الدكتور كمال اللبواني
بخلاف الربيع العربي الذي اجتاح تونس ومصر وليبيا واليمن والسودان والجزائر ، والمرشح للامتداد نحو الأردن ودول الممالك العربية (والذي يتآمر عليه الغرب والصهيونية لافشاله واستعادة الحكم الاستبدادي الفاسد) … فإن الصهيونية العالمية تستغل ذلك الربيع لافتعال ربيع ذو نكهة صهيونية في دول الممانعة والمقاومة ، لضربها داخليا في الصميم وتدميرها ، خدمة لمشروعها الرامي للهيمنة على المنطقة،
لقد حركت الصهيونية العالمية فئات من الشعب السوري وسلحتهم بهدف الإطاحة بالنظام المقاوم في دمشق مستغلة مناخ الربيع العربي ، مما تطلب تدخلا سريعا من محور المقاومة لسد هذه الثغرة ، وافشال المخطط الرامي لضربها في عقر دارها بقوى محلية ، وهكذا وبعد أن فشلت الصهيونية وعملائها في اسقاط النظام السوري بفعل تدخل فاعل من ايران وحزب الله ، وبعد أن عجزت اسرائيل عن اضعاف المقاومة لجأت اليوم وبشكل خبيث لاشعال ربيعها الصهيوني في العراق ولبنان أيضا ، لضرب قدرات المقاومة في مواجهة العدوان (الصهيوني الغربي) المستمر على المنطقة ، طامحة لنقل ذلك الربيع لداخل ايران ذاتها التي تقود مشروع المقاومة الإسلامية في وجه الشيطان الأكبر ، بعد أن أدركت عجزها عن هزيمتها عسكريا.
بماذا نفسر إذا هذا التوقيت المتزامن لثورات لبنان والعراق والأحواز مع الحصار الأمريكي والهجمة الصهيونية الشرسة على ايران ؟ ولماذا يصبح سلاح ونظام المقاومة هو الهدف الحقيقي لهذه الثورات ؟
الربيع الصهيوني يستغل مطلب الحرية لخدمة التيارات الاستسلامية والتطبيعية مع العدو الصهيوني ، ويستغل مطلب الديموقراطية للتشويش على التزام هذه الدول بمعايير المقاومة ومتطلباتها وأولوياتها ، ويستغل مطلب محاربة الفساد لتجفيف تمويل منظمات ومليشيات الممانعة ، ومطلب العلمانية لإلغاء مشروع المقاومة الإسلامية وتمييع جبهة الصمود في وجه الغرب الصهيو-صليبي الذي يسعى لتقويض الإسلام . هذا الربيع الذي يسمى ثورات هو في الواقع مؤامرة تسعى لضرب الممانعة وجوديا وتقويضها ، و تدمير النظم السياسية الحارسة لها ، بهدف تسهيل تفكيكها وسحب سلاحها وفرض حالة من الاستسلام والإذعان للعدو الخارجي المتربص بالمنطقة كلها.
في هذه الحال هل يجب أن يستسلم محور المقاومة ويسلم هكذا من دون حرب ، أمام تظاهرات غوغائية تحركها أذرع خفية ، أما يستمر في المقاومة والممانعة في كل الجبهات الداخلية والخارجية ؟ ويقف حجر عثرة أمام هذا الربيع ذو النكهة الصهيونية ؟
عندما تخدم ثورات الربيع في لبنان وسورية والعراق أهداف الكيان الصهيوني وتتلقى الدعم المنظور والمستور منه ، وتسعى فعليا لتدمير محور المقاومة الذي بنى تحالفاته السياسية والاقتصادية ليعزز وجوده في المنطقة ، بماذا تسمى هذه الثورات ؟ هل هناك من يناقش في أنها ربيعا صهيونيا !!!
