منذ عام 2011، تعددت المحاولات الدولية والإقليمية لإيجاد حلّ سياسي يُنهي الصراع ويحقق السلام والاستقرار في سوريا، ومن أبرز هذه المحاولات هي مبادرة “جامعة الدول العربية”، التي شكّلت لجنة خاصة للتواصل مع الحكومة السورية والمعارضة والفصائل المسلحة، بهدف إقناعهم بالجلوس إلى طاولة الحوار والتفاوض على حلّ شامل وشرعي ومقبول من الجميع.
لكن هذه المبادرة، التي بدأت في أيار/مايو 2023، لم تحقّق أي نتائج ملموسة حتى الآن، بل على العكس، تجمدت اتصالات اللجنة مع الحكومة السورية، وسط اتهامات متبادلة بين الأطراف المعنية بالعرقلة والتّعنت والتّمادي في العنف والانتهاكات.
في ظل هذا الواقع المأساوي، يبدو أن الحل السياسي في سوريا قد فشل، وأن البلاد تتجه نحو مستقبل مجهول ومخيف، ومن بين السيناريوهات المحتملة لهذا المستقبل، هو فكرة الفدرلة، أو تقسيم سوريا إلى مناطق ذاتية الحكم، تعكس التنوع العرقي والديني والثقافي للشعب السوري.
هذه الفكرة، التي تم تداولها من قبل بعض الدول الإقليمية والدولية، تستند إلى أن الفدرلة هي الحل الأمثل لحماية حقوق الأقليات والمجموعات المهمّشة في سوريا، ولإنهاء الفساد والاضطهاد الذي مارسته الحكومة السورية وحلفاؤها؛ ولكن ما هي التداعيات المحتملة لتبنّي فكرة الفدرلة على المستوى الإقليمي والدولي، ولماذا الأحداث الأخيرة تشير إلى أن فكرة الفدرلة أصبحت مطروحة لحل أزمة سوريا.
لماذا جُمّدت الاتصالات مع دمشق؟
الأردن بشكل رسمي يستخدم سياسة العمل المتدرج في العلاقة مع حكومة دمشق منذ عام 2018 بشكل مباشر، لكن بعد الإرهاصات الأخيرة والتصريح العلني لوزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي، أنه بعد الحوار مع دمشق زادت عمليات تهريب المخدرات، وعليه سيتم التعامل مع هذا التهديد، هو ما يفسر حديث الملك الأردني في نيويورك عن عدم قدرة القيادة السورية على التحكم بما يجري في بلادها، وعن تراجع سيطرة بشار الأسد على القرار في سوريا.
الحديث الأردني الذي كان على المستوى الإعلامي منذ نهاية تموز/يوليو الفائت، وثم انتقل إلى النّخب السياسية، انعكس على الجارة الغربية لسوريا، حيث صدر عن جهاز العلاقات الخارجية في حزب القوات اللبنانية، أمس الاثنين، بيان ذكر فيه أنه لا يمكن للشعب اللبناني انتظار الحل السياسي في سوريا للبدء بإعادة السوريين الى بلادهم.
المزاعم التي ساقتها الوكالة الروسية حول سبب تجميد اللجنة اتصالاتها يعكس رؤية دمشق للمبادرة العربية وكيف تريد تسييرها على هواها، بعيدا عن الأسباب التي أجبرت اللجنة على تجميد الاتصالات كثيرة وفي مقدمتها زيادة نشاط تهريب المخدرات، وعدم مضي حكومة دمشق بتنفيذ القرار الدولي “2254”.
غياب الثقة.. تتسق مع الفدرلة
بنظرة سريعة خارجية لسوريا أو ما تسمى جيوبوليتيكيا رؤية “عين الصقر”، فإن سوريا حاليا مقسّمة إلى خمس مناطق، في الجنوب هناك أهالي السويداء يطالبون بتطبيق القرار “2245” وفتح معبر مع الأردن وكان سابقا عدة هيئات سياسية طرحت فكرة اللامركزية والفيدرالية، ما يدل على أن الوضع ممهد له سابقا.
