يثب

معضلات الإصلاح ضبط الأمن في المراحل الانتقالية في الدول العربية

يزيد صايغ – باحث رئيسي

مركز كارنيغي للشرق الأوسط
دراسة 30 آذار/مارس 2016

  • تواجه الدول العربية التي تمر بمرحلة في مراحل انتقالية مهمة تبدو عصيّة على الحل: إعادة بناء مؤسّسات الدولة والعقود الاجتماعية في عصر التغيّر العالمي. ومن المؤكد أن الفشل سيكون مآل المقاربات التقليدية لإصلاح قطاع الأمن التي تعجز عن فهم المعضلات والتحدّيات التي تعرقل هذا الجهد، أو التي تختزله في علاقة مبسَّطة بين إصلاح قطاع الأمن وإرساء الديموقراطية.
  • إحتلّت الصراعات حول قطاع الأمن حيّزاً مركزيّاً في سياسات كل الدول العربية التي مرّت في مراحل انتقالية، غداة النزاعات المسلّحة أو الاضطرابات السياسية منذ أوائل تسعينيات القرن الماضي. وفي الأماكن التي لم تتم فيها إعادة تشكيل التحالفات النخبوية التي كانت قائمة قبل المرحلة الانتقالية، أو لم يتمّ استبدال هذه التحالفات، لم تعد قطاعات الأمن تخدم بوضوح نظاماً سياسياً واجتماعياً واقتصادياً مُهيمناً. في ضوء هذه السياقات، لاتستطيع النماذج النمطية المأخوذة عن الغرب لإصلاح قطاع الأمن، توفير حلٍّ مناسب لمعضلات كشفت الدول العربية التي تخوض مراحل انتقالية النقاب عنها، بل تقتصر قدرتها على تغيير هذه القطاعات بشكلٍ سطحي وحسب، إذن، ثمة حاجة إلى تغييرٍ شامل، لكن الحالة السياسية والمؤسسية الهشّة التي تشهدها الدول العربية التي تمرّ في مراحل انتقالية تشكّل عقبة كأداء

  • معضلات ضبط الأمن في الدول العربية التي تخوض مراحل إنتقالية
  1. الأُطُر الدستورية في هذه الدول مفكّكة والميدان السياسي يشهد استقطاباً حادّا، الأمر الذي يمنع بروز الحوكمة الفعّالة لقطاعات الأمن.
  2. قدرات الدولة تتراجع، الأمر الذي يقوّض قدرة قطاع الأمن على المساعدة في الحفاظ على النظام الاجتماعي والاقتصاد العادل (أو مايُسمّى منذ القرن الثامن عشر الاقتصاد الأخلاقي).
  3. إعادة تشديد هذه الحكومات على محاربة الإرهاب، فاقمت أنماط قديمة من السلوكيات العنيفة وإفلات قطاع الأمن من العقاب، مايعزّز مقاومة القطاع للإصلاح، في حين يدفع المواطنين إلى قبول عودة الممارسات السلطوية.
  4. فاقم تضاؤل موارد الدولة، وازدياد الاقتصادات غير الرسمية، وتراجع الشرعية، تكاليف إصلاح قطاعات الأمن وجعلها أكثر مهنيّة. ودفعت هذه التطوّرات قطاعات الأمن إلى التورّط في الفساد والتواطؤ مع الشبكات الإجرامية والجماعات المسلّحة، ماعزّز مقاومة هذا القطاع للإصلاح.
  5. لجأت أعدادٌ متزايدة من المواطنين إلى أشكال بديلة من ضبط الأمن المجتمعي وإلى آليات ترتكز على الأعراف، غير أن هذه الأنظمة تتآكل، ليحلّ محلّها في كثير من الأحيان هيئات هجينة تستند إلى الميليشيات

  • مستقبل مليء بالتحديات
  1. لايمكن أن يشقّ إصلاح قطاع الأمن طريقه، إلّا إذا رأت النخب السياسية والقوى المؤسّسية الرئيسة مصلحة مشتركة فيه. وبسبب غياب ذلك، انشقّت قطاعات الأمن وفق خطوطٍ طائفية وإثنية وحزبيّة، أو أكّدت على استقلالها الذاتي التام سعياً وراء أجنداتها الخاصّة.
  2. قواعد الشفافية العامّة وآليات الإشراف النمطية التي تدعو إليها مقاربات الإصلاح التقليدية، لايمكنها أن تتصدّى إلى الفساد أو النشاط الاقتصادي غير الشرعي في قطاع الأمن. أمّا الدول العربية التي تخوض غمار مراحل انتقالية، فهي على وجه الخصوص غير مستعدّة لأن تقوم بإصلاحات ضرورية لكن محفوفة بالمُجازفة، أو أن تفرض المساءلة.
  3. تتطلّب إعادة تأهيل وإصلاح قطاعات الأمن مقاربة غير متحزِّبة، وتعتمد على التوصّل إلى توافق معقول حول مكوّنات النظام الاجتماعي وحول مبادئ الاقتصاد العادل المقبول. في غياب ذلك، لن يكون للمساعدة التقنية والتدريب اللذين يُطرحان بشكلٍ روتيني في برامج الإصلاح من قيمة تُذكر

  • ضبط الأمن في العمليات الانتقالية غير المُكتملة

كشف الربيع العربي بصورة مثيرة مدى الغضب الشعبي تجاه قوى الشرطة وأجهزة الأمن الداخلي التي حافظت على الأنظمة الاستبدادية وحكومات الحزب الواحد، أو الحكومات غير التمثيلية. بيد أن الاستياء العميق من سلطة الدولة القسرية شكّل أيضاً عمليات انتقالية حدثت سابقاً، لدى خروج مجتمعات عربية أخرى من النزاع المسلّح أو من الاحتلال المباشر.

اتّخذت كل حالة مساراً مختلفاً. بيد أن المرحلة الانتقالية لم تؤدّ في أي منها إلى توافق دائم بين الأطراف السياسية الفاعلة الرئيسة أو في المجتمع عموماً في مايتعلق بدور قطاع الأمن والحوكمة فيه؛ وهو القطاع الذي يتكوّن من قوى الشرطة ومختلف القوات شبه العسكرية وأجهزة الأمن الداخلي والاستخبارات والجمارك، وغيرها من الإدارات التي تعمل في الغالب تحت الإشراف المباشر لوزارات الداخلية. ويبدو هذا جلياً في مايتعلق بضبط الأمن في أوسع معانيه: الدفاع عن النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي السائد؛ وقمع المعارضة؛ وإنفاذ القواعد الاجتماعية، وهو مايقوم به قطاع الأمن برمّته. وربما ينظر أفراد المجتمع عموماً إلى توفير مياه الشفة والكهرباء والخدمات البلدية بوصفها استحقاقات بديهية ومنافع عامة أساسية، ومع ذلك تتباين المفاهيم إلى حدّ كبير حول تحديد مايشكّل ضبطاً جيداً للأمن.

  • يتم استحضار هذه الاختلافات بقوة في مرحلة مابعد الصراع المسلّح، أو في أوضاع مابعد الاستبداد حيث تكون الدولة والعقد الاجتماعي منهارين، أو يجري إعادة التفاوض بشأنهما على كل المستويات، وغالباً وسط درجات متفاوتة من تدخّل القوى الإقليمية والدولية. وهذا هو السبب في أن العمليات الانتقالية في الدول العربية أثبتت أنها معقّدة ومطوّلة، إن لم تكن مستحيلة. فقطاع الأمن متورّط بحدّة في صراعات أوسع نطاقاً حول الأطر الدستورية، وأساليب العمل السياسي وترتيبات الحكم، والعلاقات والمعايير الاجتماعية التي يجب أن يجسّدها كل منها، الأمر الذي يربك عملية الإصلاح إن لم يعرقلها تماماً.
  • يشكّل انسداد الأفق هذا تحدّياً أساسياً للحكومات الغربية والمنظمات الدولية والجماعات الحقوقية المحلّية التي أصبح من البديهي بالنسبة إليها منذ أواخر التسعينيات النظر إلى إصلاح قطاع الأمن باعتباره جزءاً لايتجزأ من عملية إعادة الإعمار في مرحلة مابعد الصراع، والتنمية، والانتقال الديمقراطي. يركّز الإصلاح، بصورة تقليدية، على بناء المؤسّسات باعتبارها مفتاح ضمان التزام عناصر قطاع الأمن بسيادة القانون والإدارة الفعالة والمساءلة. ولذلك، يركّز الإصلاح أيضاً على تطوير القدرات الفنّية وتقديم الضمانات الإجرائية لتطوير إدارة الموارد البشرية والمادية على نحو يتّسم بالكفاءة والشفافية. وفي حين أن تجارب الدول العربية جديرة بالثناء من حيث القيم الأساسية والنتائج المرجوّة، فإنها تُظهر أن هذا النهج يخفق في معالجة المعضلات التي أحدثتها عملية الانتقال، ناهيك عن حلّها

  • ثلاث معضلات :

تعقّدت عملية إصلاح قطاع الأمن في الدول العربية بما لايقاس، بسبب إرث تلك الدول من الحكم الاستبدادي أو القائم على المحسوبية، وأيضاً بسبب النخب التي لاتخدم إلّا نفسها، وجماعات المصالح الاقتصادية ذات الامتيازات، والمؤسّسات العامة المختلّة وظيفياً أو المتدهورة. فقد طوّرت الأنظمة الاستبدادية في العقود السابقة للربيع العربي منظومات حكم جذبت معظم الأطراف والشبكات الفاعلة السياسية والاجتماعية والاقتصادية إلى فلكها، مادفعها إلى التكيُّف معها والتعايش مع متطلّباتها. وفي موازاة ذلك، قوبِلت الأعداد المتزايدة من السكان من ذوي الدخل المنخفض وفي المناطق النائية، الذين تم تهميشهم بسبب برامج التكيّف الهيكلي، واقتصادات الليبرالية الجديدة المَشوبة بالمحسوبية، والخصخصة الجائرة من ثمانينيات القرن الماضي فصاعداً، قوبِلت بالعنف الروتيني ذي الوتيرة المنخفضة من جانب قطاعات الأمن، وكثيراً ماعاقبتهم نظم القضاء الجنائي عندما قاوموها، مادفع الكثير منهم إلى اللجوء بدلاً من ذلك إلى أساليب غير رسمية لضبط الأمن والفصل في المنازعات. كان هذا واضحاً على وجه الخصوص في بلدان الربيع العربي التي شهدت انتقالاً في نهاية المطاف – في مصر وليبيا واليمن، ومع بعض التحفظات في تونس- أو محاولة انتقال- في البحرين وسورية. غير أن اتجاهات وديناميكيات مماثلة، انبثقت أيضاً بدرجات متفاوتة في العمليات الانتقالية (وإن الجزئية) في مرحلة مابعد الصراع والتي حصلت في الجزائر والعراق ولبنان والسلطة الفلسطينية.

