د.كمال اللبواني
الغريب والملفت للنظر أنّ معظم الدول تتنافس وتتسابق على ضمان حصّتها من إعادة الإعمار في سورية، والمنطقي أن تتهرّب الدول المانحة من هذه المسؤوليّة الباهظة التي ستكلّف ما يفوق نصف تريليون دولار من دون حساب التضخّم الطارئ الجديد الذي قد يضاعف هذا المبلغ.
مبالغ ضخمة ستقدّم لدولة مدمرة وشعب منكوب يحتاج لعقود لكي يرمّم جراحه ويبني بلده، فما هذا الكرم المفاجئ الذي تبديه هذه الدول تجاه سورية (مع أنّها كدول تعاني أصلاً من أزمات وعجز وديون هائلة)؟، سؤال محير فعلاً، لكن هذه الحيرة تزول تماماً عندما ندرك أنّ موضوع إعادة الإعمار هذا، هو مجرد عنوان وشعار يخفي مضمونه الحقيقي، الذي يعني وضع اليد على ثروات سورية وقدراتها، واستعمارها اقتصادياً لفترة زمنية طويلة جداً.
فالهدف هو ربط اقتصادها الجديد مصيرياً بالتروستات المالية الكبرى، وتحويل شعبها لمجرد عمال في وطنهم الذي لا يملكونه فعلياً، وبالتالي نقل الاستعمار من شكله السياسي العسكري القمعي (الاحتلال ونظم الاستبداد)، لشكله الاقتصادي الديموقراطي الناعم المحكوم بالبيروقراط الليبرالي. فلا أحد يلغي إرادة الشعب بالقمع، بل تترك له الحرية في أن يختار، لكن ضمن إمكانيّات هم حدّدوها له.
ذات الدول التي ساهمت في إطالة أمد الحرب، ومنعت الثورة من إسقاط النظام، وعملت على تعميق الضرر والخراب الذي طال كل شيء، بدءاً بالسماح لبشار باستخدام كل آلة القتل والدمار ضد شعبه، ومروراً بالسماح لإيران ومليشياتها ثم جيوش الدول العظمى بذرائع مختلفة، منه الإرهاب، نهاية بمشاريع إخراج إيران. كل هذا الإصرار على التدمير الشامل، يقابله اليوم إصرار على إعادة الإعمار الجذري، وذات الدول التي تغاضت عن سلوك النظام الذي أطلق ورشة التدمير المركزي لتدمير كل الوطن، وعن استعانته بدول وجيوش تسانده، وتركت له المجال ليطيل أمد هذه الورشة لما يقارب العشر سنوات على مرأى ومسمع المجتمع الدولي وبتدليس من الأمم المتّحدة ذاتها التي لعبت على تضييع الوقت وتغطية هذه السياسة، وبعد أن أنجز مهمّته التدميرية كاملة، يجري الحديث عن استبداله بنظام تكنوقراطي لا منتمٍ، مرتبط بمصالح سياسية وأمنية أجنبية، يقوم النظام الجديد بإنهاء الصراع بقدرة قادر ويسمح بعودة الشعب بشروط اقتصادية وسياسية، كفيلة بتحوله لمجرد عمال لا هويّة لهم سوى جوعهم، ليباشر بإطلاق ورشة إعادة البناء بسواعدهم وبتمويل سخي من مراكز مالية كبرى، بعد تأمين الاستقرار الأمني اللازم وتسليم السلطة لهيئات تكنواقراطية اقتصادية ليبرالية جديدة تقوم بالتعاون مع مؤسسات مالية عالمية كبرى في أعادة بناء الوطن والاقتصاد وفق المخطط المرسوم لها، والتي تتحتضّر لتنفيذه منذ فترة بقيادة فريق من الاقتصاديين (المحفليين المرتبطين سياسياً وتمويلياً بالخارج) والذين حافظوا على موقف متفرج طيلة عهد التدمير، وعلى رأسهم، د. عبد الله الدردري، المدعوم من تجار واقتصاديين سوريين ليس لهم انتماء ولا ولاء ولا هوية إلا ثرواتهم، وليس لهم معبود سوى أرقام الحسابات البنكية، من أمثال الشلاح وحمشو والكزبري، ولفيف واسع من تجار دمشق وحلب وحمص و…، الذين تنسق بينهم روابطهم المحفلية السابقة التي لم تنقطع عن علاقاتها الخارجية مع كبرى التروستات المالية المتحكمة بمعظم دول العالم. ما نشهده اليوم هو إزاحة متغوّلين جدد نشؤوا في حضن نظام التشبيح، وضربهم ببعضهم وإفلاسهم، تمهيداً لعودة شركائهم الخجولين الذين استفادوا من تلك المرحلة التدميرية من دون أن يطفو على السطح سياسيا ومالياً، واستمروا في تحضير أنفسهم لقيادة المرحلة الجديدة كاقتصاديين وطنيين، ليصبحوا حصان طروادة الذي سيسلم رقبة الاقتصاد الوطني والدولة السورية كلها للتروستات الكبرى التي يستندون إليها ويعملون لخدمتها، والتي تخطط لإيصال فريق تكنوقراطي مرتبط بها، يفتح بوابة الارتهان للخارج بمنظومة قانونية اقتصادية جديدة تحت عنوان سياسات إعادة الإعمار التي ستظهر على شكل مشاريع مغرية جداً، وبتكاليف باهظة جداً، لا تسدد كديون ميسرة، بل كعبودية دائمة وتمليك رقبة الشعب لحيتان المال الخارجي التي سيبتلع كل شيء، وتحوّل المواطن إلى مجرد نملة عاملة لا تمتلك من أمرها شيئاً، وتنحصر حريتها في أن تكون نملة تعمل لتبقى على قيد الحياة.
