بعد إهمال وتجاهل، دام نحو عام، عادت واشنطن لأخذ زمام المبادرة في الملف السوري فجأة، وطلب المبعوث الأميركي إلى سوريا، إيثان غولدريش، اجتماعاً لنظرائه المبعوثين الخاصين في الملف السوري، لكل من جامعة الدول العربية ومصر والاتحاد الأوروبي وفرنسا وألمانيا والعراق والأردن والنروج وقطَر والمملكة العربية السعودية وتركيا والمملكة المتحدة، في 2 كانون الأول/ديسمبر في بروكسل، لمناقشة الأزمة في سوريا. وأكد في الاجتماع على اللاءات التي بدا لوهلة أنها بدأت بالتآكل، مثل “لا” لرفع العقوبات عن النظام، و”لا” للتطبيع معه، و”لا” للمساعدات التي تعينه على البقاء، بل و”لا لإرسال إشارات خاطئة حول تغير للموقف الغربي من نظام الأسد”. ومع أنه من الممكن أن تعزى هذه التطورات إلى اكتمال تصور الإدارة الأميركية لكيفية إدارة الملف السوري، إلا أننا نرجح ارتباطه أكثر بالتصعيد الروسي في أوكرانيا، حيث كشفت وثيقة عسكرية أميركية أن روسيا تستعد لشن هجوم بنحو 175 ألف جندي على أراضيها اعتباراً من مطلع العام المقبل.
الترابط بين الساحتين السورية والأوكرانية كميدانين لصراع القوتين العالميتين، ليس بجديد، فقد تدخلت روسيا عسكرياً هناك، بالتزامن تقريباً مع تدخلها وتدخل الولايات المتحدة عسكرياً في سوريا أيضاً العام 2015. وفيما تتحالف روسيا مع قوات انفصالية في الدونباس، بالضد من الحكومة المدعومة غربياً، تقف الولايات المتحدة مع فصائل المعارضة لنظام الأسد المدعوم من روسيا والصين في سوريا. ثمة تناظر أيضاً بين القوى الإقليمية المؤثرة في الساحتين، فتركيا تدعم الحكومة الأوكرانية، بينما يسود العداء العلاقة بين هذه الأخيرة وإيران منذ إسقاط الطائرة المدنية الأوكرانية قرب طهران، فاغنر الروسيّة وطائرات بيرقدار التركية ومفردات أخرى كثيرة مشتركة بين الساحتين.
إن عقد هذا الاجتماع في بروكسل، هو انعكاس للقاعدة المُتفاهَم عليها ضمناً في حلف “الناتو” اليوم، وهي أن على أوروبا التصدي لروسيا، فيما تتفرغ واشنطن للمواجهة الكبرى المحتملة مع الصين التي باتت تسفر عن عدوانية غير مسبوقة، وتحشد قواتها على تخوم تايوان كما لو أنها على وشك غزوها. ويبدو اجتماع بروكسل أشبه بجلسة إسناد مهام هجومية من قبل ممثل الولايات المتحدة إلى نظرائه، حيث نقل عنه قوله إن رفع العقوبات عن نظام الأسد ليس مطروحاً للنقاش مع روسيا، بل أن بلاده ضد أي محاولة للتطبيع مع دمشق. ويبدو أن باريس، وهي الأكثر اهتماماً بين الأوروبيين بالشرق الأوسط، قد اتخذت دوراً قيادياً في هذا التحرك الغربي، إذ سارعت إلى تعيين سفيرة لها من أجل سوريا، وليس في نيتها كما يبدو أن تكون هذه الخطوة باتجاه التهدئة. إذ يُعرف عن السفيرة الجديدة تعاطفها الشديد مع الثورة السورية، وفي الاجتماع المومأ إليه ذاته، كانت ممثلة فرنسا هي الأكثر تشدداً في ما يخص الضغط على النظام وعزله، ونقلت أوساط مطلعة على المناقشات حصول مشادة كلامية بينها وبين ممثل الأردن الذي كان يطالب بتوسيع الاعفاءات من العقوبات على نظام الأسد لتشمل البنية التحتية، إلا أن ممثلة فرنسا ردت عليه بحزم بأن لا تمويل ولا تطبيع ولا إعفاءات خارج نطاق الشؤون الإنسانية المُلحّة.
كان غياب دولة الإمارات عن الاجتماع، لافتاً، ووفق مصادر دبلوماسية فإنها لم تُدعَ إليه بسبب عدم الرضى الأميركي عن تقاربها مع نظام الأسد وإيران. بل قال المبعوث الأميركي بما يوحي بإمكانية إصدار عقوبات اقتصادية على هذا البلد فيما لو واصل تجاهله لقانون قيصر على سبيل المثال. ويبدو أن كلاً من السعودية وقطَر، اللتين حضرتا الاجتماع، تلقتا الرسالة الأميركية بقبول شديد، وأكدتا التمسك باستمرار عزل نظام الأسد ومنع عودته إلى الجامعة والتطبيع معه. وجوبهت دعوة ممثل العراق “لقبول النظام كأمر واقع” بحزم ورفض، كما طاول الرفض مطلباً أردنياً يقرن التطبيع المتدرج بخطوات ملموسة من طرف النظام.
سيعقد الرئيس الأميركي والرئيس الروسي، قمة عاجلة، الأسبوع المقبل، لمحاولة نزع فتيل الأزمة الأوكرانية، لكن من الواضح أن واشنطن لن تثق في أي تعهدات يقطعها الرئيس بوتين، ومن بين إجراءاتها الحفاظ على ورقة الضغط السورية، حيث دعا المبعوث الأميركي نظراءه إلى اجتماع آخر، مطلع العام المقبل في واشنطن.
إن “تدويل” القضية السورية جعلها ملفاً مزمناً يستخدم في النزاعات الدولية والإقليمية، ولهذا جوانبه السلبية، لكنه بالتأكيد يمتلك جوانب إيجابية يمكن للمعارضة السورية – لو كانت لديها مؤسسات متيقظة – أن تستغلها. إلا أننا لا نرى في المرحلة الراهنة، مؤسسة معارضة يمكن أن تستغل تقلبات البيئة السياسية الدولية على نحو مناسب، سوى “قوات سوريا الديموقراطية” و”هيئة تحرير الشام”، خصوصاً إذا استمر بوتين بالتصعيد العسكري، وتشبثت إيران بأجندتها الخاصة بالملف النووي، وقرر الغرب أن يدعم تحركاً ميدانياً على الأراضي السورية.
المدن