  • السيولة الفائقة للمراحل الانتقالية في فترة مابعد الانتفاضة وما بعد الصراع، تجعل مهمة إصلاح قطاع الأمن صعبة للغاية

فبصرف النظر عن النهج المُتَّبَع تجاهه، يؤثّر الإصلاح على مصالح مروحة متنوّعة من الأطراف الفاعلة، وغالباً بطرق متناقضة. وعلى المنوال نفسه، فإن إصلاح قطاع الأمن – بل وتحوّله التام في الواقع – هو جزء لايتجزأ من عملية الانتقال الديمقراطي، ويجب أن يجري بالتوازي معها. بيد أن هناك ثلاث معضلات تقف في طريقه

تتعلّق المعضلة الأولى بالتسييس المُفرَط: مدى الأهمية السياسية التي يكتسبها كل جانب ومظهر ممكن من مظاهر العملية الانتقالية ليصبح السبب والهدف في نزاع الحصيلة صفر (فيه غالب ومغلوب)، الأمر الذي يؤدّي إلى شلّ الدولة، هذا إن لم يقوّض مفهوم الدولة نفسه. ذلك أن استعادة قطاع أمن فاعل كلّياً، ناهيك عن إصلاحه، يتطلّب تأسيس مستوى معقول من التوافق المجتمعي حول طبيعته ودوره (جنباً إلى جنب مع القوات المسلّحة) كجهاز قسري رئيس للدولة. غير أن هذا أمر صعب المنال في سياق السياسة المزدوجة حيث “يأخذ الفائز كل شيء ويذهب الخاسر إلى السجن”، ويزداد صعوبة عندما تكون طبيعة ودور الدولة نفسها أيضاً موضع نقاش.

  • أدّت السيولة الملحوظة في مرحلة مابعد الصراع والتحوّلات الديمقراطية على مدى العقدين الماضيين، والإرث القوي للسياسة المزدوجة والسياسات الإقصائية، إلى تسييس المناقشات حول قطاع الأمن إلى حدّ كبير. ونتيجة لذلك، وبسبب تراجع قدرة الدولة واتّساع رقعة الانقسامات الاجتماعية، أصبح العنف، بطريقة ما، أداة للتنافس السياسي بين الأطراف الفاعلة الجَهويّة أو الطائفية أو العرقية أو القبلية.
  • في المقابل، تعتمد الشرعية السياسية لحكومات مابعد المرحلة الانتقالية في الدول القوية بصورة متزايدة على وعودها بتوفير الاستقرار للمواطنين الذين ينظرون إلى ارتفاع معدلات الجريمة والإرهاب والفوضى الاجتماعية باعتبارها هموماً أكثر إلحاحاً من غياب الديمقراطية، أو سيادة القانون أو حقوق الإنسان. وبالتالي، ويذعن هؤلاء المواطنون إلى تجدّد الممارسات الاستبدادية.
  • إن إصلاح قطاع الأمن – بل وتحوّله التام في الواقع – هو جزء لايتجزأ من عملية الانتقال الديمقراطي، ويجب أن يجري بالتوازي معها. بيد أن هناك ثلاث معضلات تقف في طريقه
  • المُعضلة الثانية هي معضلة الاقتصاد السياسي. ومع أن إنفاذ القانون يعتبر في العادة مصلحة عامة واضحة وخالصة، يبدو الواقع أكثر تعقيداً. فمن ناحية، تتصل هذه المعضلة بتكاليف التحديث والتأهيل المهني لقطاعات الأمن والنتائج المحتملة للإصلاح على الأمن الوظيفي والرعاية الاجتماعية، إذا كان يتطلّب القيام بعمليات تسريح واسعة للموظفين. من ناحية أخرى، فإن أكثر من عقدَين من عمليات تحرير الاقتصاد المشوَّهة القائمة على المحسوبية، والخصخصة الجائرة في العديد من الدول العربية، حفّزت على ضلوع قطاع الأمن الواسع في الفساد والأنشطة الاقتصادية الإجرامية. وقد عزّزت المرحلة الانتقالية هذه الاتجاهات بصورة كبيرة، ماحوّل عناصر الشرطة وغيرهم من أفراد الأمن إلى مايُسمّى “مقاولي عدم الأمان”، إذ هم لايفرضون القانون بقدر مايتفاوضون حوله، وغالباً عن طريق الفساد وبيع الحماية.1
  • نتيجةً لهذه الديناميكيات، تتباعد الآراء والتوقعات بشأن الأهداف الرئيسة لضبط الأمن في المجتمع، مايُفضي إلى بروز المعضلة الثالثة. ذلك أن إنفاذ القانون يعني أكثر من مجرّد مكافحة الجريمة أو الحفاظ على السلم العام، إذ هو أساسي للحفاظ على النظام الاجتماعي والاقتصادي السائد. وهذا يتصل بالهياكل والقيم التي تضمن أمن الأشخاص والممتلكات وآليات حلّ النزاعات المتعلقة بها. كما يشمل مفاهيم مايشكّل اقتصاداً عادلاً، أي ماتعتبره فئات المواطنين أو المجتمعات المحلية توازناً عادلاً بين حقوقهم والتزامات النخب أو سلطات الدولة أو قوى السوق التي تشكّل حياتهم. لم يُضعف الانتقال في الدول العربية الآليات الرسمية لضبط الأمن والفصل في المنازعات وحسب، بل جعل أيضاً من الصعب أيضاً الاستمرار في التسويات والمقايضات التي سمحت في السابق للمفاهيم المتباينة للنظام الاجتماعي والاقتصاد العادل بالتعايش ضمن فضاء وطني واحد. وعلى العكس من ذلك، من المرجّح أن ترسّخ أي محاولة لإعادة بناء أو إصلاح قطاع الأمن (ونظام القضاء الجنائي المرتبط به) التوقعات المتباينة لمختلف القطاعات الاجتماعية بشأن القيم الاجتماعية التي ينبغي مراعاتها.
  • التسييس المفرط والسخط الناجم عنه :

تآكل أو انهيار النظم السياسية والنظام الدستوري في عدد متزايد من الدول العربية، لايفضي إلى بدائل واضحة. وهذا يتناقض مع حالات انتقالية تاريخية سابقة انتقلت فيها السلطة وتغيّر شكل الدولة، لكنها بقيت على حالها. كانت تلك التغييرات واضحة في الحقبة الاستعمارية حتى الاستقلال، ومن الحقبة الأولية لما بعد الاستقلال حتى الفترة الطويلة للحكومات المستقرّة، ولو أنها استبدادية عموماً، بعد العام 1970. لكن الآن، لم يعد هناك اعتراف ذو قيمة بالدساتير كإطار مُلزِم، أو كسلطة عليا لتنظيم التنافس السياسي وتخفيف حدّته.

 في ظل غياب القواعد والمجالات المقبولة عموماً لخوض السياسة سلمياً، سواء كانت رسمية أو غير رسمية، بات العمل السياسي يميل إلى اتّخاذ أشكال عنيفة أكثر فأكثر، وغالباً وفق انقسامات مجتمعية (سواء كانت طائفية أو عرقية أو قبلية أو جهويّة). وقد أدّى تركيز الحكومات المحلية ونظيراتها الإقليمية والدولية على مكافحة الإرهاب، مع استبعاد أي أجندة جدّية لإصلاح قطاع الأمن، إلى تعزيز الميل إلى تفضيل استخدام الإكراه في التعامل مع المعارضة السياسية أو الاجتماعية.

كانت نتيجة ذلك حدوث استقطاب حادّ لأي نقاش يتعلّق بقطاع الأمن في الدول العربية، الأمر الذي عرقل إجراء حتى التحسينات الأساسية، ناهيك عن إصلاحات بعيدة المدى.

  • ترسيخ معارضة الإصلاح : 

كانت الديمقراطيات الوليدة في الدول العربية مضطربة ومنفلتة، ماجعل استنساخ السياسة المزدوجة لحقبة ماقبل الانتقال أمراً لامفرّ منه تقريباً. وقد نشأت معظم الأحزاب السياسية والقادة الذين وصلوا إلى السلطة من خلال عمليات الانتقال الكبرى في أواخر القرن العشرين وأوائل القرن الحادي والعشرين في ظل الحكم السلطوي أو نظم الصراعات المسلّحة، وهو ماشكّل إلى حدّ كبير طبيعة تصوراتهم وأساليب عملهم. وعندما أصبحوا في الحكم، مالوا بصورة عامة تقريباً إلى اعتبار قطاع الأمن إما عدوّاً محتملاً يمكن استرضاؤه من أجل ضمان بقاء إداراتهم الوليدة، أو أداة يجب السيطرة عليها لإضعاف منافسيهم وتوطيد سلطتهم. وحتى في الحالات التي تم فيها إرساء ديمقراطية محدودة، عُزّز مفهوم ضيّق عن الديمقراطية مفاده أن “الفائز يحصل على كل شيء” ميل الأحزاب أو النخب الحاكمة الجديدة إلى تكييف مواقف أسلافهم ومقارباتهم تجاه قطاع الأمن، بدل استبدالها.

وكما تدلّ مراجعة المحاولات الجزئية والمتردّدة لإصلاح قطاع الأمن في تونس ومصر وليبيا واليمن بعد العام 2011، فإن حكوماتها المؤقّتة لم تمِل تلقائياً إلى الانفتاح، ولم تسْعَ بصورة منهجية إلى عقد حوار واسع مع قطاع الأمن (أو الشركاء والمنافسين السياسيين)، أو المجتمع المدني.2

توقعت جماعة الإخوان المسلمين المصرية وحركة النهضة التونسية، اللتان كانتا أكبر الأحزاب في الحكومات والبرلمانات الانتقالية في بلديهما، الانتقال من التهميش السياسي والإداري والاجتماعي والاقتصادي إلى بؤرة المركز، وعليه فقد سعتا على أبعد تقدير إلى تحييد وزارتي الداخلية. ونتيجةً لذلك، تجنّب كلا البلدين حدوث انهيار شامل، ولكن على حساب إبقاء المقاومة العنيدة لأي إصلاح من جانب القطاعات الأمنية. وأعقب تلك المقاومة نكوص إلى الثورة المضادّة في مصر ورفض علني للرقابة الحكومية في تونس.

