ياسين السويحة
لم يقدّم كمال اللبواني جديداً في حواره مع موقع والاه الإخباري الإسرائيلي قبل أيام، فالأفكار والمواقف نفسها ذُكرت، أواسط الشهر الماضي، في حوار مع جريدة العرب اللندنيّة. المستجد الوحيد هو الظهور على منبر إعلامي إسرائيلي لم يبخل، بدوره، في تقديم المديح لضيفه، الذي وصفته بأنه «رمز المقاومة السوريّة، رجل يحلم بالديمقراطية والحرية والسلام، ليس فقط داخل سوريا، وإنما أيضاً بين سوريا وجارتها الجنوبية، إسرائيل».
صحيفة تايمز أوف إسرائيل وصفت كمال اللبواني بأنه «كبير في المعارضة السوريّة»، ونقلت ردود فعلٍ إيجابيّة لسياسيين إسرائيليين على تصريحات اللبواني في الحوارين الصحفيين، التي تطرح على إسرائيل مبادرة تعاون مشترك من أجل إسقاط نظام بشار الأسد: على إسرائيل أن تفرض منطقة حظر جوّي في الجنوب السوري، وتقدّم الدعم اللازم للثوّار، وفي المقابل على السوريين أن يُنهوا حالة الصراع مع إسرائيل، وأن يتخلّوا عن المطالبة بالجولان المحتلّ. يركّز اللبواني في تصريحاته على أولويّة الصراع مع إيران والجماعات الإرهابيّة، ويعتبر أنّ لدى سوريا وإسرائيل مصلحة مشتركة في وقف التوسّع الإيراني في المنطقة والتصدّي للتطرّف الإسلامي.
بعد طرح اللبواني مبادرته هذه للمرّة الأولى، أواسط آذار الماضي، نشر برهان غليون ردّاً على صفحته الفيسبوكيّة، مُعتبراً أن سلوك كمال اللبواني هذا يُشكّل «طعنة للمعارضة، ويشوّه صورتها ويدمّر صدقيّتها»، كما وصف خطاب اللبواني بأنه «قائم على أوهام محضة، ومليء بالتناقضات»، مضيفاً: «إسرائيل ليست عدوّة لنظام الأسد حتى تساهم في إسقاطه لصالح المعارضة، وإنما هي عدوّة للشعب السوري، وبسبب هذا العداء، وتناقض المصالح، حمت النظام السوري وتعاونت معه وما تزال. معظم السوريين يعتقدون، عن حق، أن الأسد ما كان ليبقى لولا حساباته الإيجابيّة تجاه إسرائيل، وقبوله الحفاظ على أمنها، بصرف النظر عن حديثه عن المقاومة والممانعة». تلقّى مقال غليون ردّاً من كمال اللبواني نفسه، حيث وصف كلام غليون بأنه «موقف إيديولوجي نمطي عن العلاقة بين الدول والشعوب، وهو مستورد من العقل القومي الفاشي»، متهماً الرئيس الأسبق للمجلس الوطني السوري بأنه «ابتدع طريقةً جديدة في قيادة الثورات من المقعد الأمامي في الطائرة، وأجنحة الفنادق الفاخرة»، وأضاف: «يريد (برهان غليون) للشعب السوري الجريح المعذّب أن يبقى لوحده مكبّلاً بهذا التفكير النمطي، ويتعرّض للتعذيب والتنكيل من قبل حثالة البشر، لكي يحافظ على هذه المعادلة التي تعطي للنظام قوته واستمراره وتغاضي العالم عنه. وكأنه يقول أن النظام السوري والإيراني ليسا عدوّين حتى لو فعلا ما فعلا بنا، وأن السير في مسار السلام مع إسرائيل لن يغيّر موقف العالم من النظام ويلغي دوره ويُبطل مفعول قوته».
لم يصدر ردّ رسمي من الائتلاف الوطني على أطروحات اللبواني، وانما أتى الردّ على تغطية جريدة «الحياة» لتصريحات اللبواني الأولى، حيث قدّمت الصحيفة اللبواني بوصفه «عضو الهيئة السياسيّة للائتلاف». ففي تصريحٍ صحفي، أشار هادي البحرة، عضو الهيئة السياسيّة للائتلاف الوطني، إلى أن اللبواني «لم يعد عضواً في الهيئة السياسية للائتلاف الوطني السوري، وأن الآراء التي يقدّمها لا تمثّل ولا تعكس الرؤية السياسيّة للائتلاف». وأضاف البحرة في تصريحه الصحفي: «يؤكّد الائتلاف الوطني السوري تمسّكه الكامل بوحدة وسلامة الأراضي السوريّة، ويجدّد التزامه بقرارات الأمم المتحدة رقم ٢٤٢ (الذي ينصّ على وجوب انسحاب إسرائيل من الأراضي المحتلة عام ١٩٦٧) ورقم ٤٩٧ (القاضي بإبطال قرار إسرائيل ضمّ مرتفعات الجولان عام ١٩٨١)».
