المحاولات الحثيثة من قبل الدول العربية مع الحكومة السورية، تواجه مؤخرا معارضة قوية من قبل الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، وصل إلى حد تهديد مسؤولين من واشنطن بالعقوبات ضمن قانون “قيصر” لكل حكومة تسعى للتطبيع مع الحكومة السورية أو التواصل مع المسؤولين في دمشق. يبدو أن الدول الأوروبية ستواجه بشدة محاولات التطبيع هذه، وقد بدأت بإرسال رسائل سياسية واضحة لجميع الأطراف المعنية في دمشق وعواصم بعض الدول العربية، من خلال تحريك ملفات الجرائم الإنسانية في سوريا، والمتهم فيها شخصيات كبيرة ضمن القيادة المركزية في دمشق. فرنسا أعلنت الثلاثاء عن بدء محاكمة ثلاثة مسؤولين سوريين أمام محكمة الجنايات الفرنسية، بتهمة التواطؤ في قتل مواطنين اثنين سوريين يحملان الجنسية الفرنسية، وهما مازن دباغ ونجله باتريك، اللذان اعتُقلا في سوريا عام 2013، فما تأثير القرار الفرنسي على عجلة التطبيع بين سوريا والدول العربية. فتح الطريق لمحاسبة مرتكبي الجرائم؟ الأمر الفرنسي جاء عبر قاضيا تحقيق فرنسيان، حيث طالبا بمحاكمة كل من اللواء علي مملوك رئيس “مكتب الأمن الوطني السوري” وهي أعلى هيئة مخابرات في سوريا، واللواء جميل الحسن رئيس إدارة المخابرات الجوية السورية، إلى جانب اللواء عبد السلام محمود رئيس فرع التحقيق في إدارة المخابرات الجوية الموجودة في مطار المزة العسكري.
القرار الفرنسي يفتح الطريق للمرة الأولى في فرنسا لمحاكمة كبار المسؤولين في الحكومة السورية عن ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية بحق السوريين، لكنه يأتي أيضا كرسالة سياسة شديدة اللهجة ردا على محاولات إعادة تعويم الحكومة السورية، خاصة وأن علي مملوك، ورد اسمه مؤخرا كمسؤول عن ملف التطبيع بين دمشق وبعض الدول العربية، وقد التقى العديد من مدراء المخابر للدول الراغبة في إعادة العلاقات مع دمشق أبرزها تركيا. خبراء في القانون الدولي وسياسيون، اعتبروا أن أمر قاضيا التحقيق في فرنسا هو خطوة لتعزيز تضييق الخناق على المتهمين بارتكاب جرائم حرب في سوريا، كما أنه رسالة سياسية واضحة لقطع الطريق على كافة محاولات التطبيع، لا سيما من قبل الدول العربي مع الحكومة السورية. قد يهمك: الاجتماع الرباعي.. رسالة أميركية أجبرت دمشق على الجلوس مع أنقرة دون شروط؟ الخبير القانوني المتخصص في القانون الدولي وحقوق الإنسان بسام طبلية، أوضح أن القضاء الفرنسي يمكن له تحريك القضية تجاه المتهمين، باعتبار أن الضحية تحمل الجنسية الفرنسية، خاصة وأن القاضي لديه أدلة توحي بتدخل واشتراك المتهمين الثلاثة بالجريمة المذكورة، الأمر الذي قد يُفضي إلى إصدار مذكرة اعتقال بحقهم لاحقا. مذكرة اعتقال لاحقة؟ طبلية قال في حديث خاص مع “الحل نت”، “هذه الخطوة ستكون جيدة باتجاه التضييق على المتهمين باقتراف جرائم ضد الإنسانية عبر إعطاء الأوامر، أو من خلال مسؤوليتهم المباشرة عن الأفرع الأمنية التي شهدت عمليات تعذيب، لذلك من الممكن أن تكون هناك أحكام غيابية لاحقا وهذا سوف يؤدي إلى تضييق الخناق على حركة المتهمين”. في حال إصدار مذكرة اعتقال من قبل المحاكم الفرنسية ضد المتهمين الثلاثة، فهذا يعني أن ذهاب أيا منهم إلى دولة موقعة على معاهدة ثنائية مع فرنسا على أية معاهدة تتعلق بتسليم المجرمين للعدالة، سيعني بالضرورة إمكانية المطالبة باعتقالهم عبر الإنتربول الدولي، الأمر الذي سيعيق ما يتم التخطيط له بأن يكون أحد هؤلاء مسؤول عن ملف التطبيع والتواصل مع الدول العربية. الباحث السياسي في دراسات السلام وحل النزاعات الدولية في جامعة “كوفنتري” البريطانية زارا الصالح، رأى من جانبه أن قرار إحالة المسؤولين الثلاثة إلى محكمة الجنايات خطوة على الطريق الصحيح لمحاسبة مرتكبي الجرائم في سوريا، وهي رسالة إلى السلطة الحاكمة بأن الإفلات من العقاب غير ممكن، رغم البُعد السياسي لهذه القرارات بالنظر إلى توقيتها. الصالح قال في حديثه لـ”الحل نت”، “الخطوة هي استكمال لمحاكمات سابقة جرت قبلها لمسؤولين من النظام، في ألمانيا وبلدان أوروبية أخرى، ورغم أن قضية عائلة دباغ فُتحت منذ 2015، إلا أنها توجت بهكذا قرار لمحاكمة المجرمين الثلاثة ليُفتح الباب أمام محاسبة بقية الرموز من النظام السوري”. برأي الصالح إن المحاكمات الغيابية سيكون لها بُعد سياسي وقانوني، في ظل