  • إن حكومات تونس ومصر وليبيا واليمن المؤقّتة لم تمِل تلقائياً إلى الانفتاح، ولم تسْعَ بصورة منهجية إلى عقد حوار واسع مع قطاع الأمن.

تباين مسار الإصلاح أو إعادة الهيكلة بصورة كبيرة في ليبيا واليمن، حيث شهد كلا البلدين انهياراً مؤسّسياً في أعقاب المرحلة الانتقالية. فقد أصبحت الصراعات الهادفة إلى السيطرة على قطاع الأمن عنصراً أساسياً في السياسة الوطنية بعد العام 2011، ما أدّى إلى تقويض العمليات الانتقالية وفي نهاية المطاف إلى حرب أهلية في العام 2014. ففي ليبيا، وفي غياب التفاهمات السياسية والقيود المؤسّسية الثابتة، جرى اختصار إصلاح قطاع الأمن إلى حدّ كبير في عمليات تطهير واسعة لموظفي النظام السابق، مدعومة بقانون عزل امتدّ ليشمل المجالين السياسي والإداري أيضاً. كما تسبّبت ديناميكيات مماثلة في اليمن في عمليات تعبئة مضادّة مدمّرة عندما سعت فصائل النخبة المتنافسة إلى بناء قواعد دعم سياسي داخل قطاع الأمن وخارجه، من أجل إثبات ذاتها في ترتيبات الحكم الجديدة.

وجدت قطاعات الأمن في عدد من الدول العربية أن من الملائم سياسياً طرح ردّات فعلها الارتكاسية تجاه تحدّيات الإصلاح باعتبارها دفاعاً عن العلمانية في مواجهة سلطوية الإسلاميين المقبلة، ولاسترضاء جمهور محلّي محدود والحكومات الغربية، أو الحصول على دعم كلٍّ منها. والواقع أن ردّات فعلها هذه تكشف عن عدم الرغبة في الخضوع إلى إشراف وسيطرة أي نوع من السلطات المُنتخبة ديمقراطياً.

هذا الأسلوب في التفكير له سوابق تاريخية واضحة. ففي الجزائر، استولت أجهزة الأمن والجيش على السلطة في كانون الثاني/يناير 1992، عقب فوز الأحزاب الإسلامية في الجولة الأولى من الانتخابات البرلمانية. وهي فعلت ذلك لمنع الانتصار المتوقع للإسلاميين في الجولة الثانية، والذي كان سيدفعها إلى استبدال الحكومة القائمة منذ فترة طويلة. وبالمثل، رفضت قوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية إطاعة الحكومة الجديدة التي شكّلتها حركة المقاومة الإسلامية (حماس) بعد فوزها في الانتخابات العامة في كانون الثاني/يناير 2006، ماعجّل من سيطرة حماس بالقوة على قطاع غزة بعد عام وبروز شرخ دائم في السلطة الفلسطينية.3

تمثّلت المضاعفات المترتّبة على هذه الاتجاهات الاستقطابية في ترسيخ مقاومة الإصلاح كموقف تلقائي لدى قطاع الأمن في كل دولة عربية تمرّ في مرحلة انتقالية تقريباً، وتكريس عدم الثقة في إصلاح قطاع الأمن بين النخب السياسية والقطاعات الاجتماعية والفعاليات الاقتصادية، حتى عندما تكون هي المستفيدة منه.

  • العنف كعملة سياسية

إلى جانب هذه الصراعات في النظم السياسية، دفع تآكل الأمن الأساسي والعقود الاجتماعية الأطراف الفاعلة على أنواعها – الجهوية أو الطائفية أو الإثنية أو القبلية – إلى القيام بعملية تعبئة مضادّة. وقد شمل ذلك في كثير من الأحيان حمل السلاح وتحدّي سلطة الدولة مباشرة. وفي الوقت نفسه، سهّل اتّساع رقعة التصدّعات في مؤسّسات الدولة تشكيل هياكل أمنية موازية، وضاعف احتمالات وقوع أعمال العنف. وقد امتدّت ثقافة الإفلات من العقاب المتأصّلة في الأجهزة الأمنية الرسمية بسهولة إلى الأطراف المسلّحة غير الرسمية، التي إمّا كانت موجودة قبل عمليات الانتقال أو ظهرت في أعقابها، وأعادت إنتاج اللجوء إلى العنف والإكراه والقمع. وقد بات عكس هذه الديناميكيات ووقف الابتعاد عن المركز، من أصعب التحدّيات التي برزت في أعقاب الربيع العربي، كما حدث في حالات الانتقال السابقة في مرحلة مابعد الصراع في الجزائر والعراق ولبنان والسلطة الفلسطينية.

كانت هذه الاتجاهات واضحة جدّاً في ليبيا، حيث كانت الديناميكيات السياسية في أوساط العدد الكبير من الميليشيات، التي ظهرت بعد الانتفاضة ولدى فلول القوى الحكومية أو الهياكل الأمنية الهجينة والمجالس البلدية معقّدة للغاية. وهذا يعكس المصالح الاجتماعية ذات الطابع المحلي جدّاً التي تُمثِّلها تلك القوى والهيئات والمستوى المنخفض من قدرة المؤسّسات الرسمية والأطر القانونية على ممارسة وظائفها الأساسية، والتي تختلف، علاوةً على ذلك، بصورة ملحوظة من منطقة إلى أخرى. وحتى بعد أن أنتجت الانتخابات البرلمانية التي جرت في تموز/يوليو 2012 بنجاح المؤتمر الوطني العام، فقد طغى على المؤتمر أيضاً التنافس المتزايد بين المعسكرين الإسلامي والعلماني؛ ومسلسل اغتيالات الضباط والمسؤولين من عهد الزعيم الليبي معمر القذافي؛ والاستياء وعدم الثقة المتبادلَين بين فلول الجيش وقطاع الأمن من جهة والميليشيات الثورية من جهة أخرى.

دفع تآكل الأمن الأساسي والعقود الاجتماعية الأطراف الفاعلة على أنواعها إلى القيام بعملية تعبئة مضادّة. وقد شمل ذلك في كثير من الأحيان حمل السلاح وتحدّي سلطة الدولة مباشرة.

كانت مركزية عملية الإكراه كعامل في تشكيل السياسة الانتقالية، واضحة أيضاً في معظم الحالات الأخرى.  ففي اليمن، عُقِد مؤتمر الحوار الوطني بين أذار/مارس 2013 وكانون الثاني/يناير 2014 في ظل عملية إعادة تجميع عسكرية كانت تلوح في الأفق لشبكات الرئيس المخلوع علي عبدالله صالح في القوات المسلّحة، وحشد تعبئة لدى أنصار الله (الجماعة المتمرّدة الزيدية المعروفة باسم الحوثيين الذين يقاتلون الحكومة المركزية منذ العام 2004)، وتهديد تنظيم القاعدة في جزيرة العرب المتجسد في سلسلة طويلة من عمليات اغتيال لمسؤولين أمنيين. وفي سورية، حيث تم إفراغ هياكل الدولة إلى حدّ كبير منذ بداية الأزمة في العام 2011، أصبح نظام الرئيس بشار الأسد يعتمد على الميليشيات التي ترعاها الدولة والشبكات الاقتصادية الوكيلة، مثلما فعلت جماعات المعارضة المختلفة.

وقد ساهمت الفوارق الجَهوية أيضاً في ظهور وصمود الجهات المسلّحة غير الدُّولتية، وغالباً ماتزامن هذا مع المظالم والتعبئة الطائفية. ويبدو هذا واضحاً بالتأكيد في ليبيا، حيث إن الحركة الفيدرالية التي تدعم الحكم الذاتي لبرقة قوية في الشرق، فيما تسعى الأقلية الأمازيغية إلى الحصول على مزيد من الحكم الذاتي في أقصى الغرب. كما تحرّض مختلف العداوات العرب وغير العرب والقبليين وغير القبليين وفلول نظام القذافي في الوسط والجنوب، ضدّ بعضهم البعض. والأمر نفسه ينطبق على سورية أيضاً، حيث رسمت الحرب الأهلية مناطق طائفية وإثنية وعشائرية واضحة نسبياً، يهيمن عليها العلويون في المنطقة الساحلية، والأكراد على الحدود الشمالية مع تركيا، والعشائر في الشمال الشرقي، والدروز على الحدود الجنوبية مع الأردن، وجيوب سنّية متعدّدة ومتنافسة تنتشر في جميع أنحاء البلاد.4 وفي اليمن، اقتطعت الحركة الحوثية، وتنظيم القاعدة في جزيرة العرب، وأنصار الرئيس عبد ربه منصور هادي، والانفصاليون الجنوبيون، بالقوة مناطق سيطرة متناحرة.

  • الشرعية ومكافحة الإرهاب

شهدت مطالبة المواطنين بإصلاح قطاع الأمن انحساراً حادّاً في معظم الدول العربية التي تمرّ في مراحل انتقالية. ويبدو هذا أمراً مخالفاً للمنطق، لأن أداء قطاعات الأمن فيها لم يتحسّن حتى بصورة هامشية. إلا أن ذلك يشكّل استجابة طبيعية لتنامي مدركات التهديد بين المواطنين، في مواجهة ظاهرة الارتفاع الواضح في معدّلات الجريمة (بما في ذلك جرائم العنف، التي كانت منخفضة على مدى عقود في البلدان العربية مقارنةً مع مناطق أخرى من العالم)، وانتشار الجماعات المسلّحة وزيادة الإرهاب، وعدم اليقين بشأن المستقبل السياسي والاقتصادي. هذه الاتجاهات المُقلِقة تطرح إصلاح قطاع الأمن كضرورة أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى، لكنها أيضاً تجعل الإصلاح يبدو منفّراً وبغير وقته بالنسبة إلى عامّة المواطنين.

