تراجع مستوى الحراك الشعبي المناهض لهيئة تحرير الشام ومتزعمها أبو محمد الجولاني، في مناطق سيطرتها ومناطق سيطرة الجيش الوطني، شمال غربي سوريا، نتيجة سياسات الهيئة القائمة على المواجهة والاحتواء، ولكن بالرغم من ذلك، انطلقت مظاهرة ليلية حاشدة ضد الهيئة وقائدها، جابت شوارع مدينة إدلب، طالب خلالها المتظاهرون بإسقاط “الجولاني” والإفراج عن المعتقلين الذين اعتقلوا في إدلب ومحيطها.
وارتفع عدد المعتقلين خلال اليومين الأخيرين إلى 5 أشخاص، حيث اعتقل جهاز الأمن العام التابع لهيئة تحرير الشام، أمس، بحسب مصادر محلية، 3 أشخاص بشكل تعسفي وذلك في مناطق متفرقة في إدلب وريفها، لأسباب غير معروفة، واقتادهم إلى أحد المراكز دون معرفة مصيرهم.
وقال المرصد السوري لحقوق الإنسان إن هيئة تحرير الشام ممثلة بجهازها الأمني تستمر بحملات مداهمة في مناطق نفوذها، وهذه الحملات تطال المدنيين والمعارضين لسياستها، والمحرضين على المظاهرات المناوئة لها والمشاركين فيها.
وكان جهاز الأمن العام التابع لهيئة تحرير الشام قد اعتقل أمس الأول، ناشطين بالمظاهرات في ريف إدلب، حيث جرى اعتقال الأول وهو رجل مسن، في مكان إقامته بمدينة سلقين، بتهمة تحريض الأهالي على المظاهرات ضد “الجولاني” وقيادات تحرير الشام، كما اعتقل شرعياً انشق عن هيئة تحرير الشام، وذلك في بلدة الفوعة بريف إدلب.
وتشهد مناطق سيطرة هيئة تحرير الشام في إدلب ومحيطها احتجاجات مستمرة منذ 25 فبراير/ شباط من العام الجاري، تطالب بإسقاط أبي محمد الجولاني، وحلّ جهاز الأمن العامّ وإعادة هيكلته، وإطلاق سراح معتقلي الرأي، ورفع يد الهيئة عن المؤسسات المدنية والإدارية وإنهاء حالة الاحتكار للموارد الاقتصادية.
ويرى مراقبون وخبراء لـ”القدس العربي” أن الوضع المضطرب في إدلب “غير مطمئن”، لا سيما أن المطالب الشعبية تصر على إسقاط الجولاني، وهو مطلب “مستحيل” معتبرين أنه لا خيارات متاحة سوى “عقد جلسات تفاوضية بين قادة الحراك الشعبي والهيئة، تحت سقف وجود الجولاني ومحاولة تقييد صلاحياته”.
مدير مركز جسور للدراسات الاستراتيجية، محمد سرميني تحدث لـ “القدس العربي” عن مسار الاحتجاجات ومآلات الأوضاع في إدلب، لافتاً إلى أن بداية هذا الحراك شهد اتساعاً سريعاً من حيث عدد نقاط التظاهُر والمتظاهرين، حيث سجل في جمعته الأولى بتاريخ 1 مارس/ آذار 5 نقاط تظاهُر ارتفع هذا العدد في جمعتها الثانية إلى 15 نقطة تظاهُر في مدن وبلدات مختلفة من ريفَيْ إدلب وحلب الغربي، وبعد هذا الاتساع السريع دخل المسار الاحتجاجي حالةً من الثبات النسبي من حيث أعداد نقاط التظاهُر والمتظاهرين استمرت مدّة شهرين.
مع دخول الاحتجاجات شهرها الثالث وزيادة التنسيق بين مكوناتها استطاع الحراك كسر حالة الثبات والمراوحة، وبدأت الاحتجاجات وفق المتحدث بالتوسع من حيث عدد نقاط التظاهر التي وصلت إلى 20 بتاريخ 3 مايو/ أيار في جمعة “لا شورى حتى إسقاط الجولاني”. في غضون ذلك، بدأ الحَراك تنظيم المظاهرات المركزية، وكان أكبرها مظاهرة مدينة إدلب إضافةً للمظاهرتين المركزيتين في جسر الشغور ومخيمات أطمة، وفي 8 من الشهر نفسه، أعلن عن تشكيل تجمُّع الحَراك الثوري الذي يمثل عدة تيارات، وفي 12 من الشهر ذاته أعلن الحراك عن أول اعتصامٍ له مقابل المحكمة العسكرية في إدلب في محاولة لاعتماد أساليب احتجاج جديدة أكثر تأثيراً على الهيئة.
