د.كمال اللبواني
الدكتور كمال اللبواني
صحيح أن زهور الربيع العربي قد أصابها الصقيع، وأن هذا الربيع قد فشل حتى الآن في إنتاج ثمرته السياسية، وصحيح أنه جعل دوله تمرّ بمرحلة من التخبّط والفشل، وهناك من يستطيع القول أن الربيع العربي قد خسر سياسياً وعسكرياً وأنه لم يحقق إلا شيء واحد هو الفوضى، لكن هذا الشيء الوحيد الذي حققه هو في الحقيقة كسر للحلقة المعيبة للخنوع والاستبداد والفساد التي حكمت الواقع السياسي العربي منذ قرون والتي كانت وراء استدامة وتجديد دولة القهر والسجن المحروسة من قوة الاحتلال أو من جيش وطني يلعب ذات الدور، ببساطة استطاع الربيع العربي تحطيم دولة السجن، التي حكمت هذه الشعوب لقرون طويلة، دولة التعسف والقهر والحكم المطلق الماجن المجنون، التي تعيش على الترهيب والتجهيل وتحطيم العقل وتشويه الدين.
ماذا حقق الربيع العربي ؟
بفعل الربيع العربي ولدت فكرة الحرية من حطام جدران الدول والسجون، كما ولد العقل من رحم الجهل والمنع والخوف، وانطلق باحثاً عن الحقائق التي منع طويلاً من التفكير بها وما أكثرها ، وطبيعي جدا أن يعود الشعب المندفع خارج تلك الأسوار المتداعية للتراث المجيد ليبحث فيه عن عناصر تقدمه التي فقدها، فوظف وبشكل مبكّر قيم وأفكار الدين المدونة بالتراث والمنقولة اليه في الفقه الرسمي، كحل جاهز سريع يمكن الاجتماع عليه دون جدال، لكنه اصطدم بحقيقة مرة جديدة، هي أن التاريخ لا يتكرر، وأن ما نقل اليه من فقه وتراث سياسي ديني قد تعرض للتشويه كثيراً، خلال قرون من الجهل والقهر وحكم المتغلب، انطبعت كتشوه في الموروث الفقهي الذي دوّنه فقهاء السلاطين لتكريس عروشهم، والنتيجة أن الشعب فقد ثقته بكل ما لديه وبنفسه أيضاً، وبدأ عملية بحث ومراجعة تطال كل شيء من مفاهيم وقيم وديانة وعلاقات ومجتمع .
ماذا حقق الربيع العربي ؟
يخوض الوعي العربي الآن معمة التفكير والمراجعة والنقد الذاتي التي بدأت بالشك والحيرة بحسب كوجيتو ديكارت: ( أنا أشك إذاّ أنا أفكر ، أنا أفكر إذاّ أنا موجود ) انتقلت الشعوب العربية من مرحلة التجمّد الفكري والسياسي لمرحلة الحياة والوجود والتغيّر، صحيح أن ثورات هذا الربيع قد حدثت في الجمهوريات التي شوهت بنية الاقتصاد والمجتمع باسم الحداثة وعلى حساب تدمير المجتمع التقليدي دون بناء مجتمع مدني حضاري، وصحيح أن هؤلاء الذين تشوّهت بناهم وثقافتهم وقيمهم هم من كان الحاضنة الاجتماعية للثورة ووقودها، وأن تشوهاتهم التي أحدثها نظام القهر حكمت تصرفاتهم بعد الثورة وعطلت نجاحهم، لكنهم مع ذلك انتقلوا من مجتمع يتعيّش على الفساد والمحسوبيات والتزلف والفوضى كشرط ملزم للتكيف مع سلطة القهر، إلى مجتمع يدفع ثمنها باهظا لذلك، لم تعد تلك الثقافة شرط التكيف الدوني والبقاء، بل صارت عنصر الضرر، وبالتالي فقدت شروط إعادة إنتاجها، أي لم تعد تلك القيم تخدم مصالح الأفراد كما كانت وتلطّف معاناتهم بل صارت هي سببها وصار الشعب بحاجة لمحاربتها، أي صار مجبراً على تغيير ثقافته وقيمه، ليس فقط لسلوك وأشخاص كل من تسلم دوراً في الثورات، بل مراجعة شاملة لمنظومة القيم التي زرعها النظام وبقيت بعد التحرر منه، ولمجمل الموروث الفقهي الذي دون في مرحلة حكم المتغلب، بما فيها العقل الإسلامي الدوغمائي الذي كان النظام يستثمره في ضبط العشوائيات، وصار هو الفكر المنتج لمنظمات التطرف والإرهاب.
وصحيح أيضا أن هذا الربيع قد تجنّب حتى الآن الدول الملكية السلطانية التي حافظت على النمط التقليدي للنظام السياسي بالتعاون مع المجتمع التقليدي وبالثقافة التي كان عليها تاريخياً، لكن هذه الدول هي أيضاً ليست مستقرة بالنظر لتحديات العولمة وانتشار عادات الاستهلاك الحديثة ناهيك عن القيم والأفكار، ومن ضمنها بكل تأكيد ما سينتجه عقل الربيع العربي، والذي بدأ يدك الجمود الفكري والسياسي في تلك الدول التي تحاول حكوماتها جاهدة تخويف شعوبها من خطر امتداد الربيع وكارثية محاولة التمرد عليها، عبر المساهمة في إطالة وتعميق أزمات الدول الشقيقة التي دخلت في الربيع، فالثقافة عنصر يمكن تناقله بين الشعوب خاصة اذا كانت ذات هوية ولغة ودين وتاريخ واحد ( التثاقف) .
الربيع العربي حطّم دولة السجن، وبدأ بتفكيك ثقافة الاستبداد والفساد في عموم الشرق الأوسط الكبير، وسوف ينتشر حتى للدول التي لم يمر بها هذا الربيع، فيتوجب على حكوماتها أن تدرك سريعاً أن التغيير مطلوب ولا بد منه، وبالتالي عليها أن تبدي ما يكفي من المرونة لتجنب التحول للفوضى ولدول فاشلة كأخواتها من الجمهوريات العربية التي تجاهلت بعناد وغباء كل طلبات ومتطلبات الإصلاح، الربيع العربي كما يبدو هو ربيع طويل، لكنه عميق وهادر، سينتظر قدوم صيف حار بعده ليتمكن من انتاج ثمرته اللذيذة، وقبل مرور ذلك الصيف لن نعرف طعم ثماره ولا يجوز أن نحكم عليه.
مرتبط