ينظر المواطنون العرب، أكثر فأكثر، إلى الخيار السياسي الماثل أمامهم باعتباره ينحصر بين الديمقراطية والاستقرار. وبالنسبة إلى الكثيرين، لاتتأتّى شرعية الحكم من تعميق التحوُّل الديمقراطي وضمان احترام حقوق الإنسان وسيادة القانون، بل من إثبات الفعالية في قمع مصادر التهديد الملموسة. وكما تبيّن بوضوح في مصر منذ إطاحة حكم الإخوان المسلمين في تموز/يوليو 2013، فإن ذلك ربما يمتدّ ليشمل مطالب بإقصاء قطاعات اجتماعية وسياسية برمّتها يُنظر إليها على أنها معادية بطبيعتها، وأحياناً حتى التخلّص منها كليّاً. وقد أثّرت ديناميكية استقطابية مشابهة في العراق ولبنان وتونس لاطريقة نفسها، ولكن أقل بكثير في الجزائر، حيث سعى صنّاع القرار إلى إشراك جزء كبير من الطيف الإسلامي سياسياً كوسيلة لضمان الاستقرار.

علاوةً على ذلك، تتقاطع هذه الاتجاهات بسهولة مع الانقسامات الطائفية أو القبلية أو الإثنية أو الجهوية، التي تجعل من السهل تصوير الآخرين على أنّهم يمثّلون تهديدات جماعية. الأهم من ذلك هو أن الاتجاهات تتزامن مع الانقسامات الطبقية في البلدان التي تعاني من نمو هائل في الطبقة الدنيا المهمّشة سياسياً واقتصادياً، أي الأعداد الكبيرة من الناس الذين يعيشون عند أو تحت خط الفقر، وغالباً في مساكن غير قانونية أو غير مسجّلة، في ظل محدودية أو عدم وجود الخدمات العامة والبنية التحتية، والذين يشكلون الاقتصاد غير الرسمي. وقد سبق أن تم استهداف هذا القطاع الاجتماعي الواسع بعمليات ضبط أمن قمعية لعقود من الزمن رداً على المعارضة الاجتماعية والاقتصادية، ولكن في دول عربية عدّة تمرّ في مراحل انتقالية، بات يُنظر إلى القطاع أكثر فأكثر باعتباره بيئة داعمة للتطرّف الإسلامي.

وفّرت الحملة الآخذة بالتوسُّع ضد الإرهاب في أنحاء المنطقة إطاراً معيارياً شاملاً للسياسة العامة. فالنخب الحاكمة التي تقود دولها الآن تستغل مواقعها الرسمية لإضفاء الشرعية على سياسات الأمن الصدامية والقمع الوحشي للمعارضة، كما فعل الائتلاف الفضفاض الذي حكم مصر في عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي منذ تموز/يوليو 2013، ونظام الرئيس السوري بشار الأسد.

  • علاوةً على ذلك، تمسّكت عناصر النظام القديم القوية وفلول شبكات السياسيين ورجال الأعمال والنخب البيروقراطية في هاتين الدولتين، كما في معظم الدول العربية التي تمرّ في مراحل انتقالية، بالخطاب الرسمي الذي يركّز على حفظ القانون والنظام العام ومكافحة الإرهاب. وينطبق ذلك حتى على تونس، حيث أعطى حزب نداء تونس، الذي فاز في الانتخابات العامة التي أجريت في تشرين الأول/أكتوبر 2014 ويرأسه الباجي قائد السبسي (وهو سياسي من عهد الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي)، إشارة الموافقة على تشكيل ائتلاف ضم حركة النهضة الإسلامية المعتدلة إلى حكومة الوحدة الوطنية الجديدة. وعلى الرغم من ذلك، تبنّى قطاع الأمن التونسي خطاباً يرتكز على مكافحة الإرهاب لالتبرير معارضته للإصلاح وإعادة الهيكلة وحسب، بل أيضاً لتبرير معارضته لإشراف الحكومة عليه.
  • ولسوء الحظ، فإن تجدّد ظاهرة إفلات قطاعات الأمن التي لم تتم إعادة هيكلتها من العقاب، صار يعني العودة إلى ممارسات الماضي السيّئة، وبقدر أقل من الرقابة السياسية أو القضائية مما كان عليه الحال في السابق. وفي موازاة ذلك، استعادت الحكومات، أو أصدرت، قوانين استبدادية ورجعية تؤثّر على حرية الصحافة ووسائل الإعلام الاجتماعية والمنظمات غير الحكومية وعلى الحق العام في الاحتجاج والتظاهر. وحتى عندما لم تتعرّض إلى التخويف أو الاستلحاق، إلا أن قطاعات القضاء المُنهَكة بالعمل والتي تعاني من نقص التمويل، لم تتمكن من موازنة أو التخفيف من وطأة هذا الاتجاه، ولاتزال في حاجة ماسّة إلى إعادة التأهيل.
  • الاقتصاد السياسي لضبط الأمن :

تقلّل المقاربات التقليدية لإصلاح قطاع الأمن، أو تتجاهل بصورة مطّردة، أهمية نتائجه المالية الكاملة وآثاره الاجتماعية والاقتصادية. وتشمل هذه النتائج الاستثمارات الضخمة اللازمة لتطوير الطابع المهني لقطاع الأمن؛ والآثار الاجتماعية والاقتصادية للحد من تضخم التوظيف في قطاع الأمن؛ ومقاومة شبكات قطاع الأمن المستحكمة بعمق، لضياع فرص تحقيق مكاسب غير مشروعة من خلال الفساد ووقف الأنشطة الاقتصادية المربحة ولكن غير الشرعية. وتركّز الردود التقليدية على التدريب الفنّي والإداري وإدخال قواعد الشفافية والرقابة، إلا أنها تتجاهل حقيقة أن الحكّام المُستبدّين والأنظمة السلطوية استخدمت التوظيف الفائض، وتسامحت مع الفساد في قطاع الأمن عمداً كوسيلة لاستلحاق القطاع، والتعويض عن نقص الاستثمار السياسي والمالي في مسألة إضفاء الطابع المهني عليه ورفع كفاءته.

  • تكاليف الإعداد المهني

يتطلّب الإعداد المهني لقطاع الأمن وتحديثه، تطوير قدر أكبر من التخصّص والكفاءة، وكذلك رفع معايير التنسيب والتدريب وأماكن العمل والتجهيزات. كما يتطلّب تحسين الرواتب والحقوق المالية أثناء الخدمة والمعاشات التقاعدية وتعزيز إدارة الموارد البشرية والمادية. ويمثّل هذا كله استثماراً كبيراً للدول العربية التي تمرّ في مراحل انتقالية وتعاني من ضائقة مالية مايجعل من الصعب أن تكتسب هذه الإصلاحات زخماً.

العبء ثقيل جدّاً، ويعود ذلك في جزء كبير منه لأن قطاعات الأمن شهدت توسعاً كبيراً في العديد من الدول العربية خلال العقود الأربعة الماضية، يفوق معدّل النمو في أي قطاع من قطاعات الدولة الأخرى. ثمّة عوامل عدة دفعت في هذا الاتجاه. فقد أدّى التوسّع الحضري الضخم، إضافةً إلى النمو والانتقال السكاني السريع الذي رافقها، وتدفّق المهاجرين واللاجئين، إلى تغيير بيئة المكان والبيئة الاجتماعية اللتين عمل فيهما قطاع الأمن، وطرح تحدّيات أكثر تعقيداً لحفظ القانون والنظام. وأفضى توطيد السيطرة السلطوية من أوائل السبعينيات فصاعداً إلى زيادة عمليات المراقبة من جانب أجهزة الأمن الداخلي، والتي ازدادت عدداً وقوة باستمرار، بينما وفّرت القوات شبه العسكرية النظامية استعراضاً عاماً لقوة النظام. وأدّت مكافحة الإرهاب إلى تسريع زيادة موظفي وميزانيات قطاع الأمن، عندما تفاقم العنف الإسلامي الجهادي في تسعينيات القرن الماضي، ومرة أخرى بعد هجمات 11 أيلول/سبتمبر 2001 الإرهابية وانتفاضات العام 2011. وفي الوقت نفسه، استوجب انتشار الشبكات العابرة للحدود والأسواق السوداء الإقليمية التي تنشط في مجال الهجرة غير الشرعية والاتجار بالبشر والاتجار غير المشروع بالأسلحة، إيجاد قدرات وأجهزة جديدة لمواجهة التحدّيات الإضافية.

تقلّل المقاربات التقليدية لإصلاح قطاع الأمن، أو تتجاهل بصورة مطّردة، أهمية نتائجه المالية الكاملة وآثاره الاجتماعية والاقتصادية.

في مصر، كانت النتيجة ظهور قطاع أمني ضخم بلغ تعداده مليون شخص على الأقلّ عشية ثورة العام 2011، وربما تراوح بين 1.5-1.7 مليوناً، وهو مايمثّل حوالى خمس العاملين في الدولة (باستثناء القوات المسلّحة).5 في الطرف المقابل، بلغ عديد أفراد قطاع الأمن التونسي 49 ألفاً فقط في العام 2010، ولكن بحلول العام 2015 أظهرت ميزانية الدولة قوة إجمالية قوامها 97797 عنصراً (بما في ذلك العاملين المدنيين وموظفي الحكم المحلي)، أو 12 في المئة من مجموع موظفي الدولة.6 وفي اليمن، بلغ عدد الأفراد المسجّلين في قطاع الأمن والقوات المسلّحة مجتمعَين حوالى 500 ألف؛ علماً أن التقديرات أشارت إلى أن أكثر من 100 ألف من هؤلاء مسجّلون في جدول مرتبات وزارة الداخلية، فيما يبلغ تعداد جهاز الأمن السياسي وحده، والذي يتبع رئيس الجمهورية مباشرة، بين 120 و150 ألف عنصر، وفقاً لبعض المصادر.7

شهدت تحولات حقبة مابعد الصراع أيضاً نمواً هائلاً في قطاع الأمن. إذ يُعادل حجم قطاع الأمن الجزائري، على سبيل المثال، نسبياً حجم نظيره المصري تقريباً، حيث يبلغ عديده 590 ألف فرد لعدد سكان وصل إلى نحو 40 مليون نسمة في نهاية العام 2014. يمثّل هذا الرقم نسبة 29 في المئة من إجمالي العاملين في الدولة (بمن فيهم العاملون بعقود محدودة) أو 37 في المئة من موظفي القطاع العام الدائمين.8 وبالمثل، وصل عديد أفراد قطاع الأمن التابع للسلطة الفلسطينية إلى حوالى 90 ألفاً في ذروته في العام 2007، في حين ازداد العدد في العراق إلى نحو 450 ألفاً بحلول العام 2015، وبلغ عدد المسجلين على جداول مرتبات هيئات الأمن الرسمية والهجينة في ليبيا حوالى 200 ألفاً تقريباً بحلول العام 2013.

