يثب

ماذا يجري في المملكة العربية السعودية ؟

د. كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

يمكن تشبيه ما يجري في المملكة العربية على يد الأمير محمد بن سلمان ولي العهد بالبيروسترويكا ( إعادة البناء ) التي حدثت في الاتحاد السوفييتي السابق على يد غورباتشوف في آخر ثمانينات القرن الماضي، فكلا الدولتين قد عانت طويلا من الانسداد السياسي وتراكمت فيها رغبة وقوى التغيير ونمت خارج وداخل مؤسسات النظام حتى وصلت إلى قمة السلطة، فعملية الإصلاح من فوق التي تجري (رغم ولع البعض في تسميتها مغامرة شخصية أو مؤامرة خارجية) ليست منقطعة عن الاحتياجات العميقة للمجتمع والدولة، التي تحتم حصول التغيير، فالأفضل والأسهل والأسلم هو الاستجابة لها من قبل قمة هرم السلطة ، والمباشرة فيها من فوق لتجنب حصولها من تحت بقوى عشوائية، بالطريقة التي اعتمدها الربيع العربي والتي انتهت في غالب الأحيان لفشل تلك الدول، بالنظر لغياب مؤسسات المجتمع المدني وقدرة المجتمع على انضاج آليات استقراره السياسي على أسس جديدة.

تأسست المملكة العربية السعودية  على يد الملك عبد العزيز الذي قاد حربا لإخضاع القبائل تباعا في نجد، وقد استطاع إجراء مصالحات معها بعد اخضاعها بالقوة عندما وجه قوتها لاخضاع الحجاز وتوسيع المملكة في أصقاع واسعة جدا من شبه الجزيرة العربية، حيث لم تقف في وجه طموحاته التوحيدية سوى اليمن، وبقية أمارات الخليج المستعمرة من قبل بريطانيا، وهكذا أصبح التوافق القبلي والحكم العائلي هو أساس تكوين سلطة الدولة السياسية الوليدة، المدعومة من قبل الولايات المتحدة التي أرادت الهيمنة من خلالها على عمليات استخراج النفط، وحجزت حصتها منها ضمن سياق التنافس الاستعماري على هذه المادة الحيوية للتقدم الحضاري.

ثم استطاع الملك فيصل أن يعزز بناء الدولة الحديثة ويطور مؤسساتها، وأن يبني البنية التحتية اللازمة لاستقرارها بمزيج من الحكمة والقوة ومركزة السلطة، وأن يباشر في تحديث المجتمع ويهيئ لنشوء نمط من العيش الحضاري ترافق مع نهضة عمرانية كبيرة مستفيدة من التطور الواسع والكبير في عمليات انتاج النفط . لكن هذا الحلف اهتز بشدة عندما ارتفعت أسعار وعائدات النفط خاصة بعد حرب 1973.  ارتفاع حدة التنافس بين القبائل المتنازعة تاريخيا على السيادة والخيرات، والتي وصلت ذروتها في 20 نوفمبر  1979 ( حادث الحرم ) مما حدا بالملك خالد لإشراك المؤسسة الدينية الوهابية في السلطة، باعتبارها رابطة توحيدية قوية التأثير قادرة على تجاوز الانقسام القبلي، وعلى تأمين الاستقرار السياسي المطلوب، الذي جرى تدعيمه بدرجة عالية من الرخاء الاقتصادي، تزامن مع تخفيف وطأة القمع الذي ساد مرحلة فيصل ، مما أدخل البلاد في مرحلة استرخاء، هيأت لبروز مراكز قوى سياسية واقتصادية عديدة، وسمحت بتسلل الإهمال والفساد وضعف المركزية، وتابع الملك فهد بعدها هذا النهج الذي تضخمت في زمنه عملية تمركز الثروات، ونشأت طبقة تتمتع بثراء هائل تسيطر على معظم مصادر الدخل، وتحول بقية المواطنين لمستخدمين عندها .

في حين ازدهرت المؤسسة الدينية الوهابية كثيرا ، وحاولت الانتشار في كل العالم الإسلامي مستفيدة من الصلاحيات الواسعة ومن التحكم بموارد مالية ضخمة، عبر تسييس الدعم الذي يقدم للشعوب الفقيرة والمساعدات المقدمة للدول الشقيقة.

ومع تتالي حكم ملوك كبار في السن ومرضى صحيا ، تداعت مركزية القرار وتقاسمت حكم المملكة مراكز قوى  قبلية وسياسية واقتصادية متعددة ، وصار نظام الحكم يعاني أكثر وأكثر من التردد والتشوش و الترهل والضعف الإداري والفساد الاقتصادي والمالي ، الذي ازداد ضرره وتفاقم تأثيره  مع تراجع أسعار النفط المضطرد منذ حرب العراق ،والذي ترافق مع تزايد هائل في عدد السكان، وأدى لتكون طبقة واسعة من الفقراء نسبيا الذين يشعرون بأنهم محرومين من الرفاهية التي يتمتع بها القلة، وهذا ما أدى لتزايد شعبية الآيديولوجيا الدينية المتشددة التي ترى أن سبب هذه الأزمة هو تهاون الأسرة الحاكمة في اتباع تعاليم الدين الحنيف وتطبيق الشريعة ، وصارت تكفر ليس فقط السلطة بل أيضا المجتمع الذي بدأ سرا بتبني نمط الحياة العصري المختلف شكلا عن نمط الحياة الاسلامي التقليدي الموروث.

