د. كمال اللبواني
في ظل هذا المشهد الذي يتجه بالمنطقة نحو الفشل والفوضى الخلاقة ، كيف ستعيد هذه المنطقة رسم تركيبتها السياسية التي لا بد لها من التوحد ، بالتوافق مع اتجاه العالم للتمركز وذوبان الخصوصيات … وما هي آفاق كل هوية وحظوظها في البقاء على جدول الصراع والتنافس المحلي والعالمي الدائر بين الحضارات للفوز بكأس العولمة ؟ مع العلم أن الهوية عنصر متحرك متنامي ومترقي ومتغير ، لكنه لا يتبدل بالنفي .
الهوية العربية هي الوحيدة صاحبة الحظ في البقاء واستيعاب كافة الثقافات في المنطقة بالتنافس مع الثقافة العالمية الأنغلوساكسونية ، وهذا يتطلب منها المزيد من الانفتاح على صيغ جمعية ومدنية والتخلي نهائيا عن التعصب والانغلاق ، وبشكل خاصة محاربة التزمت الديني والارهاب . وتطوير نظم سياسية ديمقراطية اتحادية ، والانخراط في مشاريع تعاون اقليمي ، ومسارات لاعادة السلام والاستقرار في المنطقة .
الثقافة الأنغلوساكسونية تسير باتجاه تذويب الثقافات الغربية فيها ، أي الجرمانية والفرانكوفونية والروسية ، وحتى الشرقية كاليابانية … وهذا سهل نتيجة مساهمتها بالحضارة معا كشركاء في العالم المتقدم ، لكن الوجه الآخر للحضارة ( العالم المتخلف ) مرشح ليكون تحت راية الثقافة العربية وليس الصينية ، نظرا لتعقيدات اللغة الصينية وانعزاليتها ، وانتشار العربية وقوتها كلغة عالمية، وقبولها في معظم العالم الإسلامي، ولقدرة المجتمعات المسلمة على التمايز وعدم الذوبان … لذلك من المتوقع أن ينحصر التنافس في الدور النهائي بين الثقافتين الأنغلوساكسونية المسيحية في الغرب والشمال ، و بين العربية الاسلامية في الشرق والجنوب الذين يشكلان قطبي التناقض الحقيقي في العالم … في دوري السباق نحو ثقافة عالمية واحدة وحضارة معولمة . فالثقافة الوحيدة التي تشكل ضدا فعالا ، والقادرة على تقديم النقد الجدي للحضارة الغربية الطابع ، هي الثقافة الشرقية العربية ، وستجد الهويات المتضررة وغير الراغبة في الانصهار الدوني الاستلابي بالهوية الثقافية الأنغلوساكسونية نفسها تنضم لخيمة الثقافة العربية المواجهة لهيمنة النمطية الغربية … لذلك يرجح أن تشهد الثقافة العربية تطورا بارزا باطراد رغم العولمة واضمحلال بقية الثقافات . وهذا يلقي مسؤوليات جسام على العرب والمسلمين … حتى يكونوا قادرين على تطوير الذات والأشكال بما يتناسب مع الدور المتعاظم ، وبما يضمن مصالح الثقافات المتحالفة معهم ، وبما يؤدي لتقديم بدائل أكثر تحضرا ، لأن التاريخ لا يسير نحو الوراء .
نتوقع هذا بالرغم من كل الواقع المتردي والصراعات التي يشهدها العالم العربي والاسلامي ، فهو يملك امكانيات كبيرة للصعود الحضاري كمنافس للحضارة الغربية يجبرها على تجاوز نمطيتها الأحادية … لذلك يمكننا اعتبار كل ما يحدث الآن في كل الشرق الأوسط الكبير بمثابة آلام ولادة ، وليس علامات احتضار . وتشكل سوريا ساحة هذا التفاعل الخلاق والمؤلم ، ودمشق العاصمة العربية الأقدم مركزها .
وهذا الوجوب يتطلب أن يُكْمل العامل الذاتي الإمكانات الموضوعية المتوفرة:
نتيجة :
لا نُنظّر هنا لسيادة الثقافة العربية كما يفعل القوميون ولا لصراعها التناحري مع الثقافة الغربية كما يفعل الصليبيون ونظرائهم من الإسلاميين ، ولكن ننظّر لدورها الطبيعي المفترض لتشكيل معارضة جدية وفاعلة للثقافة الغربية التي تسعى لفرض ذاتها كشكل وحيد ملزم للعولمة … ولقدرتها على حمل التراث والخبرات الإنسانية الأخرى ، ومساهمتها في تحديد صورة العالم المتحد القادمة . ولا تستطيع ثقافة أخرى في العالم قيادة معارضة ايجابية للثقافة الغربية تنتهي بالتصالح معها على صيغ كونية تحتوي معظم الخبرات الحضارية الإنسانية عبر التاريخ والجغرافيا.
ما يزال الربيع العربي في طور تفكيك بنى الماضي المستبد والمصطنع والمتخلف التي تعيق تقدمه ، وما تزال عوامل التخلف تتصارع وتتفانى ، لكن أهداف الربيع الحقيقي المتناسبة مع المصالح الثابتة هي ما ذكرناه في بند العامل الذاتي السياسي والثقافي … التي يجب أن تبقى كأهداف نسعى اليها في مسارنا المتعرج على طريق العودة للحضارة .