من الناحية النظرية، يمكن، جزئيا،ً تعويض الاستثمارات المطلوبة لإضفاء الطابع المهني على هذه القوى والأجهزة عن طريق خفض تقليص جداول المرتّبات المتضخّمة بشدّة، وذلك من خلال التقاعد المبكر أو الفصل من الخدمة. ومن الضروري تقليص حجم قطاعات الأمن المتضخمة، لتحقيق وفورات مالية وتسهيل التأهيل المهني وتحسين الإدارة والمراقبة. إلا أن التداعيات الاجتماعية والسياسية لذلك تنطوي على مشاكل كبيرة.

إذ أن القدرة على تقليص قطاعات الأمن بهذه الطريقة، مقيّدة بسبب التكاليف المباشرة المرتفعة لتعويض نهاية الخدمة أو إعادة التأهيل الوظيفي والارتفاع قصير ومتوسط الأجل في المعاشات التقاعدية. والحكومات التي تواجه تقلصاً في الإيرادات العامة ومطالب متزاحمة لزيادة الاستثمار في مجال الرعاية الصحية والتعليم والبنية التحتية الأساسية، قد لاتشعر بأنها تستطيع تحمّل تكلفة القيام بإصلاح حقيقي لقطاع الأمن.

  • قد لاتشعرالحكومات التي تواجه تقلصاً في الإيرادات العامة بأنها تستطيع تحمّل تكلفة القيام بإصلاح حقيقي لقطاع الأمن.

علاوةً على ذلك، يعني تقليص العديد تفاقم البطالة في المجتمعات التي تعاني من ضغط اقتصادي شديد، لأن العمل في قطاع الأمن وفي القوات المسلّحة لايعدو في كثير من الأحيان كونه برنامجاً لخلق فرص العمل. وفي الدول العربية التي شهدت عمليات انتقالية، يعتمد دخل الأسرة بدرجة متفاوتة على التوظيف في الأمن والجيش لما بين 10 و20 في المئة من السكان، على افتراض أن الأسرة الواحدة تتألف من خمسة أفراد. وبالتالي فإن إضافةً إلى أعداد كبيرة من الموظفين الذين يفتقرون إلى التدريب ويتقاضون أجوراً متدنّية إلى صفوف العاطلين عن العمل في الاقتصادات التي تعاني من النمو البطيء أو السلبي، تُشجِّع على الاضطرابات.

تواجه هذه المعضلة العديد من الدول العربية، لكنها تبدو أكثر حدّة في الدول التي تمرّ في مراحل انتقالية.  خلال فترة الانتقال الديمقراطي القصيرة للغاية في مصر، على سبيل المثال، ردّ عضو مؤثّر في المجلس العسكري الحاكم على الدعوات المطالبة بفصل عدد كبير من ضباط الشرطة المتورّطين في انتهاكات القانون وحقوق المواطنين بالتحذير من أن فصل هؤلاء الموظفين من دون وجود “التمويل اللازم لإعادة دمجهم أو منحهم وظائف مدنية أو معاشات مناسبة… سيخلق كارثة”.9 كانت حجته لخدمة أغراض ذاتية، لأن المجلس العسكري فضّل كسب وزارة الداخلية كحليف استراتيجي، غير أن خطر تفاقم الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية وإثارة معارضة علنية أو تمرّد بين أفراد قطاع الأمن كان حقيقياً. وكانت ستتم مضاعفة المخاطر بما لايُقاس، في حال كان خفض النفقات على نطاق واسع سيؤثر على قطاع الأمن برمته، ولاينطوي فقط على فصل أفراد الشرطة والأمن المدانين بارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان أو بالفساد.

كما أن العديد من الدول العربية التي تمرّ في مراحل انتقالية ستخسر الآن أكثر مما كان عليه حالها قبل الصراع. ففي العراق دفع البحث عن الوظائف بعشرات الآلاف من الأشخاص إلى المجازفة بالتعرُّض إلى هجمات التمرّد من أجل التطوّع في الجيش وقوات الشرطة في السنوات العشر التي أعقبت العام 2003. وإلى جانب الانتشار غير المسبوق لشبكات المحسوبية السياسية والشخصية في الجهاز الإداري للدولة، زاد هذا الارتفاع في أعداد طالبي الوظائف عدد الموظفين الخاضعين إلى سلطة وزارة الداخلية إلى 531 ألفاً في أوائل العام 2013. وقد غذّت حوافز مماثلة نمو عديد قوات الأمن السلطة الفلسطينية إلى 87800 ألف عنصر في أوائل العام 2008، في حين تراوح المجندين والمسؤولين الإضافيين لدى الحكومة المنافسة التي تديرها حماس في غزة بين 17 و20 ألفاً في قطاعها الأمني وربما عدد مماثل في جناحها المسلّح.10 كان هذا الاتجاه واضحاً أيضاً في ليبيا، حيث سُجِّل نحو 200 ألف من الثوار الذين ادّعوا أنهم قاتلوا ضد نظام القذافي، على الرغم من أنه يعتقد أن 30 ألفاً فقط قاتلوه بالفعل، للانضمام إلى الهياكل الأمنية والعسكرية الجديدة التي أنشأتها الحكومة المؤقتة بعد العام 2011. 11

 

  • ضبط الجريمة، تجريم ضبط الأمن
  • الكثير من المواطنين والمقيمين في الدول العربية، خصوصاً ولكن ليس حصراً تلك التي تمرّ في مراحل انتقالية، يعتبرون أن الوحشية والإفلات من العقاب والفساد أمور متأصلة في قوى الشرطة الوطنية. صحيح أن أشكال وحجم الفساد من حالة إلى أخرى، لكنها تشمل عموماً انتزاع الرشاوى نظير الخدمات الإدارية، وعمليات الابتزاز الصغيرة وفرض الخوات على المتاجر والشركات، وتزوير سجلات الموظفين وجداول المرتبات، والاحتفاظ بأموال سرية لصالح كبار الضباط، وشراء الترقيات والتعيينات لتأمين الحصول على رواتب أعلى أو مُغرِيَة لاستغلال المنصب العام لتكوين دخل خاص. ويكشف ما أطلقت عليه سارة تشايس، مؤلفة كتاب “Thieves of State” (لصوص الدولة) “التكامل الرأسي لشبكات السرقة” من أسفل إلى أعلى التسلسل الهرمي في قطاع الأمن، بروز تحوّل إجرامي لضبط الأمن سبق في معظم الحالات هذه المراحل الانتقالية في الدول العربية، لكنه ازداد بعدها.12وهذا يرسّخ معارضة قطاع الأمن للإصلاح، في الوقت الذي يؤدّي فيه وهن مؤسّسات الدولة التي تمرّ في حالة انتقالية إلى تقويض قدرة أقسام التدقيق الداخلي المتواضعة في وزارات الداخلية وأجهزة الرقابة الحكومية والسلطة القضائية على مراقبة الممارسات والحدّ من التجاوزات.

الكثير من المواطنين والمقيمين في الدول العربية يعتبرون أن الوحشية والإفلات من العقاب والفساد أمور متأصلة في قوى الشرطة الوطنية.