هذا المنطق، الذي يستخدمه محور المقاومة في المنطقة ، مبني على فكرة أساسية : أن الشر متمركز ومتمحور ومختزل في وجود الكيان الصهيوني ، وأن التصنيف على محور الخير والشر يعتمد أساسا على الموقف منه ، بحيث تصبح المقاومة هي محور الخير وعنوانه ، ويبرر به استخدام العنف للدفاع عن المقاومة كائنا من كان عدوها ؟
لكن ذلك المنطق لا يجيب على أسئلة كثيرة تطرح نفسها :
كيف أصبح الفساد والاستبداد أدوات للمقاومة (بعد أن كانت من أدوات الغرب في استعباد الشعوب) ؟ وكيف يمكن اعتبار الفساد والاستبداد عناصر قوة لمواجهة العدو الخارجي المفترض ؟ هل حدث هذا بسبب عجز الشعوب عن انتاج نظم غير استبدادية وفاسدة ؟ أي بسبب العجز المطلق عن تجاوز حالة التخلف والضعف والهزيمة ؟ أم بسبب استخدام شعار المقاومة لتبرير وتكريس نظم الفساد والاستبداد ؟ وهنا هل يمكن اعتبار مشروع المقاومة خادما للهيمنة الاستعمارية الخارجية بعكس كل أيديولوجيته طالما هو يخدم بقاء الفساد والاستبداد والتخلف ؟ أم أن الفساد والاستبداد والتخلف ليس عدوا طالما وجدت اسرائيل ؟
هل المقاومة هي حليف وأداة للصهيونية ؟ ولماذا تستهدفها بالضربات الجوية وبالحصار الاقتصادي ثم تدعم الثورات ضدها ؟ كيف أصبحت الحرية والديموقراطية أدوات للمشروع الصهيوني ( بعد أن كانت اسرائيل متهمة في دعم الاستبداد والفساد والطائفية ) ؟ هل اسرائيل مجنونة ؟ هل هي في مرحلة التأسيس تختلف عنها في مرحلة الاستقرار ؟ هل تغيرت اسرائيل أم أن تصوراتنا عنها مغلوطة ؟ هل يوجد حليف دائم وعدو دائم في السياسة أم هي من المتغيرات ؟ … هل تمكن معاداة المقاومة من دون أن تعتبر خدمة لإسرائيل ؟
كيف أصبح السلام مع العدو الخارجي الذي يحمل معنى الاستسلام هو الوسيلة الوحيدة المتاحة لتحقيق الحرية والعدالة وحكم القانون ؟
كيف تلاقت وتطابقت متطلبات الشعوب مع متطلبات العدو الخارجي ؟ هل هذا يجعل منه صديق وحليف ولو مرحليا؟ هل سيكون التخلي عن المقاومة بوابة للسلام تسمح بنهوض المنطقة واستقرارها ، بعد الغاء جيوش وأجهزة ومنظمات لم تستخدم إلا في قمع شعوبها ؟
أسئلة كثيرة وصعبة تطرحها الأحداث السياسية الراهنة في الشرق الأوسط المشتعل ، لا يجيب عليها سوى مفاهيم المنطق الديالكتيكي التي تحكم ديناميكية تغير التشكيلات الاجتماعية السياسية باعتبارها حالة استقرار نسبي قائمة على تكوين ضدي بنيويا ، تتحد فيه الأضداد وتتصارع وتنفي بعضها ، وتنتقل من حالة لحالة جديدة محكومة بالنفي أيضا .
المشكلة كما يبدو فلسفيا تكمن في العقل الدوغمائي الذي يتثبت عند نمط ضدي معين ، ولا يستطيع ادراك ظاهرة الوجود الاجتماعي السياسي بديالكتيكيتها … أي أنه فقط عندما نتخلى عن هذا العقل الدوغمائي قد نفهم الأحداث والمتغيرات ونتفاعل معها بإيجابية ، لنرسم مسار التقدم والإزدهار المتعرج حتما ، من دون التسمّر عند ثوابت وأصنام فكرية وآيديولوجية وسياسية مضللة ، و نرتب أولوياتنا وتحالفاتنا وفقا لمصالحنا وليس وفقا لأنماط آيديولوجية جاهزة تفرض علينا …
عندها قد نفهم الربيع العربي كربيع واحد متشابه في كل الدول العربية ، ينقل العرب من واقع بائس لواقع مختلف ، يحدث قطيعة مع قرون من التخلف والجهل والاستبداد القائمة على الدوغمائية … بتبني نمط عقلي مختلف يرى الأمور والأحداث والوقائع بطريقة واقعية مختلفة ، ويرسم طرق مختلفة للتعامل معها ، حتى لو كانت هذه الطرق تمر بعملية السلام والتطبيع مع اسرائيل وتقويض محور مقاومتها … لأن اسرائيل ليست سبب كل مشاكلنا كما يدعي محور المقاومة ، بل إن أغلب مشاكلنا اليوم هي بسبب طريقتنا في مقاومتها ( أقصد نظم الفساد والاستبداد والإجرام ) … التي لا مستقبل لنا من دون اسقاطها كلها .