حطمت الثورة العديد من الأغلال والجدران المصطنعة التي كانت تقيد السوريين بفعل النظام السياسي في البلاد، إضافة للكثير من العادات والتقاليد البالية التي كانت تحكم المجتمع وفق قوانين غير منصفة غالب الأحيان، خاصة تلك المؤثرة في كبح النجاحات وتحجيم الإمكانيات وقتل أحلام السوريين وإجبارهم على الدوران ضمن حلقات مفرغة بحثًا عن الخبز والمسكن وتأمين أدنى مقومات الحياة، وتحييد أي تأثير لهم في المجتمع أو الدولة.
لكن رغم مآسي التهجير والهجرة غير الطوعية، إلا أن اجتياز السوريين للحدود نحو دول الجوار وصولًا إلى أوروبا وأماكن أخرى، ساعد فئات كبيرة من المجتمع على خلق مفاهيم جديدة للحياة، بعد معايشتهم لتجارب مختلفة تماما عن واقعهم السابق، من خلال تعاملهم مع دول وحكومات لها قوانين وخدمات سارية فعلًا على أرض الواقع، بخلاف الفساد والمحسوبيات وقمع الحريات الذي حُكمت فيه سوريا إبان حكم الأسد الأب والوريث.
فالحياة السياسية في سوريا، وفق الدكتور أحمد الهواس، منعدمة منذ انقلاب 1963 وبعدها فرض حالة الطوارئ في البلاد، ومنذ ذلك التاريخ دخلت سوريا ما بات يعرف بالتصحّر السياسي، فلا أحزاب تعمل على الأرض، ولا تنافس من خلال الصندوق ولا صحف حرة، ولا حرية رأي، وهي بذرة سيئة جلبها قبل ذلك نظام الوحدة ثم أنتجت ونمت في عهد حكم حزب البعث ثم توحشت في عهد حافظ وابنه بشار الأسد.
ويقول الهواس لـ «القدس العربي» وهو كاتب وإعلامي سوري: «في الثمانينيات وعقب السيطرة الكاملة على النقابات في سوريا، أصبح رأس النظام، هو الزعيم الأوحد والقاضي الأول والسياسي الأول والرياضي الأول.
كل ذلك نتج عنه ابتلاع النظام الحاكم للدولة السورية ونظام الحكم فيها، فقام بدمج السلطات ببعضها البعض، وانتهى تأثير مجلس الشعب، مما أدى إلى غياب الشعب السوري كليا عن المشهد في البلاد».
كما يرى المصدر، أن مقارنة سوريا مع دول الجوار، يمكن تبدأ من تركيا، حيث لدى الأخيرة معنى للحياة السياسية، والمنافسة الحزبية والبرلمانية، وأن الصوت الانتخابي له ثقل كبير فضلا عن حرية الصحافة وفصل السلطات، أما في العالم الغربي وأمريكا، فهناك ديمقراطية عريقة، وترسيخ لمفهوم حقوق الإنسان، والشفافية والسلطة الرابعة «الصحافة».
تقييد وتأطير
الحياة الاجتماعية في سوريا قاسية من ناحية تقّييد خصوصية الفرد وتأطير تفكيره ضمن نظم وثوابت يعد اختراقها ممنوعا منعاً يستوجب العقاب الجماعي، أما قائمة الممنوعات فهي أكثر من قائمة المسموحات في المجتمع، ما يعني تقيّيدا أكثر من ناحية طريقة الحياة الفردية والمجتمعية، وأحياناً قتلا للإبداع لأن الإبداع هو فكرة غير مألوفة للمجتمع، هذا التعريف للإبداع عام ولا يخص مجتمعا بذاته، لكن يظهر في المجتمع السوري بشكل واضح.
من ناحية القدرة على الإبداع، ترى الإعلامية السورية سما مسعود، أن السوريين لديهم قدرات هائلة من النشاط والإبداع، ظهر منهم المبدعون هنا في الغربة أكثر مما ظهروا في سوريا، هذا يعود للفرص المتعددة المفتوحة في المجتمعات الجديدة غير المقيدة بأي من القيود القديمة التي كانت تؤطرهم في إطار معين.