  • تكشف استطلاعات رأي المواطنين وقطاع الأعمال عن المدى الذي يعتبر فيه الفساد متفشياً في صفوف الشرطة. فوفقاً لـ”بوابة مكافحة الفساد في مجال الأعمال” على الإنترنت، كان غالبية المواطنين المصريين، في العام 2013، يعتبرون أجهزة شرطتهم فاسدة، كما هو حال ثلث العراقيين. وفي العام نفسه، صنّف أكثر من ثلثي التونسيين شرطتهم على أنها مؤسّسة الدولة الأكثر فساداً، وقال 10 في المئة من الذين شملهم الاستطلاع إنهم دفعوا رشوة لضابط شرطة.13وبالمثل أفاد المركز اليمني لقياس الرأي أن 75 في المئة من المشاركين في استطلاع أجري في العام 2014 قالوا إنهم لايثقون بقطاع الأمن بسبب “الفساد الصارخ والمحسوبية” فيه، في حين أظهر استطلاع منفصل أن الأغلبية الساحقة من المواطنين في ثماني عشرة من محافظات البلاد الإحدى وعشرين لم يلجأوا إلى الشرطة أو وكلاء النيابة أو المحاكم لتجنّب الابتزاز المالي.14
  • يُعتبر تدنّي الأجور أحد الأسباب الرئيسة للفساد بين معظم ضباط الصف. في مصر، على سبيل المثال، حصل ضباط الشرطة من ذوي الرتب الأدنى على رواتب شهرية تبلغ حوالى 800 جنيه مصري في العام 2014 (115 دولاراً في ذلك الوقت)، مادفع الكثيرين للتعويض عن ذلك عن طريق المطالبة بخدمات وسلع مجانية من الجمهور، خاصة في المناطق ذات الدخل المحدود، أو انتزاع الرشاوى الصغيرة عن طريق تهديد الناس بالاعتقال.15وانتشرت ممارسات مثل “الدرج المفتوح”، والتي ينتزع فيها العاملون الإداريون في وزارة الداخلية رشاوى في مقابل تجهيز بطاقات الهوية ورخص القيادة وسواها من المستندات اللازمة للمواطنين.16 اختفت هذه المنافع الإضافية على الخدمة، إذا جاز التعبير، عندما تراجع قطاع الأمن في أعقاب انتفاضة العام 2011 وفقد قدرته على ترويع المواطنين. أضعفت الخسارة تماسك القطاع، فقد امتعضت الرتب الدنيا في نهاية المطاف من المرحلة الانتقالية لأنه لم يتم اقتناص الفرصة للقيام بإصلاحات شاملة.17 وقد أضربت الشرطة المصرية مراراً وتكراراً على مدى العامين التاليين، إلا أن وزارة الداخلية أبقت على الحظر على تشكيل اتحادات الشرطة، وبالتالي بقيت الجهود التي بذلتها الشرطة ضمن إطار محلّي متفرِّق للغاية ولم تمتد إلى كل أنحاء البلاد.
  • مصر ليست وحدها في مكابداتها. ففي تونس، وعلى الرغم من أنه تم إضفاء الصبغة القانونية على اتحادات الشرطة بسرعة التي ضغطت على الفور تقريباً بهدف رفع الأجور وتحسين شروط الخدمة، أصبح الفساد على المستويات الدنيا والخوات متوطِّنَين. وفي الوقت نفسه، عوَّضت الشرطة في اليمن ضعف الأجور عن طريق العمل الإضافي، وفي بعض الحالات عن طريق التسجيل في وظيفة ثانية في جهاز الدولة الإداري سيئ التنظيم. وفعل الآلاف من رجال الميليشيات الذين تحوّلوا إلى رجال شرطة في ليبيا الشيء نفسه، وكانوا يحضرون إلى أماكن عملهم لاستلام رواتبهم وحسب.18وفي العراق، حيث قيل إن ضباط الشرطة من ذوي الرتب الدنيا الذين كانوا ملزمين بتسليم جزء من رواتبهم لرؤسائهم، وهو العبء الذي عانى منه أيضاً نظراؤهم المصريون، سعوا إلى تعويض خسائرهم عن طريق ابتزاز المال من المعتقلين الذين هم في عهدتهم.19 وفي الجزائر، يُزعم أن الشرطة تأخذ الرشاوى بصورة روتينية لتزوير الوثائق، مثل تقارير الحوادث والتوسط في التسويات بعيداً عن السجلات الرسمية في الحالات التي تندرج في العادة ضمن اختصاص المحاكم الجنائية، في حين أن دائرة الاستعلام والأمن (التي تغيّر اسمها إلى “مديرية المصالح الأمنية” في كانون الثاني/يناير 2016) أوجدت دخلاً عبر تيسير الوصول إلى الخدمات الطبية والإدارية للمواطنين، والتأثير على القضاة.
  • بالمقارنة، يتّسم الفساد في الرتب العليا، سواء في الشرطة أو الفروع الأخرى من قطاع الأمن والجهاز الإداري لوزارات الداخلية، بطابع أكثر مؤسّسية. وبالتالي فإن نطاقه وحجمه يبدوان أشمل ونتائجه أكثر خطورة. وكما يتّضح من حالة العراق، ولاسيما اعتباراً من العام 2011 فصاعداً، فإن القادة في وضع يسمح لهم باختلاس الإمدادات واللوازم مثل الطعام والزي الرسمي والمعدات وحتى الأسلحة لبيعها في السوق السوداء المحلية، الأمر الذي أوصل السرقات الصُغرى التي يقوم بها ذوو الرتب الدنيا إلى مستويات خيالية. وفي الوقت نفسه، باع نظراؤهم في اليمن الخدمات للمجتمعات المحلية والحماية للشركات. على سبيل المثال، أجّر القادة اليمنيون وحدة خفر السواحل الصغيرة التابعة لوزارة الداخلية للشركات الأجنبية العاملة في قطاع تصدير الغاز الطبيعي، وهو تقليد بدأ قبل عشر سنوات على الأقل من انتفاضة العام 2011.
  • هذا الفساد على المستوى الأعلى يتخذ أشكالاً عديدة في سياقات مختلفة. ففي مصر، وبمستوياتها الأعلى من التنظيم البيروقراطي في القطاع الحكومي، تستخدم الأرصدة السرية والصناديق السوداء – يندرج بعضها في الواقع في الميزانية العامة – لإعطاء المنح لكبار الضباط. ووفقاً لبعض التقديرات، فإن لدى وزارة الداخلية 174 صندوقاً خارج الميزانية يعتقد أنها كانت تحوي 15 مليار جنيه مصري في العام 2015 (ما قيمته 2 مليار دولار آنذاك)؛ وعلى حد تعبير ضابط كبير في الشرطة مِن فاضحي الفساد، عبد الهادي بدوي، فقد بلغ سوء استغلال الأرصدة مستوى الوباء.20هذا، وقد تكشّف حجم سوء الاستخدام المحتمل من خلال محاكمة حبيب العادلي، وزير داخلية الرئيس السابق حسني مبارك، وأكثر من 100 من المسؤولين الآخرين الذين اتهموا جماعياً باختلاس مايقرب من 2.4 مليار جنيه مصري (306 ملايين دولار بالأسعار الحالية) من أرصدة الوزارة، والمحاكمة كانت لاتزال جارية حتى آذار/مارس 2016 21; وبرأي الناشط الحقوقي المصري كريم عمارة، لم تكن الشرطة أبداً جهاز إنفاذ قانون مهنياً، وبدلاً من ذلك “كانت تتصرف كعصابة مسلّحة أو ميليشيا لها مصالحها التي تحاول حمايتها”.22
  • وبمعزل عن ذلك، فإن لدى وزارة الداخلية المصرية ذراعها التجارية والاستثمارية، حيث تتعهّد شركات مثل “المستقبل” مشاريع مربحة مستخدمة الأرصدة الخيرية وأرصدة الرعاية لمختلف فروع قطاع الأمن كرأس مال لها.23وعلى الرغم من أن الذراع التجارية والاستثمارية توصف رسمياً بأنها “الكيان الاقتصادي الرسمي” للوزارة، فإن انعدام الشفافية يعني أنه يجوز استثمار الأرصدة السرية وكذلك الأرصدة المسجّلة رسمياً. ويبدو هذا الأمر أوضح في مديرية المخابرات العامة التي ظلت لعقود تستثمر في شركات توفّر لها الغطاء لتنافس للحصول على عقود تجارية، حيث تحتفظ المديرية بالعائدات.24 كما تفرض المديرية الأعضاء المُنتَدَبيْن على شركات القطاع الخاص في بعض مجالات اهتمامها، مثل التكنولوجيا المتقدّمة والاتصالات والتجارة الخارجية.25
  • يعتبر التوظيف غير الرسمي مصدراً هاماً إضافياً للدخل غير المشروع. فقد خلص فريق العمل العسكري والأمني المنبثق عن مؤتمر الحوار الوطني في اليمن في أواخر العام 2013 إلى أن 100 ألف فقط من أصل 500 ألف من أفراد الجيش والأمن المسجلين، كانوا يحضرون لأداء الخدمة.26من بين الذين لايحضرون كان هناك حوالى 100 ألف ممن يسمَّون الجنود ورجال الشرطة “الأشباح”، الذين تركوا الخدمة أو لم يكونوا موجودين على الإطلاق، غير أن القادة واصلوا سحب رواتبهم. تم حلّ بعض الوحدات خلال المراحل الأولى من إعادة هيكلة الجيش في 2012-2013، بما في ذلك عدد من جنود القبائل الذين تم وضعهم على جدول الرواتب العام لحماية شيوخهم، الذين كانوا لايزالون يحصلون على الميزانيات نفسها عندما بدأت العملية الانتقالية في العام 2014. 27​ ولذلك ليس من المستغرب أن قطاع الأمن اليمني اعترض عندما اقترحت الولايات المتحدة وحكومات غربية أخرى تطوير نظام الهوّية الوطنية الجديد وقاعدة البيانات الحيوية الخاصة بموظفي القطاع الحكومي (لضبط والحد من هذه الممارسات)، بحجة أن من شأن ذلك أن ينتهك سرّية عامليه وأفراده.28
  • من المفارقات في دولة لاتزال في طور التكوين أن قوات أمن السلطة الفلسطينية كشفت عن أنماط مماثلة، وإن على نطاق أضيق. ففي السنوات العشر التي سبقت انقسام قطاع الأمن في العام 2007 بين الإدارتين المتنافستين للسلطة الفلسطينية في الضفة الغربية وحماس في غزة، تم تشجيع قادة قوات الشرطة والأجهزة الأمنية التي يزيد عددها عن اثنتي عشر على سدّ النقص في ميزانياتها من مصادر دخل غير رسمية. أدى ذلك إلى وجود مايوازي أرصدة سريّة، وفوائد للمقرّبين، ودفع الرواتب لموظفين لايحضرون إلى العمل. وتورّط بعض كبار الضباط في نهب الرمال من شواطئ غزة وتم بيعها إلى وِرَش البناء. ووصل الأمر ببعض كبار القادة الأمنيين إلى ما هو أبعد من ذلك، حيث فرضوا رسوماً على الواردات بصورة علنية لدعم ميزانيات الأجهزة التابعة لهم، في حين كانوا يجمعون سراً ثروات شخصية عن طريق إجبار المستثمرين والمتعاقدين من القطاع الخاص على عقد شراكة مع ممثلين يعملون كواجهة لهم.29
  • إحدى نتائج هذه الاتجاهات تمثّلت في أنه أصبح شائعاً في العديد من الدول العربية أن يشتري الضباط الترقيات أو التعيينات للرتب والوظائف التي توفر مصادر الدخل الأكثر ربحية. في تونس، على سبيل المثال، دفع ضباط قطاع الأمن الأموال لكي يعيَّنوا في المناطق الحدودية حيث يمكنهم الحصول على رسوم من تجارة التهريب المزدهرة.30وهناك نمط مماثل مُطبَّق في العراق، حيث أكّدت مصادر عديدة أن الضباط اشتروا مناصبهم عن طريق رشوة السياسيين، في حين يدفع ضبّاط آخرون لقادتهم رسماً شهرياً لتأمين الحصول على تعيينات في مهام تدرّ أكبر المداخيل والأرباح.31 شملت هذه الامتيازات تعيينات تُتيح توظيف موظفين أشباح. ففي كانون الأول/ديسمبر 2014، قدّرت الحكومة العراقية أن هناك ما لايقل عن 50 ألفاً من هؤلاء في القوات المسلّحة وحدها. وقد أثّرت هذه الظاهرة أيضاً على قطاع الأمن، على الرغم من عدم توفّر أرقام قابلة للمقارنة.32
  • أصبح شائعاً في العديد من الدول العربية أن يشتري الضباط الترقيات أو التعيينات للرتب والوظائف التي توفر مصادر الدخل الأكثر ربحية.
  • في حين تفيد هذه الأشكال من الفساد في الغالب كبار الضباط ومسؤولي وزارة الداخلية، فإن ذوي الرتب الصغيرة والمتوسطة متورّطون فيها أيضاً. ففي العديد من الدول العربية، توفّر بعض الخدمات الإدارية المخصّصة للشرطة فرصاً للمطالبة برشاوى كبيرة. في لبنان، على سبيل المثال، تم نقل صلاحية إصدار رخص البناء وإنفاذ قوانين الاستخدام العقاري، الهادفة إلى منع عمليات البناء غير الشرعية أو الاستخدامات غير المرخّصة، إلى الشرطة للحدّ من حصول السلطات البلدية على الرشوة، وهي التي كانت تؤدي هذه المهام في السابق. إلا أن هذا التغيير نقل ببساطة الممارسات الفاسدة نفسها إلى الشرطة.33الأمر نفسه ينطبق على تونس، حيث تستغلّ الشرطة سلطتها في إصدار التراخيص لابتزاز أصحاب المتاجر والمصالح الصغيرة، وتهدّد من يرفضون دفع رشاوى بالإغلاق.

