د. كمال اللبواني
قبل أن ينزّل الله النفس الإنسانية من عالم الغيب إلى عالم الشهادة ، جمع الملائكة وقال لهم ، إني جاعل في الأرض خليفة … قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء … قال إني أعلم ما لا تعلمون . …
فالنفس الإنسانية التي سكنت جنة الخلد والتي لم تعرف الخطيئة ولا الخير والشر ، دخلت في امتحان عندما نزلت للحياة الدنيا وارتدت جسد حيوان له نوازع ورغبات قد تكون في أسفل ما خلق الله نظرا لكونها عارفة وذكية ، فلو تحكمت الشهوات والنزعات الحيوانية في نفس الإنسان لظهر منه ماهو أسفل وأحط من أي سفالة عرفتها الحياة الحيوانية والوحشية … وهكذا تكونت الإنسانية من نفس انسانية واحدة هي جدنا آدم وخلق منها زوجها وارتدت جسدا من طين ، ثم تكاثرت الأنفس ودخلت في امتحان اسمه الحياة ، لكي تنتهي وتغادر هذا الجسد وتعود لبارئها حاملة معها سجل حياتها الحافل …
كلنا يعلم نوازع النفس وكلنا يعلم حاجات الجسد ، وكلنا مسؤول عما وهبه الله ، ولم يطلب الله من البشر أن يصبحوا ملائكة ، بل فقط ألا يستخدموا ذكاءهم وعقلهم الذي ميزهم وفضلهم به عن الكائنات جميعا ، في رفع سوية الوحشية التي تقبع في الحيوان الذي يرتدوه ، فلو كانوا قردة خاسئين لما استطاعوا الوصول لدرجة الهمجية التي يصلها الإنسان الذكي … الذي يستطيع بالقليل من الجهد والصبر أن يتجاوز ذاته الحيوانية دون أن يلغيها بل يطوعها لتسود عليها النفس العارفة بالخير والشر ، لكنه أحيانا ينحدر أو غالبا ما يهبط لدرجات من الانحطاط تفوق كل ما يمكن لغابات الوحوش أن تبديه … وما يساعد على ذلك عدة عوامل منها ذكاءه ، ومنها قدرته على التخطيط والعمل ، ومنها المؤسسات والنظم العامة التي ينتمي اليها …
وعندما نرى ما نراه ونسمع ما نسمعه عما يجري الآن في سوريا وعلى يد أبنائها نفهم معنى القسم الثاني من الآية التي تتحدث عن سفالة الانسان …
سنكتفي بممارسة واحدة : جماعة النظام يخطفون الأبناء ويخفونهم ويقومون بتعذيبهم حتى الموت وبكل أنواع التعذيب والتمتع بهذا التعذيب ، ثم يخفون جثثهم في مكبات القمامة … ومن يقوم بذلك ؟؟؟ إنها مؤسسات الدولة المكلفة بحمايتهم والسهر على راحتهم … وكم يعاني هؤلاء الضحايا ، وكم تعاني أسرهم … شيء يفوق الوصف … فالخطف والاخفاء يجعل عذاب الأهل يومي بل لحظي ودائم لدرجة مدمرة … ويجعل تجاوزه أو نسيانه أمر مستحيل ، لأن الأمل يبقى ويجدد الجرح … وهي سياسة ابتدعها المرجوم حافظ الذي تعمد الصمت عن كل المعتقلين لديه بل أنكر وجودهم … ومات منهم من مات ، وخرج من خرج … لكن بعد عقود … عقود من التعذيب والشقاء تفوق كل تصور … وها هو الولد الابن يكرر فعلتة ابيه و على نطاق واسع وبشكل منهجي واعتباطي ، حتى يمكننا تأكيد أن عدد من تعرض للخطف والاخفاء على يد أجهزة الأمن ( مؤسسسات الدولة التي يريدون الحفاظ عليها ) يفوق مئتي الف انسان من خيرة شباب سوريا .
هذا نوع واحد من الجرائم تكفي جريمة واحدة منها لكي تحاكم المؤسسة كلها وتستقيل السلطة المسؤولة عنها وتجرم وتدخل السجون . فكيف إذا كانت هذه سياسة دولة ، كيف إذا كانت الجريمة ضد الإنسانية سياسة رسمية معلنة ومنفذة من قبل النظام الحاكم في الدولة ، ماذا تتوقعون من الضحايا ، أن يقبلوا بحل سياسي معه ؟ ، لماذا ينتفض العالم لحرب داعش بعد ذبح مواطن أمريكي على يد مواطن بريطاني ، ولا يبحث عن حل سياسي معها ؟ بينما يريدنا أن نتوصل لحل سياسي مع قاتل شعب سوريا !.
ويحكم أعضاء الائتلاف ويحكم سياسيي سوريا ، ويحكم وسطاء الدول ، حكام العالم … ماذا دهاكم … السكوت عن هكذا جريمة هو اشتراك فيها ، فكم يكون اثم من يريد تقديم الحصانة لمرتكبها … أي انسانية وأي عالم تريدون لنا أن نعيش به … ألا يتسبب هكذا انحطاط وسفالة من حضرتكم بتبرير كل ما تفعله داعش وغير داعش … تحاربون الإرهاب بماذا ؟؟؟. بالقيم بالمبادئ بالأخلاق وبمنع الظلم !!!، أم بتشجيع الجريمة ضد الإنسانية … لا أقول لكم إلا ماقاله الله تعالى في كتابه الكريم ( ثم رددناهم أسفل سافلين )
الحق في الحياة ليس شيئا كميا بل إن حق الفرد يساوي حق البشرية ( ومن قتل نفسا بغير حق أو فسادا في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ) (والله لو اجتمعت أهل صنعاء على قتل امرء لقتلتهم به) ، كما أن التسامح والتنازل عن الحق قبل ظهوره وتحقيق العدل هو نوع من الجبن والنذالة والخسة، لذلك يبقى الثأر والانتقام هو الدرجة الأدنى من العدالة ، وفي حال تغييبها يصبح رادعا للجريمة أرقى من عودة الوحشية ، بل عمل نبيل يقبل عند الله . فإذا عجزتم عن تحقيق العدل ، فلا تساندوا المجرم بل دعوا الناس تنتقم منه بوسائلها … وأريحونا من تصريحاتكم وبياناتكم السلمية … فلا سلام الا بالعدل ولا اجتماع انساني يقوم على غيره … ومن دون العدل لا تتوقعوا سوى العار والذل أو الانتقام … فقد قيل :
ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلين
وقيل أيضا :
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى حتى يراق على جوانبه الدم
ومن لم يذ عن حوضه بسلاحه يهدم ومن لا يظلم الناس يظلم