اجتماعيا، أتاح العيش في المدن الحديثة والتمتع بميزات الحضارة لتراجع دور التنظيم القبلي، وأصبحت العادات القبيلية مجرد فولوكلور شكلي يخفي تحته نمط حياة مختلف جذريا، بل متناقض معه في كل شيء. نمط الحياة الحديث الذي عاشته أجيال جديدة في المملكة فقد أصبح يتناقض أكثر وأكثر مع النظم الاجتماعية والقيمية والسياسية التقليدية، وصار معظم الشباب يعيشون نمطين متناقضين من الحياة والقيم والثقافة واحدة في الشارع وأخرى في البيت، واحدة في المملكة وأخرى خارجها ، خاصة المرأة التي فتحت أمامها أبواب التعليم وشبكات التواصل … كل ذلك جعل المملكة ذات الموارد والإمكانات الهائلة ضعيفة سياسيا وإداريا لدرجة أن يعتدى عليها من قبل منظمات إرهابية صغيرة، ناهيك عن التخطيط الإيراني لتدميرها. ومهددة وجوديا باحتمال حدوث فوضى وصراعات اجتماعية وسياسية كبرى. بسبب تراكم التناقضات والأزمات البنيوية الاقتصادية والثقافية والسياسية والاجتماعية ، والتي كان لا بد من توقع انفجارها بشكل عفوي وفوضوي في حال لم يتم الاستجابة لها من قبل النظام الحاكم…

وهكذا وتحت تأثير كل هذه الضغوط والتهديدات الخارجية والداخلية وجد الأمير محمد نفسه معنيا بشكل شخصي بقيادة عملية تغيير كبيرة وجدية وجريئة لدرجة المغامرة، تتناقض مع مصالح معظم الأسرة الحاكمة ومراكز القوى والمؤسسات الدينية، والتي يتطلبت خوضها أن يمسك شخصيا بكل مفاصل السلطة،  ويحيد مراكز القوى المختلفة التي تدافع عن وجودها برفض أي تغيير شكلا ومضمونا …

صحيح أنه يمكن وصف ما يجري كعملية مركزة للسلطة بيد شخص ولي العهد (الملك القادم)، وصحيح أيضا أن الكثير من الإجراءات قاسية لدرجة يمكن وصفها بالقمعية، وأن الخطوات المتخذة غير مضمونة النتائج وتحمل صفة التهور ، وأن شخصه يفتقر للخبرة والحنكة السياسية التقليدية في المملكة. لكن ما هو صحيح أيضا أن الأمير بهذه الصفات فقط يتجرأ على خوض عملية انقاذ ثورية جريئة وحاسمة للملكة ، تنقذها من تفجر أزماتها الداخلية والتهديدات الخارجية، وأن البديل عن ثورته المغامرة تلك يرجح أن يكون تفكك المملكة وتعرضها للغزو . وصحيح أيضا أنه حان الوقت لوضع حد للترهل الإداري ، وللفساد المستشري الذي لا يمكن إصلاحه إلا من فوق لتحت.

العنصر الحاسم  بين هذا التقييم أو ذاك في هذا التحول الواعد والخطير، هو موقف المجتمع ودوره . أي بشكل خاص عدم لجوء المجتمع التقليدي ومراكز القوى المعزولة للعنف، وانخراط الأجيال الجديدة في دعم وتحصين هذا النهج الجديد… إضافة لتوفر الدعم الأمريكي والغربي والعربي …

نعم لقد دخلت المملكة في مرحلة حاسمة وخطيرة، لا رجعة فيها …  والسؤال المطروح اليوم هو : هل سينجح الأمير محمد في عمليته الجراحية ، أم تفشل هذه المملكة التي أسسها جده في البقاء …

  • ولكي يصبح إصلاح  الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز ناجحاً وراسخاً في المملكة السعودية لابد أن يترافق تنصيبه ملكا مع الإعلان عن مرحلة سياسية انتقالية نحو الملكية الدستورية مدتها ثلاث سنوات تتبنى الإجراءات التالية:
  • إطلاق عملية صياغة دستور جديد عصري للمملكة يحولها لملكية دستورية بديل عن النظام القبلي الديني السائد. ليجري الاستفتاء عليه .
  • تمثيل الشعب بغرفتين ( مجلس شيوخ -معين توافقيا في البداية- تتمثل فيه المكونات الأهلية ، ثم منتخب ، ليشرف على عمل الوزارات السيادية الدفاع والخارجية والعدل والاقتصاد )، (ومجلس نواب يتكون بنتيجة الاقتراع النسبي بحسب برامج الأحزاب المرفقة بقوائم، لتجنب تأثير الانقسام القبلي على الحياة السياسية المدنية ،و ليشرف هذا المجلس على بقية الوزارات الخدمية )
  • فتح باب تشكيل الأحزاب السياسية البرامجية، والتحضير لدخولها في عملية انتخابية عندما تنضج تكوينيا.
  • انهاء دور هيئة الأمر بالمعروف، وتقييد دور المؤسسة الدينية المباشر في السياسة تدريجيا.
  • توسيع هامش الحريات والحقوق الفردية الليبرالية.
  • بناء مؤسسة أمن ومعلومات وطنية احترافية ، ومؤسسة رقابة وتفتيش موازية ترتبطان مباشرة بالديوان الملكي .
  • اعادة بناء بقية المؤسسات الأمنية والسياسية وتفعيل الإدارات تبعا للكفاءة وليس للمحاصصة.
  • اعادة بناء المؤسسات والنظم الاقتصادية بشكل حديث ينهي البنية الاحتكارية الحالية. وتحويل الاقتصاد تدريجيا من اقتصاد استهلاكي يعتمد على موارد النفط، لاقتصاد انتاجي يعتمد على توظيف قوة العمل.
  • وضع استراتيجية تحالفات اقليمية وعربية جديدة تضمن توفر الخيمة السياسية والأمنية للملكة في هذه المرحلة الحرجة .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.