في شمال شرق سوريا تدير “الإدارة الذاتية” الكردية مناطقها باستقلالية تامة منذ عام 2016، وفي شمال غرب سوريا حيث تتواجد القوات التركية، هناك حكومتان، الأولى، تابعة كليا لأنقرة تحت مسمى “الحكومة المؤقتة” والثانية، تسيطر على إدلب وتُعد الذراع المدني لـ”هيئة تحرير الشام” (جبهة النصرة) سابقا، وهذه المناطق مستقلة ذاتيا وتجارية عن حكومة دمشق.
أما المناطق التي تتواجد فيها حكومة دمشق التي لا يعلو كعبها فيها إلا على الشعب، فإن الخط من العراق شرقا حتى لبنان غربا تسيطر عليها إيران وميليشياتها، في حين أن الشمال الغربي المطلّ على البحر المتوسط، فهو تحت السيادة الروسية، أما الوسط والجنوب الغربي، فهذه المناطق تعتبر تحت إدارة “حزب الله” اللبناني وحليفته “الفرقة الرابعة” التي يقودها ماهر الأسد شقيق الرئيس السوري بشار الأسد.
نتيجة انعدام الحل الدولي سابقا والعربي مؤخرا، وعلى السياق التداول الأردني مع الأزمة السورية، بدأت وسائل إعلامية تتداول خرائط عن تقسيم فيدرالي لسوريا يضم خمس مناطق، وهذا يشير إلى أن فكرة الفدرلة باتت مطروحة على الطاولة الدولية من أجل حلّ المشاكل التي لم تستطع دمشق حلّها.
سويسرا هي الأخرى دولة فيدرالية تتكون من 26 كانتونا، تأسست على أساس الدستور الفيدرالي الذي وضع في عام 1848، وهي أحد أهم تجارب الفيدرالية في أوروبا، وتعتبر مثالا للحياد والتعاون والديمقراطية المباشرة، أيضا كندا هي دولة فيدرالية تتكون من 10 مقاطعات وثلاثة أقاليم، تأسست على أساس الدستور الفيدرالي الذي وضع في عام 1867، وتعتبر ثاني أكبر دولة فيدرالية في العالم من حيث المساحة.
فشلت “دبلوماسية الكبتاغون”
آثار فشل الحل السياسي في سوريا على الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي في البلاد هي كارثية ومأساوية، فعلى الصعيد السياسي، يعني فشل الحل استمرار الحرب والعنف والانتهاكات، وتعميق الانقسام والتناحر بين الأطراف السورية، وزيادة التدخل والتأثير من قبل الدول الإقليمية والدولية، وتقويض السيادة والوحدة والاستقلال الوطنيين، وتهديد الأمن والاستقرار الإقليميين والدوليين.
أما على الصعيد الاقتصادي، يعني تدهور الوضع الاقتصادي والمعيشي للشعب السوري، وانهيار البنية التحتية والمؤسسات والخدمات العامة، وارتفاع معدلات الفقر والبطالة والتضخم والفساد، وتفاقم العجز والدين العامين، وتعرّض الاقتصاد السوري للعقوبات، وعلى الصعيد الاجتماعي، يعني تزايد أعداد اللاجئين والنازحين داخليا وخارجيا، وتدمير النسيج الاجتماعي والثقافي والتاريخي للشعب السوري.
الباحث والخبير السياسي، وليد طوقان، يرى أن تفسير تجميد اللجنة التابعة لـ “جامعة الدول العربية” اتصالاتها مع الحكومة السورية بأنه انعكاس لفشل مبادرة “الجامعة” في إيجاد حلّ سياسي للأزمة السورية، وبأنه دليل على عدم الجدّية والمصداقية والكفاءة من قبل دمشق في القيام بمهمتها، وبأنه نتيجة للضغوط والعراقيل والمصالح المتناقضة من قبل حلفائها.
الأحداث الأخيرة بحسب حديث طوقان لـ”الحل نت”، التي تشير إلى أن فكرة الفدرلة أصبحت مطروحة لحل أزمة سوريا هي؛ تلميح بعض الدول الإقليمية بأن الحل مع سوريا فشل، وظهور خرائط عن تقسيم فيدرالي لسوريا يضم خمس مناطق، وتفسر هذه الأحداث بأنها محاولات للتكيف مع الواقع المتغير في سوريا، وللبحث عن حلول بديلة للحل السياسي الذي فشل، وللتّصدي للتحديات والمخاطر التي تواجه سوريا والمنطقة، وللتأثير على مستقبل سوريا وشعبها.
