في الجلسة المئة منذ بداية المحاكمة، حضر الشاهد الدكتور كمال اللبواني بتاريخ 11.11.2021 كشاهدٍ طلبه الدفاع نهاية الشهر الماضي، معللين طلبهم بأن الشاهد يستطيع إخبار هيئة القضاة أن المتهم لم يقم بعمليات تعذيب وبأن من سيطر على فرع الخطيب آنذاك كان العقيد حافظ مخلوف، وبأن الشاهد أبدى رغبة بالحضور للشهادة. بناء على ما سبق استدعته هيئة القضاة.
بدأ الشاهد القول إنه تعرَّف على المتهم إبان وصول الأخير إلى الأردن، حيث كان الشاهد آنذاك عضواً في الائتلاف الوطني، و يتطلب عمله هذا مهاماً منها أن يتعرف على المنشقين ويتأكد من عملهم السابق وكيفية الاستفادة مما لديهم من المعلومات. كانت غاية الشاهد حينها تشكيل مؤسسة معلومات من ضباط الأمن والمنشقين، ورأى أن المتهم وثلاث ضباط آخرين يناسبون هذه المهمة، إلا أن افتقاره للتمويل وعدم دعم الحكومة الأردنية لمشروعه أفشل هذه المهمة. حاول مرة أخرى في تركيا إلا أن الفكرة باءت بالفشل، ويقيم الشاهد الوضع حينها بأن هناك إرادة لاستمرار الفوضى وعدم محاولة تنظيمها، السبب الذي دعاه للاستقالة من المعارضة كما قال.
صرَّح الدكتور اللبواني لهيئة القضاة بأنه كان حينها عضو الهيئة السياسية في الائتلاف، وكانت الهيئة تعقد اجتماعات مع سفراء دول صديقة من بينها ألمانيا، وهؤلاء السفراء هم من طلبوا منهم تنظيم هذه الأمور ليستمر دعمهم لهم.
وبالعودة لعلاقته بالمتهم، قال الشاهد أنه اجتمع به شخصياً أربع مرات، ثلاث منها في الأردن وواحدة في اسطنبول. بعد أن تعرف عليه رآه أهلاً للثقة ولديه ذاكرة ممتازة وقدرة عالية على الكتابة والصياغة ومعرفة ممتازة بالقوانين. ذكر مثالاً على ذلك ما حدث بينه وبين المتهم بعد أن سأله عن رئيس الائتلاف حينها أحمد الجربا عندما كان معتقلاً لديهم، فقال له المتهم بأنه يتذكر تفاصيل التحقيق معه كاملة وأخبره بها، لاحقاً قام الشاهد بنشرها في تقرير صحفي مفصل. أكد الشاهد الدكتور اللبواني أن ثقته في المتهم بُنيت على أسباب كثيرة، هي:
السبب الأول: قبل انشقاق المتهم اعُتقل كثيرون من مناطق الزبداني ومضايا ودوما، وعندما خرجوا من السجن تحدثوا عن إحساسهم أن عقيداً في فرع الخطيب كان لديه الرغبة بمساعدتهم.
السبب الثاني: مع بداية الثورة السورية انقسمت الأفرع الأمنية إلى قسمين؛ قسمٌ أراد الحل السياسي، وآخر متشدد أراد الحل العسكري، فكان هناك حفنة من الضباط يدفعون باتجاه المصالحة ومن بينهم كان المتهم كما يرى الشاهد، ولكن مع بداية الشهر الرابع أو الخامس تغلَّب التيار المتشدد المدعوم من إيران وأصبح تيار المصالحة تحت الخطر.
السبب الثالث: أن المتهم أنور رسلان سُنِّي ولدى الشاهد كما قال أمثلة كثيرة لطريقة معاملة النظام للضابط السني.
السبب الرابع: أن المتهم من الحولة وهناك حدثت مجزرة لا يمكن أن يقبل بها أي ضمير إنساني.
يرى الشاهد أن المتهم لم يكن موضع شبهة بالنسبة له، إذا كان يعاني من مشاكل نفسية ولديه خوف دائم من انتقام النظام، وأبدى اهتماماً كبيراً بعائلته في المقام الأول، وكان يتجنب الاختلاط بالمعارضة لأنه يعلم كم هي مُخترقة من النظام.
