يثب

من قتل الحريري ؟

د. كمال اللبواني

Kamalينشغل الجميع اليوم بنتائج تحقيقات القاضي الألماني ميليس في قضية مقتل الحريري ، وتنطلق الشائعات والتكهنات , وتدور النقاشات حول التفاصيل . وكأن القضية تحتاج للكثير من الذكاء ، فالذي قتل الحريري بكل وضوح هو النظام السياسي العربي الذي سبق له وقتل السياسة , بمعنى : حرية التعبير وحق المشاركة في الحياة السياسية وحق الاختلاف وشرعية المعارضة ثم التداول السلمي للسلطة . لكي تصبح قاعدة العمل السياسي الراهن , هي أن تكون قاتلا أو قتيلا , سجانا أو سجينا , متآمرا سرا وإرهابيا أو حاكما بالقمع ، أن تكون جلادا ومتجبرا وفاسدا ومفسدا ، لكي لا تكون مجبرا على أن ترقص لغيرك وتهتف باسمه وتتوسل إليه لقمة الخبز ..
المسألة التي يتهرب الجميع من مواجهتها والتطرق إليها هي : حقيقة النظام السياسي العربي الذي يفرض نفسه على كل من ينخرط في العمل السياسي أو يجد نفسه في موقع سلطوي سعى إليه أم جاءه دون سعي .. المسألة هي آلية العمل السياسي وآلية ممارسة السلطة وكذلك المعارضة , فجريمة اغتيال الحريري ليست سوى واحدة من عشرات آلاف الجرائم ، و الحريري واحد من ملايين الضحايا الذين ذهبوا ضحية العنف السياسي وحكم الطغيان , وقصة مقتل الحريري واحدة من ملايين القصص المرعبة التي نتداولها كل يوم ، وما تثيره تلك القصص من خوف وألم وكراهية , وما يتولد عنها من ردود فعل مشابهة تقوم بها المعارضات أحيانا ، وساحة الجريمة ليست في لبنان وحده بل في طول الوطن العربي وعرضه , حيث هناك مشهد واحد لنمط واحد من الإجرام المستمر ، فلماذا يقتصر التحقيق الدولي على مقتل الحريري فقط ؟؟ طالما أنه لا تخلو بقعة أرض واحدة من جريمة أو مجزرة ارتكبناها نحن بأيدينا نحن بحق أخوة لنا ، ووسط بيروت خير شاهد على ذلك .
بكل تأكيد الحريري لم ينتحر أو يفجر نفسه , هناك من فجره ولأهداف سياسية , وهذه جريمة إرهاب دولي بموجب قوانين الأمم المتحدة ، وفاعلها يستحق العقاب ، وهذا أمر لا خلاف عليه ، لكن هذا الفاعل ألا ينتسب لمؤسسة يلعب فيها دورا ويخضع فيها لإكراهات وتفرض عليه خيارات . وإذا كنا معنيين بكشف الخلل والعطل , فلماذا لا نتطرق للمؤسسة السياسية الحاكمة والمعارضة أيضاً لنحاكمها ؟ والتي كان الحريري والمطالبين بدم الحريري ركنا مشاركا فيها , وما يزالون ، وأيديهم ملوثة بذات الفصيلة من الدم , وجيوبهم مليئة بذات النوع من المال ؟ ولماذا لا نحقق في جرائم كثيرة مشابهة سبقت وتلت هذه الجريمة ؟
الجريمة العادية يقوم بها إنسان منحرف البنية النفسية أو الرغبات والسلوك . لكن الجريمة السياسية يقوم بها أناس أسوياء , ويتمتعون بقدرة كاملة على ضبط النفس , ويعملون ضمن مؤسسة كبيرة ورسمية ، تجعلهم يؤدون أدوارا جزئية في عمل جماعي عام يسلب منهم حرية اتخاذ القرار الفردي . وبذلك تنخفض سوية مسؤوليتهم الفردية لصالح المسؤولية الجماعية, حيث لا أعتقد أن أي إنسان آخر سوف يسلك سلوكا مختلفا كثيرا عما سلكه غيره , لو وجد نفسه بذات الظروف وقبل الانخراط بتلك اللعبة ، فالمشكلة ليست في طبيعة الأشخاص بل هي أكثر في وسائل عملهم ونظام مؤسساتهم ، والمسؤولية أولا يجب أن تتحملها المؤسسة الأمنية الحاكمة التي تحولت إلى عصابة إجرام ، لا تتورع عن ارتكاب الجرائم بحق مواطنيها وشعبها ، وتمارس ضدهم أبشع أنواع التعذيب والخطف والاحتجاز والقتل وكل أشكال الاضطهاد ، وأن يتحملها ثانيا الجيش الذي ترك الدفاع عن الحدود وشن حربا على مجتمعه واحتل العاصمة والمناصب السياسية ، وسلب الثروة والحقوق من مواطنيه ، ومن بعدهم الشعب أيضا الذي قبل بوجودهم كمؤسسات وطنية ولم يتمرد عليهم ويرفض التعامل معهم ويفككهم .