كما أن هذه الدول تخشى من تداعيات الفدرلة على استقرارها الداخلي ووحدتها الوطنية، خاصة في ظل وجود أقليات عِرقية ودينية وطائفية في بعضها، لذلك فإن هذه الدول تفضل الحفاظ على الوضع الراهن لكن بشكل أقل من النظام الفيدرالي المتعارف عليها دوليا للبحث عن حل شامل يضمن سيادة ووحدة الدولة السورية.
أزمة على الطاولة
تقسيم سوريا إلى خمس مناطق في إطار فكرة الفدرلة هو اقتراح واحد من بين عدة اقتراحات مطروحة لإنهاء الصراع، هذا الاقتراح يقوم على توزيع السلطة والموارد بين مناطق متميزة جغرافيا وديموغرافيا وثقافيا، وهي منطقة الساحل الغربي، ومنطقة الجنوب الغربي، ومنطقة الشمال الشرقي، ومنطقة الشرق، ومنطقة الوسط.
من الممكن أن يكون لهذا الانقسام مزايا وتحديات محتملة تبعا لحديث طوقان، فمن بين المزايا هي إنهاء الحرب والعنف والدمار الذي أودى بحياة مئات الآلاف وشرد ملايين السوريين، وإعطاء الفرصة للمجتمعات المحلية للمشاركة في إدارة شؤونها وتحقيق مطالبها وحقوقها، وتعزيز اللامركزية والديمقراطية والتنوع والتسامح في الحياة السياسية والاجتماعية، وتحسين العلاقات مع الدول المجاورة والإقليمية والدولية على أساس الاحترام المتبادل والتعاون المشترك.
أما التحديات التي تواجه هذا المشروع، هي صعوبة تحديد الحدود والاختصاصات والمسؤوليات بين المناطق والحكومة المركزية، وخطر الانفصال والتمزق والتقسيم النهائي للدولة السورية وفقدان هويتها وسيادتها، وتعقيد الوضع الأمني والعسكري والإنساني في ظل وجود جماعات مسلحة وتنظيمات إرهابية وقوى خارجية متدخلة في الأراضي السورية.
في حالة سوريا، فإن هذه الشروط والضمانات غير متوفرة، أو متوفرة بشكل جزئي ومحدود، فالحكومة السورية ترفض أي فكرة للفدرلة أو التقسيم، وتعتبرها مخالفة للسيادة الوطنية والوحدة الإقليمية، وتحاول فرض سيطرتها على كل الأراضي السورية بالقوة والعنف، والمعارضة السورية مشتتة ومتنازعة، وليس لديها رؤية واضحة وموحّدة للحل السياسي، وتعتمد على الدعم والتدخل من قبل الدول الإقليمية والدولية، التي لها مصالح وأجندات مختلفة ومتضاربة في سوريا.
لذلك يرى طوقان أن الفدرلة ليست حلّا ممكنا أو مرغوبا لحكومة دمشق في الوقت الحالي لأنه في الحالتين يشير إلى تنحية الأسد وعائلته، وهذا ما تفسره الرسالة المبطنة لزوجة الرئيس السوري، أسماء الأسد، في بكين أمس الاثنين، والتي ذكرت فيها “نخوض حربا دفاعا عن وجود بلادنا وحرية قرارها”.
حتى الآن لا يوجد تأييد دولي واضح وموحد لفكرة الفدرلة في سوريا، بل تختلف مواقف الدول الدولية حسب مصالحها وأجندتها في الأزمة السورية، بعض الدول ترفض الفدرلة جملة وتفصيلا، وتعتبرها خطوة نحو تقسيم سوريا وتهديد للأمن الإقليمي والدولي، ومن هذه الدول تركيا وإيران والصين ودمشق، وبعض الدول تتبنى موقفا محايدا أو متحفظا، وتعتبر الفدرلة خيارا ممكنا للحل السياسي، شرط أن يكون بموافقة الشعب السوري وضمن إطار الوحدة الوطنية والسيادة السورية، ومن هذه الدول روسيا والولايات المتحدة والأمم المتحدة وبعض الدول الأوروبية، وبعض الدول تؤيد الفدرلة بشكل مباشر أو غير مباشر، وتعتبرها حلّا عادلا ومُنصفا للمكونات السورية المختلفة.
الحل