يسخّف اللبواني الموقف الرافض لأطروحاته، ويقول عنه، كما في ردّه على برهان غليون، بأنه «قادم من العقل القومي الفاشي»، ويستخدم الابتزاز بعذاب السوريين تحت وطأة الحرب الشاملة التي يشنّها نظام الأسد عليهم لتقديم صورة خلاصيّة ناصعة لطرح التحالف مع إسرائيل. إن في هذا الموقف تسطيحاً وتقزيماً لمسألة الصراع العربي-الإسرائيلي، الصراع الذي دخلته سوريا عسكرياً عام ١٩٤٨، تحت علم الاستقلال، العلم نفسه الذي اتّخذه الثوار السوريون رمزاً لنضالهم من أجل الاستقلال عن نظام منحطّ، لا يشبه إلا أكثر صيغ الاحتلال وحشيّةً، وهي صيغ قدّمت منها إسرائيل الكثير عبر تاريخها. لموقف اللبواني أيضاً لفتة متعاطفة مع اختطاف المحوريّة التاريخية للصراع مع إسرائيل لصالح نظام الأسد، وموافقة على امتلاكه، وحلفائه، رمزيّة الوقوف بوجه إسرائيل، في حين أن تاريخ نصف القرن الأخير يقول أشياء مغايرة تماماً، أكان عن ماهيّة النظام وكيفية تعامله المرن مع إسرائيل، أو عن كيفية تصريف فوائد هذا التعامل المرن في الساحة الدوليّة، وأيضاً عن تحالف إسرائيل الموضوعي مع الاستبداد الإفقاري في إيصالنا إلى ما نحن عليه.
يمكن القول، أيضاً، إن طرح اللبواني هو سلخ لسوريا عن سياقها الجغرافي والتاريخي والسياسي. يشير في طرحه أنه لم يسبق أحداً في نزعته السلاميّة تجاه إسرائيل، مشيراً إلى أن دولاً مثل مصر والأردن وتركيا، والفلسطينيين أنفسهم، قد وقّعوا اتفاقيات سلام مع إسرائيل. للوضع التركي سياق مختلف نظراً لموقع تركيا الجيوسياسي في الحقبة التي طبّعت فيه علاقتها مع إسرائيل، لكن يغيب عن اللبواني أن باقي الأمثلة، وكلّها عربيّة، هي لأنظمة غير ديمقراطيّة، فكّرت في مرحلة ما بطريقة مماثلة لما يقدّمه هو، وأن الحالات جميعها تقدّم انقساماً عنيفاً في المجتمعات حول اتفاقيات السلام هذه، حتى بعد مرور عقود على توقيعها. كيف يمكن أن تقدّم، باسم لحظة تأسيسية وطنية عصيبة وعنيفة كالثورة السوريّة، هكذا مبادرة؟!
في الحالة الفلسطينية، تجدر الإشارة إلى ضرورة قراءة تاريخ السياق الذي أوصل ’منظّمة التحرير‘ لتوقيع اتفاق أوسلو، بما فيه التواطؤ الموضوعي بين نظام «تل الزعتر» وإسرائيل على إضعاف ’منظمة التحرير الفلسطينية‘ وشقّها. عدا ذلك، هل في حال الفلسطينيين في الضفّة الغربية اليوم، بعد أكثر من عقدين على أوسلو، ما يشجّع على النظر إلى إسرائيل بالطريقة التي ينظر اللبواني إليها؟
وبالتوكيد على المسألة الفلسطينية، تمسح أطروحة اللبواني البعد الفلسطيني للثورة السوريّة، الذي يظهر في انخراط قطاع عريض من الفلسطينيين السوريين فيها، وتقديمهم شهداء كثيرين جنباً إلى جنب مع السوريين. حالة مخيّم اليرموك اليوم، بعد شهور طويلة من الحصار، ليست إلا مثالاً ساطعاً.
منذ أوائل السبعينات، تمكّنت إسرائيل من فرض مخططاتها بالأمر الواقع، وسايست، عن بعد أو عن قرب، النظامَ السوري وغيره للحفاظ على هذا الواقع المتجمّد. يعرض اللبواني مقايضة الجولان، المفقود أصلاً (حسب تصريحه) بالتحالف مع إسرائيل، رغم أن إسرائيل ليست بحاجة لهذه المقايضة، ولا شيء يجبرها أو يغريها على تقديم أيّ ثمن مقابل الجولان، الذي تعتبره أرضاً إسرائيليّة، وتتمتع بتجاهل الدول والمنظمات الدولية الكثيرة لقرار الأمم المتحدة بإبطال هذا الضمّ القسريّ. عدا ذلك، وحتّى لو افترضنا أن المعارضة وافقت على طرح اللبواني، لا مصلحة لإسرائيل للتعاطي مع طرف ضعيف غير مسيطر بشكل حديدي على البلد، كحال المعارضة السوريّة اليوم، أو كحال أيّ حكومة يمكن أن تنشأ في سنوات مقبلة، قد تطول. لا شيء يُغري إسرائيل فعلياً في عرض اللبواني، فقد أخذت العِبَر الكافية من مغامرتها في لبنان مع بشير الجميّل عام ١٩٨٢.