من ناحية ثانية، الظرف المناسب وُجد بالنسبة للسوريين في أوروبا وخارج البلد لا داخل حدودها، خاصة من ناحية الاطلاع على العلوم الجديدة وطرق الدراسة الإبداعية الحديثة التي استنهضت طريقة تفكيرهم، وقدرتهم على الارتقاء بمستواهم المادي ما يسمح لهم بالتفكير خارج صندوق رسمه المجتمع للفرد وفق معايير كثيرة.
مسعود قالت لـ «القدس العربي»: «على الصعيد المادي، ففي أوروبا يوجد راحة مادية للأسرة السورية حيث تجد الاستقرار المادي، لكن من غير الضروري أن تترافق الحالة المادية المستقرة مع استقرار وظيفي ما تسبب بانعكاسات سلبية على الأسرة المغتربة التي انفتحت فجأة على الحياة وطرقها المتعددة».
المرأة السورية حطمت القيود
حققت المرأة السورية إنجازات ملحوظة خلال العقد الماضي، لعل مطلعها الأهم، يتمحور في مشاركتها إلى جانب الشباب في مظاهرات الحرية والكرامة في ربيع 2011 واستمرارية مطالبها بتحييد النظام واستبداله بآخر وطني جامع لكل السوريين يحقق العدالة الاجتماعية بعيدًا عن التمييز الطائفي في العمل والتعليم، لتقدم سيدات سوريا تضحيات كبرى في سبيل التغيير، وهو ما جعلها هدفا لأجهزة النظام التي قتلت واعتقلت المئات منهن، أيقونة تغنى فيها شعب الثورة في البلاد، وحققت نجاحات باهرة في دول اللجوء.
آلاء نصار، صحافية، حققت نقلات نوعية في الحياة والعمل، فهي تنحدر من بيئة محافظة للغاية في سوريا، وتقول نصار لـ «القدس العربي»: «عندما كنت في داخل الحدود السورية، كنت أتوجه من المنزل إلى الجامعة والعكس، والخروج مع الأهل خلال الإجازات. إلا أن هذه المعادلة تغيرت عندما توجهت إلى الأردن كلاجئة» إذ تشير إلى اضطرارها دخول سوق العمل، رغم الموقف الصعب بداية لعائلتها، وردة فعل الأقارب وأقوالهم حول ذلك، إلا أنها أصرت على المضي قدما في رؤيتها وقراءتها للواقع، وأن العمل لسد احتياجات الأسرة أهم من موقف المجتمع المحيط.
إصرارها على العمل، جعل الإيجابية تنمو أكثر لدى والديها، وهو ما أعطى أريحية أكبر لأخوتها في التحرك خارج المنزل رغم محاولات الطيف القريب من العائلة استفزاز والدها لمنع ذلك، لكن والدها انقلب هو الآخر على عادات المجتمع المقيدة للحريات.
الإصرار أنجب الانفتاح
إصرار السوريات على طي تقييدات المجتمع وموانعه غير المبررة، أولد نجاحات للسوريات، وعدل المواقف لدى الأسر، وهنا تقول آلاء نصار «تراجعت نسبة الحرص الشديد الذي كان يحكم المجتمع السوري وفق معادلات العادات والتقاليد، حتى بات التعامل مع مسائل محورية بطرق مختلفة عن سابق العهد، على سبيل المثال، فيما لو حصل الشباب السوري على فرص إعادة توطين خارج الأردن، أو تقدموا للحصول على منح دراسية، بات الموقف العائلي من الهجرة أقل حدة، وأكثر ميولا لتقبل الواقع، خلاف ما كان سائدا في الأعوام السابقة».
أما عن الأوضاع في سوريا قبل الثورة في البلاد، فتقول نصار، «قبل ربيع 2011 لم يكن هناك حقوق بالأصل للمرأة السورية، وهي مغيبة عن التأثير في المجتمع ككل، كذلك هي أحوالها في النشاط السياسي.
أما اليوم، وبعد سنوات من الثورة، وما أفرزته الحرب من تشتت وتحديات، هي أوضاع خلقت ثورة عند النساء بعد سنوات من انخراطها في سوق العمل والتعليم، وتحملها إلى جانب الشبان الظروف القاهرة، حتى بدأت مستعدة لمواجهة العادات والتقاليد» مشيرة إلى ضرورة اقتناع المجتمع بعدم وجود أي عيب في عمل المرأة إنما هو من حقها، ولتذهب كل العادات والتقاليد البالية إلى «الجحيم» على حد وصفها.