إنّ معركة الحرية والاستقلال والكرامة لن تنتهي قريباً، وعلى الشعب الثائر من أجلها الانتباه والتحضّر لخوض حرب ومعركة جديدة عنوانها إعادة البناء، التي لن تقلّ ضراوة عن المعركة ضد النظام.
وعليه يجب الانتباه للنقاط التالية:
- عدم القبول بأي حلّ سياسي لا يضمن عودة المعارضة السياسية، ولعبها دوراً سياسياً في المرحلة الانتقالية، ولجم أي سلطة انتقالية عن وضع سياسات إعادة الإعمار، من دون رقابة وموافقة الشعب. فهم سيستغلّون الحاجات الملحة لتمرير سياسات خطيرة ذات أثر بعيد، وعلينا أن نلجم إلحاحنا ونتحلّى بالصبر، وهذا يتطلّب تنظيماً وتواصلاً وتنسيقاً سياسياً شعبياً واسعاً.
- من أجل النجاح في ذلك لا بدّ من تنظيم قدرات الشعب وقواه سياسياً، وبشكل خاص الفقراء والعمال والفلاحين والطبقات الوسطى للتأثير على السياسات الاقتصادية المقترحة للمرحلة الانتقالية.
- ولتدعيم ذلك يجب فتح باب التفتيش والتحقيق بكل الثروات التي تشكلت في سورية، والتحقق من شرعيتها، ونظافتها، قبل السماح لها بالنشاط، ومصادرة وحجز كل ثروة غير نظيفة وغير شرعية، وعدم تمرير أي قرار بالعفو يشمل الثروات والجرائم الاقتصادية.
- لجم خطط إعادة الاعمار التي ترهن الاقتصاد للخارج، والاعتماد على القدرات الوطنية، ولو تطلب الأمر خططاً وصبراً وجهداً طويل الأجل، وعدم الانجرار وراء الحلول السريعة التي تعطي نتائج سريعة، لكنها مضرّة على المدى البعيد. وبشكل خاص عدم السماح ببيع القطاع العام وملكيات الدولة، وعدم السماح بتملك الأجانب للعقارات أو بنسبة أكبر من 49% من أسهم أي شركة.
- عدم السماح باستخدام حالة الاهتراء والعوز التي يعاني منها الشعب لتمرير سياسات الاستدانة التي تنتهي بتحويل حالة العوز الحاد لحالة دائمة من الاستغلال. والانتباه لكل العقود المبرمة ولنتائجها البعيدة بالاعتماد على خبراء اقتصاديين يساريين، ينتمون أيديولوجياً لطبقات الشعب الفقيرة، وليس للتروستات العالمية.
- إلزام الحكومة الانتقالية بمحاسبة كل الفاسدين والمستغلين وتقديم ضمانات اجتماعية مجزية ضدّ الفقر والعوز والبطالة وفرض ضرائب كافية لتغطية سياسات اجتماعية فعالة.
- عدم السير سياسياً وراء برامج ليبرالية اقتصادية ترفع شعارات رنانة عن الحرية والاستثمار والاقتصاد المفتوح، بل تشكيل جبهة يسارية متماسكة تتمسك بإلزام الدولة بتقديم خدمات اجتماعية وضمانات مجزية لكل مواطن، وتلزم الاقتصاد على أن يكون هدفه هو تلبية الحاجات وليس تنمية رأس المال، وتضع قيودا صارمة على المظاهر الربوية التي تضخم الاقتصاد الفقاعي على حساب الاقتصاد الإنتاجي.
- الانتباه، لأنّ معظم أموال الفساد والإجرام التي هرّبت للخارج وتقدّر بمئات المليارات من الدولارات، ستعود للداخل على شكل استثمارات أجنبية وبأسماء جديدة، أي أنّ مخلوف وأسماء الأخرس وغيرهم ممن شغّلوا مملوك والدردري كمستخدمين عندهم، سوف يخرجون من الباب ويعودون من الشباك لاستعباد واستغلال الشعب بعد أن سرقوه وقتلوه.