أما بخصوص الموقف من إيران، وهي النقطة التي يرتكز عليها اللبواني في توزيعه صفات ودرجات العداء، فلا شكّ أن النظام الإيراني اليوم يشغل الحيّز الجوهري في صفّ العدوان على الشعب السوري، وهو متورّط مباشرةً، عبر ’الحرس الثوري‘، وبشكل غير مباشر عبر الأدوات اللبنانية والعراقية، في حرب النظام المجرم على الشعب السوري. لكن من قال إن الموقف من النظام الإيراني يجب أن ينزاح، يميناً أو يساراً، على محور العلاقات الإيرانية-الإسرائيلية؟ أيضاً، وبالنظر إلى الوضع الراهن للعلاقات بين إيران والغرب، خاصةً إدارة باراك أوباما الأمريكية، لا يمكن أن نجد أيّ أشكال الواقعيّة، مهما كانت جافة، في اعتبار أن إسرائيل ترغب في التورّط في الساحة السورية ضد إيران، لا بل إن بالإمكان الزعم بثقة أن الوضع الحالي هو الأنسب لإسرائيل، وأنها تتمنى لو يدوم سنوات وسنوات.
ما هو مكتوب في هذا المقطع الأخير تقدير «براغماتي»، ينزع نفسه من «القومجيّة الفاشيّة» التي يرفضها كمال اللبواني، ويمكن أن تُضاف على هذه المآخذ البرغماتية مأخذ إجرائي آخر: من هي الجهة المخوّلة لعقد هكذا صفقة مع إسرائيل؟ ألا يجب أن يكون هناك جهة منتخبة تصادق على هكذا اتفاق؟
في أيلول الماضي، حين كان اللبواني عضواً في الهيئة السياسية للائتلاف الوطني، تحفّظ على توقيع اتفاقيّة انضمام ’المجلس الوطني الكردي‘ إلى الائتلاف الوطني، واتّهم أحمد الجربا، رئيس الائتلاف، بالخضوع للإملاءات الأمريكية لقبول الاتفاق، وأشار إلى أن الائتلاف، بوصفه جهة معيّنة وليست منتخبة، غير مخوّل بالتوقيع على اتفاقٍ بهذا الحجم، وبهذا التأثير على مستقبل سوريا، حسبما صرّح لوسائل إعلاميّة عديدة. أليس التحالف المفترض مع إسرائيل اتفاقاً كبيراً ومؤثراً بما فيه الكفاية لرفض توقيعه إلا من جهة منتخبة، وفق منطق اللبواني نفسه؟
يبدو واضحاً أن الائتلاف الوطني يتجنّب التعاطي مع خطاب اللبواني ومخططه، ويكتفي بنفي عضوية اللبواني في هيئته السياسية، والتبرؤ مما يقدّمه على هذا الصعيد. من هذا المنطلق، لا يتحمّل الائتلاف الوطني مسؤولية هذه التصريحات، ويصحّ القول إن كمال اللبواني، سياسياً، لا يُمثّل إلا نفسه ومن يوافق على خطابه. كمال اللبواني انسحب من الائتلاف بإرادته، وهو اليوم لا يوفّر نعوتاً سلبيّة ضد الائتلاف الوطني في مداخلاته الإعلاميّة، لكنّ المنطق السياسوي الضيّق الذي يحكم علاقات جهات المعارضة السوريّة فيما بينها، وسوابق عديدة في مجال طرح عداوات فصداقات فعداوات مجدداً، دون تقديم أي تفسير عام عن نقاط التلاقي والاختلاف، لا تضمن بأيّ شكلٍ من الأشكال ألا يعود اللبواني إلى الائتلاف بعد حين، بل ولا تمنع أن يتبوأ منصباً قيادياً رفيعاً فيه حتى. نُعاني إسفافاً سياسوياً كبيراً في المعارضة السوريّة، بكافة أوساطها ومنابرها، ولا أثمان تُدفع مقابل المواقف الخرقاء والأخطاء والتصريحات المفتقدة للذكاء. في دول العالم الديمقراطيّة يمكن أن يتسبب تصريح سيء، أو فعل قليل الكياسة، بإقالة أي مسؤول، حتى على مستوى رؤساء الدول. ألا يستحق السوريون، في زمن الألم والدم والدمار هذا، من سياسيي المعارضة، جهداً مضاعفاً لاحترام أنفسهم، واحترام شعبهم؟