معنى اللجوء في أوروبا
توجهنا بحوار مع حسام كوكش، وهو عضو استشاري في هيئة الاندماج في وزارة الداخليّة الفرنسية، بهدف الحصول على توضيحات أكثر بخصوص حياة اللاجئ السوري في أوروبا عموما وفي فرنسا على وجه التحديد، والأساسيات التي جعلته يحقق الاستقرار والنجاح فيها، وحول العوامل التي توفرت أمامه في بلد اللجوء وحٌرم منها في موطنه الأم.
فأجاب كوكش خلال تصريحات خاصة بـ «القدس العربي» قائلاً: اللاجئ السوري في أوروبّا عليه أن يتخلّى عن طريقة تفكيره ويُعيد برمجة مستقبله تبعاً لإقامته الطويلة التي حصل عليها في أوروبا. أجد أنّ اللاجئ إن ظلّ يفكر كشخصٍ قدميه في أوروبّا لكن عقله في بلده الأصلي، لن يستطيع بسهولة النهوض صباحاً والسعي في مناكبها في بلده الجديد.
ويضيف المصدر: هذا لا يعني أن يتخلّى الشخص عن قِيمه ومبادئِه، لكن أن يعيد برمحة تفكيره وأن ينطلق من جديد، فهذا هو معنى اللجوء في أوروبا، اللجوء هو فرصة جديدة وحياة أخرى، تعطيها أوروبّا لمن تعرّض لظروفٍ لم تسمح له بتحقيق ذاته والعيش بكرامة وأمل.
لا أطلبُ أبداً أن يُنكر اللاجئ أصله، لكن أن يستخدم ما اكتسبه من خبرات وقدرات خلاّقة، وتوجيهها وتعزيزها واعادة استخدامها في مجالات الحياة والعمل في أوروبا.
أرى وبكل تواضع أن الشخص الشرق أوسطي قد مرّ بخبرات حياةٍ هي من الغِنى بحيث لو عرف استخدامها في مجالات العمل والحياة في أوروبا، لأصبح من الناجحين والمستقرين بشكل جميل.
يتمتعُ الشباب العربي بشكلٍ عام بمرونةٍ وانفتاحٍ يساعده في التأقلم مع واقعه الجديد، والتي تجعل منه أن يحوّل مآسي الماضي التي عاشها في بلده الأم إلى دافع قوّة لتحقيق ذاته والنجاح في حياته.
ويضيف كوكش «لم نتعوّد في بلدنا الأم على الدولة الحنون التي تحمي وتُعين والتي تقف بكل مؤسساتها بجانب اللاجئ بكل مناحي الحياة، من الصحة والتأهيل والعمل، ذلكم نمط آخر من الحياة، لا يستطيع الكثير منّا مواكبته.
فإلى جانب اللغة الأجنبيّة الغريبة على أكثر اللاجئين في أوروبّا، هناك الجانب الثقافي والمختلف تماماً عمّا تعودنا عليه في بلادنا الأم.
فمثلاً، خدمة البريد، كم منّا تسلم رسالة في بلده الأم؟ أو أرسل رسالة إلى شخص آخر أو مؤسسة عامّة؟ القليل طبعاً.
مثال آخر: مكاتب العمل التابعة للدولة، هي مكاتب بالرغم من بطء معاملاتها، لكنها تحوي على عشرات الآليّات والوسائل والخدمات التي توضع بتصرّف اللاجئ. وهي من التعقيد لدرجة أن اللاجئ، غير المعتاد على تلك الخدمات والآليّات، ينصرف عنها، أما لجهله بها أو لصعوبة الحصول عليها، نتيجة عدم إيمانه الكامل بالدولة التي استقبلته.