وأما عن الفرع 251/الخطيب فقد وضح الشاهد بأن المتهم لم يقل له بأنه كان يعمل هناك، ولكنه يعلم بأن هذا الفرع يتبع لأمن الدولة، ووصف هذا الفرع بقوله أنه المطبخ الذي يصنع السياسات ويجب أن يكون رئيسه علوياً وله اتصال مباشر مع الرئيس، وبأن إدارته بهذه الطريقة بدأت منذ أيام حافظ الأسد الذي حول فرع الخطيب إلى ديكتاتورية إجرامية يرأسها محمد ناصيف آنذاك وكان من مهامه تعيين وزراء ومدراء في الدولة. بعد ذلك جاء توفيق يونس والذي لم يملك خبرة كبيرة كما كان ناصيف، فأتى يونس بضباط كثر من الإدارة لمساعدته وكان المتهم أنور من بينهم.
كرئيس لقسم التحقيق، يرى الشاهد أنه لم يكن لديه صلاحيات بالمطلق، فهو يكتب التقارير فقط ورئيس الفرع يقدم اقتراحات والإدارة هي من تقرر مصير المعتقلين. وعن قدرة المتهم على إخلاء سبيل أحدهم، أجاب الشاهد بأن المتهم لا يستطيع فعل ذلك بالمطلق إلا إن قام بتحوير التقارير وكتابتها لصالح المعتقلين. كما أكد أن المشكلة الحقيقية في ذلك أن مدير مكتب أنور رسلان كان مكلفاً بالتجسس عليه، كما هو الحال في كل الأفرع الأمنية وحتى تجسسها على بعضها البعض، وبهذا يضمن مكتب الرئاسة ولاءهم جميعاً من خلال جمع المعلومات عنهم بواسطة جواسيسه. سئل الشاهد عن كيفية معرفته بهذه الأمور، فتحدث للقضاة عن تجربته الشخصية عندما عمل كطبيب أثناء تأديته للخدمة الإلزامية في اللواء 99 في حماه عام 1982، وآنذاك، بعد أحداث حماه، لمس بنفسه الفرق في المعاملة بين الضابط العلوي والسني، وعن تجربته الطويلة في سجون الأسد، حيث اعتقل للمرة الأولى من عام 2001 وحتى عام 2004 في زنزانة منفردة، ثم اعتقل ثانية من عام 2005 حتى خروجه بعفو عن نصف المدة شمل المعتقلين السياسيين بداية الثورة بتاريخ 15.11.2011، وغادر سوريا مع عائلته بتاريخ 30.12.2011.
سأل القضاة الدكتور اللبواني فيما إذا كان المتهم أخبره عن طبيعة عمله مع المخابرات، فأجاب الشاهد بأن المتهم كان متحفظاً، وقال له بأنه سيتحدث في الوقت المناسب، وأضاف: “أتوقع أن أنور لا يستطيع أن يفتح ملفات الأمن السوري، لأنه سيتعرض لانتقام بشع هو وعائلته، خاصة أنه يعرف وأنا أعرف أن هناك تعاوناً بين مخابرات دولية والمخابرات السورية، وبالتالي فإن أي ضابط في المنطقة العربية يرغب بالانشقاق وفضح الأسرار سيُلاحق في كل العالم. جهاز الأمن السوري غير مستقل عن أجهزة الأمن في أوروبا وأمريكا وروسيا، وأنا كمواطن أوروبي أحذِّر بأن هناك ملفات قذرة لأجهزة مخابرات أوروبية وسورية والتعامل بينها لازال مستمراً حتى يومنا هذا”. أكمل الدكتور اللبواني وقال: “المتهم سيتكلم عندما يشعر بالأمان، وأنا عندي تصور أنه تم اختياره بالذات كرسالة تهديد لكل الضباط المنشقين حتى يصمتوا، لأنه لدي قناعة أن الضباط المنشقين من بلدنا وعايشين بأوروبا محاسبتهم حتفتح ملفات المخابرات السورية وغيرها متل الفرنسية والروسية”.
أشار الدكتور اللبواني بعد ذلك بأن الجريمة في سوريا أخذت طابع طائفي وكان هناك استهداف واضح لطائفة دوناً عن غيرها، وأن نسبة القتلى والمدن المدمرة والمعتقلين هي 95% من المدن السُنِّية، وأكد أن الميليشيات -كما وصفها- التي قاتلت مع النظام هي ميليشيات ذات طابع طائفي.
وعن طبيعة المساعدة التي قدمها المتهم رسلان لأحد المعتقلين السابقين، والذي أخبر الشاهد بقصته، قال الشاهد بأن المساعدة من محقق في فرع أمني تعني بأن يلتزم بالحقيقة ولا يجبر المعتقل على الاعترف بشيء لم يفعله تحت التعذيب، مؤكداً بأن تطبيق القانون كما هو في سوريا يُعتبر مساعدة.