  • اقتصاد الظل: المنافسة والتواطؤ :
  • عادةً مايكون الفساد أكثر وضوحاً في الشرطة التي يتفاعل الجمهور معها بصورة أكثر شيوعاً، لكنه يمتدّ إلى فروع أخرى وإلى الأجهزة الأمنية، وغالباً مايخلق فرصاً أكبر للحصول على دخل غير مشروع. إحدى أهم نتائج التحولات في الدول العربية، وأكثرها ضرراً في كثير من النواحي، هي توسّع اقتصاد السوق السوداء وما يرتبط به من ازدياد التنافس والتواطؤ بين أجهزة الدولة، من جهة، والجماعات الإجرامية أو الجماعات المسلّحة والميليشيات، من جهة أخرى. وسواء حدث هذا بالقوة كما هو الحال في العراق أو بصورة سلمية نسبياً كما هو الحال في تونس، فقد أحدث الانتقال السياسي سيولة كبيرة في الاقتصادات الوطنية والعلاقات الاجتماعية، وطمس الحدود بين الفعاليات الاقتصادية والإدارية والأمنية الرسمية وغير الرسمية. كانت النتيجة التي ترتبت على ذلك هي حدوث “تكامل أفقي لشبكات السرقة” كما عبّرت عنها تشايس، شمل القطاعين العام والخاص والجماعات الإجرامية والميليشيات، ما أضفى شرعية بصورة ضمنية على الجريمة.34 ولأن تواطؤ قطاع الأمن في الاقتصاد الخفي يوسّع دائرة المستفيدين ويوقع مصالحهم في شراكه، فإنه يضيف عقبة أخرى أمام الإصلاح.
  • في العديد من الحالات، أحدث الانتقال بدايةً فراغاً أمنياً استغلته الجماعات الإجرامية المنظّمة لتوسيع أنشطتها. في مصر، على سبيل المثال، انخرطت العصابات الإجرامية في أعمال الابتزاز والاتجار والدعارة من دون عقاب.35والواقع أنه خلال الفترة الطويلة التي طبقت فيها الشرطة الغاضبة تباطؤاً فعلياً في أداء عملها، تم نصح المواطنين الذين يلتمسون الحماية من الهجمات على أشخاصهم أو ممتلكاتهم إما بتوظيف البلطجية سيئي السمعة في مصر لاستعادة حقوقهم بالقوة أو رشوة مهاجميهم واللصوص. وفي اليمن، غيّرت بعض اللجان الشعبية التي وفّرت الخدمات الأمنية الأساسية في جنوب البلاد بعد العام 2011، ولاءها من تنظيم القاعدة في جزيرة العرب إلى الحكومة في العام 2012 بعد اختلافها مع القاعدة على حصتها من الرسوم المتحصلة من التجارة المحلية والمواطنين أو من غنائم الحرب الأخرى. ومع ذلك، كانت معارضة وحشية تنظيم “أنصار الشريعة” التابع لتنظيم القاعدة في جزيرة العرب العامل الرئيس في ذلك التغيير بالنسبة إلى معظم أعضاء اللجان.36
  • عادةً مايكون الفساد أكثر وضوحاً في الشرطة، لكنه يمتدّ إلى فروع أخرى وإلى الأجهزة الأمنية، وغالباً مايخلق فرصاً أكبر للحصول على دخل غير مشروع.
  • كما أصبحت الاقتصادات السوداء إقليمية عندما وسّعت الجماعات الإجرامية والمسلّحة شبكاتها وعملياتها عبر الحدود الوطنية. أصبحت ليبيا سيئة السمعة بخاصة بعد العام 2011 باعتبارها المصدر الرئيس لتدفّق الأسلحة غير المشروعة ونقطة عبور للهجرة والاتجار بالبشر، ماتسبّب مراراً في حصول اشتباكات بين الجماعات القبلية والإثنية بهدف السيطرة على المعابر الحدودية، في الجنوب على وجه الخصوص. وكان قطاع الأمن في تونس المجاورة حصل بالفعل على “وظيفة اقتصادية” في ظل حكم بن علي في التسعينيات، كما أوضحت الباحثة التونسية ألفة لملوم، ماورّطه في “تنظيم أنشطة غير قانونية وأشكال أخرى من استخدام الأموال لغير الغرض المخصص لها والابتزاز”.37بعد العام 2011، تلبّس قطاع الأمن هذه الممارسات أكثر، حيث أتاح الازدهار السريع لاقتصاد المناطق الحدودية غير الرسمي وانهيار المراقبة من جانب الأجهزة الحكومية، فرصاً واسعة جدّاً للحصول على الدخل غير المشروع، وشجّع على ظهور عدد كبير من الفصائل المتنافسة وجماعات المصالح في وزارة الداخلية.38
  • بدوره، أثّر النمو السريع للاقتصادات العابرة للحدود على المجتمعات المحلية، وفصلها عن الاقتصاد الرسمي والمراكز الإدارية في العواصم الوطنية، وأعاد توجيهها نحو الأسواق الخارجية والأطراف الفاعلة السياسية الأخرى. وتبيّن منطقة الحدود المشتركة بين العراق وسورية هذا الأمر بصورة أكثر وضوحاً: ففي الفترة 1990-2003، عندما فُرِضَت العقوبات الدولية على العراق، أصبح التهريب ركناً اقتصادياً بالنسبة إلى محافظات مثل الأنبار، ووحّد العشائر على جانبي الحدود السورية، ووفّر في نهاية المطاف ملاذاً آمناً مكّن الدولة الإسلامية في العراق والشام (التي أعلنت تحوّلها إلى الدولة الإسلامية في العام 2014)، من إعادة بناء نفسها في الفترة 2008-2013.

يكشف نموذج العراق عن الدور الذي تضطلع به أجهزة الدولة بنشاط في ظهور الاقتصادات السوداء وتطوّرها لاحقاً. فقد شجّع نظام الرئيس آنذاك، صدام حسين، على انخراط العشائر العراقية على نطاق واسع في التهريب كجزء من استراتيجيته في خرق نظام العقوبات. وبعد إزاحته في العام 2003، حملت العشائر نفسها السلاح في أماكن مثل الفلوجة عندما سعت قوات الاحتلال الأميركية إلى إغلاق الحدود لمنع تدفق المتمرّدين والأسلحة.

  • كما أصبحت الاقتصادات السوداء إقليمية عندما وسّعت الجماعات الإجرامية والمسلّحة شبكاتها وعملياتها عبر الحدود الوطنية.
  • ويُظهر النموذج السوري أن التكافل بين أجهزة الدولة والميليشيات قد يتغيّر من تقاربٍ براغماتي للمصالح، وإن كان محدوداً أو مؤقتاً نسبياً، إلى آخر أكثر منهجية وتواصلاً. وقد أظهرت سورية تبعية للمسار مماثلة لتبعية العراق، لأن اقتصاد الحرب الذي ظهر بعد العام 2011 استفاد بصورة مباشرة من أنماط ماقبل الأزمة. وخلال السنوات العشر أو أكثر التي سبقت الأزمة السورية، مَنحت الأجهزة الأمنية امتيازات فعلية لعصابات التهريب المفضلة، بينما انتزعت حصصاً بالقوة أيضاً في المجالات المشروعة التي كانت تدرّ أرباحاً سريعة أو حجم مبيعات مرتفعاً، مثل الهواتف المحمولة. وقد تطوّرت العديد من الشبكات المتورّطة لتصبح ميليشيات مسلّحة من كلا الجانبين في الصراع الذي اندلع لاحقاً، فيما تحوّلت إلى محركات رئيسة لاقتصاد الحرب إلى جانب الأجهزة الأمنية.
  • وبالمثل، عندما وجدت الحكومة الانتقالية الليبية نفسها عاجزة عن تزويد “حرس المنشآت النفطية” بما يكفي من الرجال والمعدّات لحماية حقول ومنشآت النفط في البلاد في العام 2013، تعاقدت بدلاً من ذلك مع الميليشيات المحلية للقيام بهذه المهمة. وبموازاة ذلك، تطورت سوق الحماية حيث دفعت الشركات المحلية أو الهيئات المدنية الرشاوى للميليشيات، مع أن الكثير منها كان يتقاضى رواتب من الدولة.
  • في العراق، طالبت ميليشيا الحشد الشعبي، التي ظهرت في العام 2014 وحصلت لاحقاً على تمويل حكومي، بأن تتولى إدارة ميزانيتها وتصرف رواتب مقاتليها بالطريقة التي تراها مناسبة.39وفي الآونة الأخيرة، في أوائل العام 2016، بدأ رجال مسلحون يرتدون الزي الرسمي في بغداد ومدن أخرى بجمع التبرعات باسم قوات الحشد الشعبي من دون إذن.40
  • وكما تظهر التجربة الجزائرية في التسعينيات، فإن الميليشيات التي ترعاها الدولة التي تشكّلت بهدف خوض الحروب الداخلية أو مكافحة التمرّد تحصل على مصالح اقتصادية تصبح بعد ذلك متجذّرة. ومن ثم فإن هذا يشجّع المستفيدين في قطاع الأمن والمجتمعات المحلية التي تتم تعبئتها في حملات مكافحة التمرّد على مقاومة التغيير بأي ثمن.