ويقول «مئات آلاف فرص العمل شاغرة في فرنسا، وتظهر على موقع خدمة العمل على الإنترنت، لكن للتقديم على أحدها، حتى لو كان عملاً سهلاً، أنت بحاجة إلى رسالة سيرة ذاتيّة ورسالة دوافع باللغة الأجنبيّة، ثم هناك مقابلة شفهيّة مع ربّ العمل، باللغة الأجنبيّة أيضا
حتّى ولو أتقن أحدنا اللغة الأجنبيّة، يجب عليه تعلّم واكتساب العادات الثقافيّة أو ما يُسمّى بال الكود، أي أساسيّات التعامل والتخاطب في جوّ المهنة أو حالات العمل.
فرنسا تعترف بقدرة اللاجئين
الدولةُ الفرنسيّة تعترف بهذه القدرة الخلّاقة لدى اللاجئين لديها، ولكنها غير قادرة على مواكبتها ومساعدتهم بالشكل المطلوب، نتيجة عجز السياسات العامّة على فهم حاجات اللاجئين الخاصّة. لتعويض ذلك النقص ولفهمٍ أفضل للاجئين، عمدت وزارة الداخليّة في فرنسا، على الطلب من لاجئين المشاركة في اجتماعاتٍ رسميّة عالية المستوى، للوصول إلى فهمٍ أفضل لما يطلبه اللاجئون، ولكشف المعوقات الإداريّة الممكن حلها
وأنشأت كذلك، بالتعاون مع هيئة الأمم المتحدة للاجئين ومركز بحثٍ وطني، أكاديميّة خاصّة باللاجئين، تعمل على مدّهم بالأساسيّات الإداريّة والمعلومات التي تُمكنهم في السنة الثانية من دراستهم فيها، بالمشاركة في الهيئات صاحبة القرار في إدماج اللاجئين. كل ذلك لصياغة سياسات عامّة تتناسب وحياة اللاجئين وقريبة أشد ما يُمكن لتطلعاتهم وآمالهم.
وقال العضو الاستشاري في هيئة الاندماج في وزارة الداخليّة الفرنسية لـ «القدس العربي»: كل تلك الجهود بالنسبة لي لا تٌغني عن تفاعل إنساني وعصري مع اللاجئ. فهو في أوروبا بحاجة إلى دعمٍ نفسي ومعنوي، تبدو مؤسسات الدولة قاصرةً عن مده به.
فاستخدامُ وسائل التواصل الاجتماعي يبدو أساسيّاً في بعث الإحساس للاجئ بأننا قربك ونستطيع مساعدتك. ما المفيد مثلاً لعدد كبير من اللاجئين أن تكون مؤسسات الدولة على شبكة لينكد إن المهنيّة وليس على شبكة فيسبوك. ما المفيد أن تكون تلك المؤسسات على شبكة تويتر وليس على واتسآب؟
جسر ثقة بين الدولة واللاجئ
حسام كوكش، أشار إلى الجهود المبذولة خلال عمله كاستشاري لدى وزارة الداخليّة الفرنسية على تذكير المسؤولين الفرنسيين حول قضية دمج الأجانب واللاجئين، بشأن احساس اللاجئ الداخليّ، وأن الدولة تعيش في واد واللاجئ في واد.
مؤكدا أهمية بناء جسر ثقة بين هذين الطرفين: الدولة من جهة واللاجئ الأجنبي من جهة أخرى. لا يخفى على أحد أنّ الأجنبي يعيش حالة وجس دائم خلال فترة إقامته، وهو بحاجة أن تأتي الدولة بمؤسساتها إليه وتعطيه الأمل بأن الدولة ومؤسساتها إلى جانبك.
وتعمل الداخليّة الفرنسيّة على إنشاء منصة إلكترونيّة متعددة اللغات وخدمة تشات وتواصل مباشر مع اللاجئين. تلك خطوةٌ مباركة وفريدة من طرف الداخليّة في فرنسا المحافظة، والحرص على النشر باللغة الفرنسية أو الانكليزيّة. ولكنه اتجاه جديد يبني القائمون عليه آمالاً كبيرة، لجهة الوصول إلى اللاجئين ومدّهم بالمعلومات المفيدة لهم.
«أرى أن طرفي المعادلة يسعى كل منهما للوصول للآخر ولكن حسب عقيدته وعاداته، ولذا على الجانبين الاستفادة من فرص اللقاء والتفاهم للوصول إلى اندماج أفضل في أوروبا».
القدس العربي