نحن , ولأننا من مستوى الرعية ، نأسف لأن قتل أو تصفية واحد منا لا يحظى بالاهتمام الذي يحظى به قتل واحد من النخب العصبوية الحاكمة ، ولا سجن واحد منا له تلك الأهمية ، ونصرخ في وجه العالم عندما يريد اقتصار التحقيق والمحاسبة على جريمة واحدة ، و على شخص الفاعل المباشر ، دون محاكمة النظام الذي اعتاد أن يحول حياتنا لجحيم طيلة عقود . نحن سنقبل بنتائج التحقيق فقط إذا كانت نموذجا يميط النقاب عن الحقيقة ، وإذا تبعها اتخاذ قرار صريح وواضح من الأمم المتحدة يلزم السلطات المتعسفة بإطلاق الحريات العامة و إجراء انتخابات تعددية نزيه ، والقبول بنتائج صناديق الاقتراع . ومن دون ذلك ومهما كانت النتائج فهي لا تعنينا …! لأن الجريمة سوف تستمر بشكل أو آخر . كما أننا نطالب بحقنا في محاكمة ليس الفاعلين فقط , بل النظام ككل عما ارتكبه من أخطاء , لكي نتعلم من تاريخنا ولكي لا نكرر مآسينا .
اليوم يريدون محاكمة صدام ، وغدا غيره ، لكن أحدا لا يريد كشف حقيقة المؤسسة التي وجد صدام أو غيره نفسه يعمل فيها ، والتي تفرض عليه قواعد وشروط محددة : أهمها أن تكون جلادا أو سجينا ,قاتلا أم قتيلا , سارقا أو مسروقا ..أقصد المؤسسة السياسية العربية الديكتاتورية المتعسفة الفاسدة ، التي حكمت الحياة السياسية طيلة أكثر من نصف قرن , والتي دمرت كل إمكانية لحياة اجتماعية سياسية سلمية سليمة . لا أحد يريد أن يحمل الملايين من المشاركين في هذه السلطات أو المتعاونين معها أو الساكتين عنها نصيبهم من الجرائم ، ولا أحد يريد أن يحمل الشعوب مسؤولياتها تجاه هكذا أنظمة ، ولا أحد يريد أن يتطرق لدور المجتمع الدولي والدول الأجنبية الغربية تحديدا في وجود واستمرار هكذا أنظمة ، أو كشف مدى ارتباط مصالحها بسفك دماء المواطن العربي وسلبه حقوقه وحريته ..
أسوأ شيء في محاكمة صدام ومن سيليه ، هو عدم تسييس القضية , واعتبار أن الجريمة ارتكبها شخص أو أشخاص وتمت معاقبتهم وانتهى . وبذلك نظلم هؤلاء الأشخاص ونبرئ شركاءهم ، ومن جاء بهم , وساهم في إيجاد مؤسساتهم ، والأسوأ من ذلك أننا نحرم الضحية الحقيقية (الشعوب ) من حقها في الخلاص من هكذا ظروف وهكذا أنظمة تجبرها على أن تقسم أبناءها بين قاتل وقتيل , جلاد طاغية ورعية مستباحة , منتحر ومقتول صدفة ، شعوب قد لا تجد متنفسا لها في النهاية سوى العنف والكراهية ومن ثم الإرهاب والفوضى .. ثم بعد كل ذلك يتهموننا بأننا إرهابيون لمجرد أننا ننتمي لهوية أو نعتقد بدين .. فما دخل الهوية وما دخل الدين في النتائج الحتمية لسياسات الإجرام التي تمارس بحقنا .
لا يا أخوتي الذي قتل الحريري هو النظام السياسي الاستبدادي الشمولي المجرم المسؤول عن قصص الرعب التي تسمم حياتنا اليومية , والمسؤول عن قتل الحريات والحقوق , وعن سرقة المال العام , وتدمير الإنسان والأخلاق والبيئة , والذي يقتل السلم الاجتماعي والوحدة الوطنية والمستقبل والتاريخ على السواء ، نظام التدمير الشامل والمقابر الجماعية وأوطان السجون ، النظام السياسي العربي الذي هو الامتداد الطبيعي والشكل الجديد للاستعمار الحديث ، وللسياسات الدولية الخاطئه والمجرمة .. وتهمة قتل الحريري وبقية التهم ثابتة عليه قبل التحقيق وبعده ، و سواء أثبت التحقيق أن رجالا في الأمن اللبناني أو السوري أو الماليزي أو حتى أبو عدس قد قام بهذا التفجير الغادر في وسط بيروت , أو لم يثبت .
نحن نريد أن نكشف المجرم الحقيقي المسؤول عن جرائم يومية ومستمرة بحق كل مواطن وكل أسرة ، ونريد أن نحاكم هذا النظام ، ونستبدله بنظام آخر شفاف ، تحت رقابة وسلطة الشعب . ولا يهم بعدها ما يحصل للأفراد ، الذين بالرغم من مسؤوليتهم الفردية ، هم أيضا وبشكل من الأشكال ضحايا هذا النظام الذي نقف جميعا : شعوبا وحكام ,ثقافة وسياسة ,في الداخل والخارج , مسؤولين عنه ، وملزمين بتغييره وفاء منا لدم الحريري ولكل شهدائنا وضحايانا ، ولا يجب أبداً أن نتبرأ ولا نتهرب من تحمل مسؤوليتنا هذه أمام الله والتاريخ والإنسانية . 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.