وقال سرميني: “أثار اتساع الحراك وتطوُّره مخاوف الهيئة، ما دفعها لاعتماد مقاربةٍ جديدةٍ تقوم على استعمال الحل الأمني نسبياً، حيث قامت في 14 أيار/ مايو بفض اعتصام المحكمة العسكرية، ونشرت في اليوم ذاته قواتها في معظم المدن ومحاور الطرقات الرئيسية، بهدف التعامل مع أي ردة فعل شعبي على فضّ الاعتصام، وبالفعل، قامت هذه القوات بتاريخ 17 مايو/ أيار بقمع المحتجين في جسر الشغور وطريق “إدلب – بنش” ومنعهم من القيام بمظاهرات مركزية، ثم بدأت سلسلة من الاعتقالات لمحركي الاحتجاجات”.
وأضاف المتحدث أن الهيئة مارست بالتوازي مع الحلّ الأمني ضدّ الاحتجاجات، سياسة الاحتواء تجاه الحَراك، من خلال إظهار الاتفاق على التفاوض مع قادة الحَراك؛ حيث أعلنت قبولها لتوصيات مبادرة الإصلاح العامّ إثر حوادث الاعتداء المسلّح من قِبل الهيئة في كل من جسر الشغور وطريق “إدلب – بنش”، وقامت بسحب مجموعاتها العسكرية لفتح باب التفاوض لكن بغرض استغلاله وتحويله لصالحها؛ وتمكّنت من إفشال المفاوضات مع قيادة الحَراك، وسرعان ما فتحت مسارات تفاوُض مع الكُتَل المناطقية والتيارات داخل الحَراك، كلّ على حِدَة. كما “أنّ ردّة فعل المجتمع المحدودة على فضّ اعتصام المحكمة العسكرية، وقمع المحتجين في جسر الشغور وطريق “إدلب – بنش”، إضافة إلى عدم الاستجابة لدعوى العصيان المدني التي أطلقها تجمُّع الحَراك بتاريخ 24 مايو/ أيار إثر قيام الهيئة باعتقال عدد من المحتجين، كانت عاملاً مشجعاً للهيئة على الاستمرار بسياستها القائمة على الجمع بين الاحتواء والمواجهة”.
ولفت سرميني إلى أن الحَراك آخذ بالتراجع التدريجي بسبب سياسات الهيئة القائمة على المواجهة والاحتواء، لكن ذلك لا يعني وفق رأيه “قدرتها على إنهاء الاحتجاجات، لأن استعمال القوة والحل الأمني قد يدفع مزيداً من الشرائح الاجتماعية للانضمام للاحتجاجات أو على الأقل تقديم الحماية إليها بأساليب مختلفة، لا سيما أن الأوضاع الاقتصادية والمعيشية المتردّية يمكن أن تضفي مزيداً من الاستياء على أداء الهيئة وسلوكها، مع غياب آفاق الحلّ السياسي الذي يُمكن أن يُعزز من حالة اليأس، ويدفع لموجات احتجاج أكبر تكون فيها الهيئة بموقع العاجز عن تقديم أي تحسُّن ملموس للواقع السياسي والاقتصادي والأمني”.
وحول التحديات قال: “يواجه الحَراك المناهض للهيئة تحديات مختلفة، حيث تغيب الرؤية السياسية الموحّدة لتياراته حول مرحلة ما بعد تحقيق أهدافه بإسقاط الجولاني وحل جهاز الأمن العامّ، إضافة لعدم تماسُك صفوفه الداخلية، فهو يضمّ تيارات وشخصيات متباينة فيما بينها، مما يُشكِّل ثغرة من الواضح أن الهيئة تعمل على استغلالها”.
ومع دخول الحَراك شهره الرابع وسط حالة من التراجع التدريجي لأسباب ذاتية وموضوعية، اعتبر مدير مركز جسور أن ذلك يقلل من قدرته على استقطاب فئاتٍ مجتمعية جديدة إليه، في ظل استمرار مساعي الهيئة لإفشال محاولات تطوير أساليبه ومنع تحوُّلها إلى اعتصامات ومظاهرات مركزية والحيلولة دون تماسُك الحَراك وتياراته الداخلية.
القدس العربي