المرحلة الراهنة التي تشهد محاولات من بعض الأطراف الإقليمية والدولية إعادة علاقاتها مع دمشق، متجاهلين سجلات السلطة السورية فيما يتعلق بمجال حقوق الإنساني، “بالتالي فإن هذه القرارات بحق شخصيات لها تاريخ إجرامي بحق السوريين مثل علي مملوك وجميل الحسن وعبدالسلام محمود وغيرهم، ستشكل ولو في جانبه السياسي خطوة باتجاه عرقلة عمليات التطبيع وعودة الأسد إلى الحضن العربي والدولي وستضع قيودا على تحركات تلك الشخصيات ومحاولات إعادة تأهيلهم للمرحلة القادمة لقيادة سورية مثل علي مملوك وغيره من الذين يعتبرون حاليا إحدى أهم ديناميكيات الحراك الدبلوماسي- الاستخباراتي للنظام”. قضية عائلة دباغ تعود إلى العام 2014، عندما فتحت النيابة الفرنسية تحقيقا أوليا بالحادثة، ثم تم فتح تحقيق قضائي في حالات اختفاء قسري وأعمال تعذيب تشكل جرائم ضد الإنسانية في تشرين الأول/اكتوبر بعد إشارة من شقيق وعم المفقودين عبيدة دباغ. باتريك دباغ، هو طالب في كلية الآداب والعلوم الإنسانية في دمشق من مواليد 1993، ووالده بحسب موقع “فرانس 24″، كان مستشارا تربويا رئيسيا في المدرسة الفرنسية في دمشق من مواليد 1956، وقد اعتقلا في تشرين الثاني/نوفمبر 2013 من قبل ضباط قالوا إنهم ينتمون الى جهاز المخابرات الجوية السورية. بحسب أمر القاضيين الفرنسيين، “يبدو أنه من المؤكد بشكل كاف” أن باتريك ومازن دباغ “تعرضا على غرار آلاف المعتقلين لدى المخابرات الجوية، لتعذيب شديد لدرجة أنهما توفيا”. بالتأكيد فإن توقيت تحريك القضية، يعطي رسالة واضحة بشأن الرفض الغربي المتواصل لأي عملية تطبيع مع دمشق، بدون تنفيذ قرارات الأمم المتحدة وتحديدا القرار 2254، المتعلق بالحل السياسي والانتقال السلمي للسلطة، وهنا أوضح المدير التنفيذي لمنظمة “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة” بسام الأحمد في حديث لـ”الحل نت” أن “هذه الخطوة من الناحية الرمزية وحتى العملية جيدة جدا، لكنها رسالة سياسية بالدرجة الأولى لكل من يحاول التطبيع مع دمشق”. الملاحقات القانونية ضد مرتكبي الجرائم في سوريا، كانت قد بدأت منذ سنوات، لا سيما ضمن الاتحاد الأوروبي، وفي منتصف العام 2018، أصدرت السلطات القضائية الألمانية مذكرة توقيف بحق جميل حسن، لارتكابه جرائم ضد الإنسانية، كما فُرضت عليه قبل ذلك عقوبات من الاتحاد الأوروبي. العام الماضي حكم القضاء الألماني بالسجن مدى الحياة على الضابط السابق في المخابرات السورية أنور رسلان (58 عاما)، لإدانته بارتكاب جرائم ضد الإنسانية بختام أول محاكمة في العالم محورها فظائع منسوبة إلى شخصيات في أجهزة المخابرات السورية. من هم المتهمون الثلاثة؟ اللواء علي مملوك، هو المدير السابق للاستخبارات العامة السورية وأصبح في 2012 رئيسا لمكتب “الأمن الوطني السوري”، كما شغل منصب مستشار الرئيس السوري بشار الأسد الخاص للشؤون الأمنية، ورغم العقوبات الأميركية والأوروبية بحق علي مملوك، إلا أن تقارير عدة كشفت أن مملوك يجري زيارات إلى دول عربية في مساعي دمشق لإعادة تعويم نفسها إقليميا.
أما اللواء جميل الحسن، فهو يشغل منصب مدير إدارة المخابرات الجوية، ومع انطلاق الاحتجاجات ضد الحكومة السورية عام 2011، ظهر جميل حسن كأحد أبرز المتورطين في أعمال الاعتقال العشوائي والابتزاز والسرقة والتعذيب وقتل المتظاهرين، وورد اسمه في معظم القوائم التي تضمنت عقوبات ضد شخصيات في الحكومة السورية. المتهم الثالث في القائمة الفرنسية هو اللواء عبد السلام محمود، ويشغل منذ العام 2011، منصب رئيس فرع التحقيق في “إدارة المخابرات الجوية” الموجودة في مطار المزة العسكري، وبحسب تقارير حقوقية أشرف محمود على عمليات تعذيب وتصفية المعتقلين، الذين كان يتم إرسالهم من جميع المحافظات السورية إلى فرع التحقيق الذي يديره. يبدو أن التحرك الفرنسي سيكون فضلا عن أنه خطوة في اتجاه محاسبة مرتكبي جرائم الحرب، فإنه سيكون رسالة واضحة لجميع الدول العربية التي تسعى لإعادة علاقاتها مع دمشق، عبر تذكيرها بالسجل الإجرامي لهذه الشخصيات، وذلك على غرار ما فعلت واشنطن عندما استغل بعض المسؤولين العرب كارثة الزلزال قبل أسابيع لإجراء تواصلات مع دمشق، فجاء الرد الأميركي عبر التهديد بقانون “قيصر” لكل من يحاول استغلال الكارثة لإعادة تعويم الحكومة السورية على المستوى العربي والإقليمي.
الحل نت