في نهاية الجلسة وفي إجابته عن سؤال محامي الدفاع حول التنافس بين الطوائف ومدى نفوذهم في السلطة، تحدث الشاهد عن عدة تجارب شخصية تُظهر سيطرة االعلويين على القرار في سوريا، ثم أكمل حديثه للقضاة مطالباً إياهم بعدم إصدار حكم بحق المتهم، و كان مما قاله: “لما بشوف ضابط سُنِّي منشق هون عم يتحاسب وبقية الضُّباط عم يطلبوا مننا نعمل عدالة تصالحية متل الي حكا عنها بيترسون أمام مجلس الأمن فبشعر أنه نحن عم نغَذِّي الإرهاب لأنها رسالة لها تأثير سيء جداً على السوريين السُّنة وخاصة أن قسم كبير منهم بألمانيا. هذه الرسالة تقول أن العدالة انتقائية، بالوقت الي عم يتحاسب فيه ضابط سُنِّي منشق بيرجع رفعت الأسد من فرنسا إلى سوريا، الناس هيك فهموا الرسالة وهالشي سيُغِّذي أيدلوجيا التطرف والإرهاب. رجائي من المحكمة ألا تصدر حكماً بالعقوبة، لأنه من المستحيل حاكم المحقق على كل الجرائم في سوريا!! ولأن العدالة شمولية ومطلقة فأنا أتمنى أن يثبت جرم التعذيب على المتهم لأن كل الشعب السوري تعرض للتعذيب من كل الأفرع الأمنية وحتى من الشرطة وهذه حقيقة، ولكن المشكلة عند إيقاع المسؤولية! هناك فرق كبير بين الآمر والمأمور وأنا هنا لا أقول أن أنور مالو مسؤول لأنه برأيي كان لازم يخرج من وظيفته من أول يوم لكن الناس ما بتفكر أنه حيجي يوم تتحاسب فيه”، ثم أكمل قائلاً: “أنا أتيت إلى هنا وحبيت أحكي لأني حدا من الضحايا، بس حتى شعبنا يشعر بالأمان تجاه العدالة الألمانية بحقهم لازم نكون دقيقين جداً ونوضحلكم أنه نحن نشعر بالظلم وقت تبدأ العدالة من الضحايا وليس من الآمر بشار الأسد. أنا بعتبر معظم الضباط كانوا تحت ضغط هائل، ولكن مع ذلك أنا أعتبر بشار الأسد متخلف عقلياً وبصفتي طبيب اعتبره نصف مسؤول عن تصرفاته، إذن المسألة في سوريا أعقد من أن ينظر إليها بهذه الطريقة، لذلك أنا كسوري أرى أن العدالة انتقائية هون، حفاظاً على كرامة الضحايا لنترك الشعب السوري يقرر نوع العدالة التي يرغب بها، هذا حقه ولكن بشرط أن تُطبق على الجميع! إذا بدكم تساعدونا فمو هيك!”.
وفي لقاء خاص مع الشاهد بعد انتهاء شهادته في المحكمة، صرَّح لنا قائلاً: “أفضِّل أن تكون شھادتي متاحة للرأي العام ، كما أوضح أنني لم آتِ ھنا للدفاع أو الاتھام ، و لا لأواجه صديقي المحامي أنور البني الذي شاركته السجن لمدة خمس سنوات ، والذي كنت ألتقیه كل صباح بین عامي 2005 و2010، بل للتعاون معاً لإجلاء الحقيقة كاملة عمَّا جرى ويجري في سورية، وعن توزيع المسؤوليات في الجرائم التي تُرتكب، كوني أحد ضحايا هذه الجرائم، فالتعذيب يُطبق بشكل منهجي وشامل في كل مؤسسات الأمن والجيش والشرطة وحتى المدارس التعليمية. في سوريا المطلوب إثباته ليس حصول التعذيب بل ادعاء عدم حصوله! فهذا شبه مستحيل في سجون سورية قبل الثورة، أما بعد الثورة فقد أصبح مجرد البقاء حيَّاً حتى نهاية التحقيق يقارب المعجزة!”.
وختم لقائه معنا قائلاً: “شخصياً لن أشعر بالعدالة مع بقاء بشار الأسد ونظامه الطائفي العصبوي في السلطة، فهو المسؤول الأول عن كل ما جرى ويجري، ومن دون تخلي الغرب والمجتمع الدولي عن دعمه وحمايته لا معنى بنظري لأي عدالة يقيمونها”.
المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية