدنيين والشعوب ، وهو ما يسمى بجرائم الحرب والجرائم ضد الانسانية ، والأكثر بشاعة فيها هي الحروب داخل الدولة الواحدة التي يفترض أن يسود فيها السلم ، حيث تتعطل سلطة الحق والقانون التي تقوم عليها فكرة الدولة ، ويسود الإجرام والتوحش بين أبناء الوطن الواحد.
في التاريخ دخل يوشع بن نون بلاد كنعان محرما مدنها وقاتلا كل من فيها ، وبنى الآشوريون والبابليون امبراطورياتهم على حروب الإبادة واقتلاع الشعوب وسبيها واستعبادها ، بينما بنى قورش الذي يدين بدين زرادشت امبراطوريته على عبادة المقدس المشترك ، في حين كان الآراميون يبنون ممالكهم على الشريعة والقانون ، حيث كانوا أول من أسس للشرائع وسلطة القانون ، وقد أخذ عنهم الفرس والإغريق الذين مزجوا قوتهم العسكرية بنظامهم القانوني وفتحوا معظم الشرق الأوسط ، ثم قامت امبراطورية روما على القوة العسكرية المنضبطة ، قبل اعتناقها المسيحية حيث أصبح الدين إلى جانب القوة العسكرية ، في حين بنى المسلمون دولتهم الواسعة الأطراف على أساس الحقوق والشريعة وكانوا من أرحم الفاتحين على مر التاريخ ، وهذا ما سمح ببقاء الشعوب والقوميات والديانات المختلفة تعيش بسلام طيلة التاريخ بحمايتهم ، حتى نهاية الدولة العثمانية التي اعتمدت نفس المبادئ في التعامل مع الشعوب والقوميات . ومع انتصار الحضارة الغربية وغزوها واستعمارها للعالم ، كان الانكليز هم الأقل وحشية وإجراما بين المستعمرين قاطبة ، لكن التنافس بين دول أوروبا على المستعمرات أدخل العالم في حربين عالمتين اتصفت بكل صنوف الوحشية ، من استخدام أسلحة الدمار الشامل وارتكاب جرائم الإبادة كما فعل هتلر لتنقية الشعب الألماني ، وكما فعلت أمريكا لهزيمة اليابان …
وقد حدثت حروب أهلية كثيرة في التاريخ الحديث ، في أوروبا وافريقيا وآسيا كما في الشرق الأوسط ، حيث خاض اللبنانيون حربا أهلية استمرت 15 عاما ، ودخلت الجزائر و العراق والسودان أيضا في صراع داخلي دامي ووحشي ، وأخيرا تحولت ثورات الربيع العربي في بعض الدول لحروب أهلية ، لكن من بينها كلها تظهر حالة الحرب في سوريا كحالة فريدة في فظاعتها ووحشيتها ، ومتفوقة في ونوعية ودرجة بشاعة الجرائم التي ترتكب فيها … وبدل أن يخجل من يسمي نفسه رئيس الدولة كشخص هو بحد ذاته العنصر الأهم في هذه الحرب ، يظهر متباهيا بانتصار وحشيته بمساعدة كل أنواع العصابات والجيوش الأجنبية ، معترفا بقتل وتهجير أكثر من نصف الشعب ، لكن معتبرا ذلك ثمنا لا بد منه لإقامة المجتمع المتجانس الذي نصحته أمه قبل موتها باقامته ، عبر تهجير وقتل كل من يعارضه على طريقة والده في الثمانينات . فبدلا عن تغيير النظام ليناسب الشعب ، يقوم النظام بتغيير وتقصيب الشعب بما يناسبه وعلى مقاسه .
لذلك وبكل المقاييس والأعراف ، فإن انتصار النظام السوري هو عنوان لانتصار الوحشية والاجرام ، وعندما يتجاهل أي سوري ما فعله هذا النظام ومسؤوليته عن معظم الفظائع المرتكبة ، أو عندما تتجاهل الدول والأمم المتحدة ذلك ، يعتبر انتصاره المزعوم هزيمة منكرة للإنسانية والحضارة وقيمها ، وخسارة لسوريا وتاريخها التي ابدعت قيم الحق والعدل وسلطة القانون… ومهما كان العنوان الموضوع للحل السياسي الموعود ، فإن مجرد التفكير بالإبقاء على نظام الأسد وأجهزته ، هو استكمال للجريمة ومنتهى البشاعة والوحشية ، بل نعي للحضارة والانسانية ولسوريا أيضا .
بقاء نظام الإجرام يعني عدم عودة السوريين وزوال سوريا ، ولا يعني كما يدعون الحفاظ على الدولة وأي دولة ، أما عملية المقارنة بوحشية بعض فصائل المعارضة فهي لا تشرعن جرائمه ، بعد أن حوربت بكل الطرق ، لكي يبقى الوحش الوحيد المنتصر بفعل دولي . يمر عبر الأمم المتحدة وديمستورا وغيرهم وغيرهم ممن يقبلون ويفاوضون ويسامون على جريمة يندى لها وجه الانسانية قبل وجه السوريين صاحبي الشأن . لا يمكن ولن يمكن مجرد التفكير بحل سياسي مع بقاء هذا النظام ورموزه وأجهزته ، ولا يقبل أي عذر أو تدليس ، فبقاء سوريا كوطن للسوريين يكون فقط بانتصار العدالة واستبعاد القتلة والمجرمين وليس بالعفو عنهم والابقاء عليهم في السلطة… أي بؤس وغباء يتصف به العالم وصانعي السياسات ، لأن شرط رحيل الأسد بل محاكمته هو المقدمة الأولى لأي أمن وسلام في سوريا وغير ذلك مجرد هراء ، لذلك لا أنصح أي فصيل أو منصة معارضة أن تتورط في برغماتية مهلكة لها ولوطنها وشعبها ، بل يجب التثبت عند هذه النقطة وهذا الشرط في كل الظروف والأحوال ، وكل من لا يقول ذلك يخرج من المعارضة بل يصبح شريكا في جرائم الأسد وعدو للشعب ومسؤول عن دماء الضحايا … وما أكثرهم وما أعزهم وما أنبلهم .