  • ضبط النظام الاجتماعي والاقتصاد العادل :

في كثيرٍ من الأحيان، ركّزت الحكومات الغربية والمؤيدون المحلّيون لإصلاح قطاع الأمن على إعادة الهيكلة، ورفع مستوى التدريب والتجهيز، وإدخال نظم الإدارة والمهارات الحديثة في القطاعات الأمنية التي ارتكبت انتهاكات في الماضي، أو انهارت نتيجة الصراع المسلّح أو العمليات الانتقالية موضع النزاع. غير أن ذلك يغفل نقطة أساسية: الأمر يتعلق بضبط الأمن كمفهوم تم تقويضه بصورة أساسية في الدول العربية التي تمرّ في مراحل انتقالية (أو تقاومها)، وليس بمجرّد إصلاح أجهزة شرطة أو أمن داخلي فردية. ويكشف التركيز على تطوير القدرة العملية ووضع الحلول الفنية عن سوء فهم معياري، مفاده أن ضبط الأمن معنيٌّ في المقام الأول بمكافحة الجريمة والتهديدات العلنية للقانون والنظام العام. بدلاً من ذلك، تضطلع الشرطة بما وصفته خبيرة إصلاح قانون العقوبات أنيتا دوكلي “دوراً أكثر جوهرية في حفظ السلام” في المجتمع، وتساعد في تكوين النظام الاجتماعي السائد والحفاظ عليه وتوسيع نفوذ الدولة.41

  • الأمر يتعلق بضبط الأمن كمفهوم تم تقويضه بصورة أساسية في الدول العربية التي تمرّ في مراحل انتقالية (أو تقاومها)، وليس بمجرّد إصلاح أجهزة شرطة أو أمن داخلي فردية.
  • نتيجةً لذلك، عندما تتعرّض سلطة الدولة والنظام الاجتماعي إلى التحدّي أو تنهار، تتعطّل الترتيبات الرسمية وغير الرسمية التي عزّز من خلالها ضبطُ الأمن في السابق التعايشَ الصعب بين المفاهيم المتباينة للنظام الاجتماعي والاقتصاد العادل، في التنافس والتعاون مع مختلف الفعاليات الاجتماعية. وفي بيئة كهذه يصبح الخلاف على طبيعة وغرض ضبط الأمن أمراً محتوماً.42
  • غير أنه من المستبعد أن يتم استبدال السلطة والنظام بطريقة سهلة أو تلقائية بالمفاهيم الليبرالية للحقوق الفردية والصالح العام. بدلاً من ذلك، وكما تثبت أيضاً الدول العربية التي لاتمرّ في مراحل انتقالية، مثل المملكة العربية السعودية، فإن القطاعات الأمنية التي تعتمد التدريب والمعدات الغربية الحديثة وتظهر مستويات مهنية جديرة بالثناء بمعنى فنّي أو إجرائي ضيق، قد تكون مصمَّمَة في الواقع للحفاظ على أنماط حُكم إقصائية من الناحية الاجتماعية وسلطوية من الناحية السياسية.43

 

  • ضبط الأمن الإسلامي والمجتمعي 
  • أتاحت مشاركة الأحزاب الإسلامية في الحكم وجاذبية الحركات السلفية لبعض الناخبين والشرائح الاجتماعية، ولاسيّما منذ الربيع العربي ولكن أيضاً في بعض العمليات الانتقالية في مرحلة مابعد الصراع، الفرصة لتطوير أساليب محتملة جديدة لضبط الأمن. لكن ذلك لم يمنع إصلاح قطاع الأمن في حدّ ذاته، بل على العكس تماماً، حيث كان الإسلاميون في بعض الأحيان أكثر استعداداً ممن سبقوهم لتبنّي الجوانب العامة من المقاربة التقليدية للإصلاح. غير أن المشاركة سلّطت الضوء على إمكانية إدماج قطاع الأمن مع أنماط بديلة لضبط الأمن وأشكال عرفية من الفصل في المنازعات، وفي نهاية المطاف تغيير النظام الاجتماعي الذي تساعد تلك القوى في بنائه والمحافظة عليه.
  • في العديد من الدول العربية التي تمرّ في مراحل انتقالية، استغلت الأطراف الفاعلة الإسلامية على أنواعها نقل أو تعطيل سلطة الدولة وارتباك أو انهيار القطاعات الأمنية الرسمية لبناء أجهزة أمنية مستقلة، أو تثبيت نفسها في وزارات الداخلية وفي أجهزة أمنية مختارة. علاوةً على ذلك، أدّت جهودها لتحقيق سيطرة فعلية وتعزيز نظام اجتماعي بديل يستند إلى القيم الإسلامية بالضرورة إلى إشراك النظام القضائي والإطار القانوني والأنماط غير الرسمية أو المجتمعية لضبط الأمن والتحكيم التي تضرب بجذورها في القانون العرفي.
  • قلّة من هذه الدول كان لديها مخطّطات أولية جاهزة أو متماسكة لما قد يبدو عليه النمط الإسلامي تحديداً لضبط الأمن أو ماسيترتّب على بناء نمط كهذا. إضافةً على ذلك، كانت الحركات الإسلامية المتنافسة تميل إلى اعتماد أساليب متباينة، في حين أدّت الانقسامات الطبقية بين المناطق الحضرية والريفية إلى ظهور أنماط مختلفة من عملية الضبط. فقد روّج السلفيون في الغالب لأسلوب مستقل ذاتيّاً وقاعدي في ضبط الأمن، يقوم على الشريعة في المناطق ذات الدخل المنخفض والمناطق شبه الحضرية. في المقابل، فضّل الإخوان المسلمون ومايُسمّى الأحزاب الإسلامية الوسطية المماثلة، التعاونَ مع القطاعات الأمنية القائمة والجمع بين النظم القانونية والقضائية المدنية والشرعية، والتي تستهوي في المقام الأول الشرائح الحضرية من الطبقة الوسطى. كان الاعتماد على القانون العرفي والتحكيم، بما في ذلك الأشكال المختلفة منه مثل القانون القبلي والشريعة، هو النمط السائد منذ وقت طويل في المناطق الريفية وبعض المناطق الحضرية، وأصبح أكثر بروزاً عندما لجأت المجتمعات المحلية لمقدمي خدمات الأمن والعدالة البديلة لملء الفراغ الذي خلّفته أجهزة الدولة في أعقاب حالات الانتقال العربية.
  • في العديد من الدول العربية التي تمرّ في مراحل انتقالية، استغلت الأطراف الفاعلة الإسلامية على أنواعها نقل ارتباك أو انهيار القطاعات الأمنية الرسمية لبناء أجهزة أمنية مستقلة.
  • المكاسب الباهرة التي حققتها جماعة الإخوان المسلمين وائتلاف حزب النور السلفي في الانتخابات البرلمانية التي جرت في أواخر العام 2011 وأوائل العام 2012 في مصر، شجعتهم على إضفاء الطابع المؤسّسي على اللجان الشعبية التي وفّرت الخدمات الأمنية الأساسية ومنعت أعمال النهب والعنف الإجرامي في بعض الأحياء في أعقاب الانتفاضة. وفي آذار/مارس 2013، اقترحت الكتلة البرلمانية للجماعة الإسلامية السلفية في مصر، أي حزب البناء والتنمية، مشروع قانون من شأنه إخضاع مجموعات “الشرطة المجتمعية” إلى إشراف وزارة الداخلية ومنحها الصلاحية القضائية للاعتقال.44وبالمثل، اقترحت الكتلة البرلمانية لحزب الحرية والعدالة التابع لجماعة الإخوان المسلمين، حزب العدالة والحرية، تقنين وضع اللّجان الشعبية باعتبارها جهاز شرطة معاون، وإن كانت تتبع رئاسة الجمهورية.45
  • أدّى حلّ البرلمان من جانب المحكمة الدستورية العليا في مصر إلى طيّ هذا الفصل. إلا أن مايُسمّى المعسكر السياسي العلماني استمر في اتّهام إدارة محمد مرسي التابع لجماعة الإخوان المسلمين، الذي انتخب لمنصب الرئاسة في حزيران/يونيو 2012، بالسعي إلى أسلمة قطاع الأمن.
  • ظهرت اتهامات مماثلة حين ضمنت حركة النهضة، النظير التونسي لجماعة الإخوان، تعيين العضو القيادي علي العريّض وزيراً للداخلية في كانون الأول/ديسمبر 2011. اتّهم الخصوم العلمانيون حركة النهضة والسلفيين في تونس بالسعي إلى تحويل اللجان الشعبية، المعروفة أيضاً بلقب “روابط حماية الثورة” في تونس، إلى ما اعتبره منتقدوهم قطاعاً أمنياً موازياً وغير شرعي. ولم تسهم محاولة النهضة اللاحقة لتعيين أتباعها في مناصب رئيسة في قطاع الأمن وفي هيكلية الحكم المحلّي في المحافظات، ردّاً على رفض موظفي وزارة الداخلية وقادة رئيسين في العاصمة تقبّل سلطة العريّض، سوى في تعميق شكوك المعسكر العلماني.
  • سعت الأحزاب الإسلامية بصورة واضحة إلى تحقيق أجندات سياسية، وانتهزت فرصة الدخول إلى أجهزة الدولة للقيام بذلك. بعد أن سلّمت سلطة الائتلاف المؤقّتة في العراق الحكم إلى أول حكومة تصريف أعمال في العراق في العام 2004، والتي تلتها أول حكومة منتخبة في العام 2005، على سبيل المثال، استولت التنظيمات الشيعية القوية، مثل حزب الدعوة والمجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق والتيار الصدري، على وزارة الداخلية وتقاسمت السيطرة على فروع مختلفة في قطاع الأمن. وبعد التحوّل في ليبيا في العام 2011، ظفرت جماعة الإخوان المسلمين بموطئ قدم في وزارة الداخلية واللجنة الأمنية العليا وهيئة شؤون المحاربين. وبالمثل، شغلت “الجماعة الليبية المقاتلة”، وهي جماعة إسلامية سلفية، مناصب عليا في الوزارة، إضافةً إلى منصب نائب وزير الدفاع. علاوةً على ذلك، استغل القادة السلفيون في اللجنة الأمنية العليا، وهي قطاع أمني هجين ترعاه الدولة ويضم ميليشيات ثورية وإسلامية، مناصبهم لتحديد وسجن مسؤولي الأمن في عهد القذافي.46وفي اليمن بعد العام 2011، وسّع حزب التجمع اليمني للإصلاح، المرتبط بجماعة الإخوان المسلمين، موطئ القدم الذي حصل عليه بالفعل منذ منتصف التسعينيات في جهاز الأمن السياسي.
  • غير أن الترويج لنظام اجتماعي إسلامي كان يمثّل هدفاً هاماً أيضاً. فقد تولت الميليشيات السلفية في ليبيا حراسة المناطق التي تسيطر عليها وفقاً لتفسيرها للأخلاق الإسلامية، بينما سعت بعض الإدارات البلدية الجديدة في تونس إلى فرض حظر على المشروبات الكحولية وإغلاق المطاعم والحانات خلال شهر رمضان.47وفي مصر، تعهّدت هيئة أطلقت على نفسها اسم “لجنة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” في شباط/فبراير 2013 بتعزيز الأخلاق الإسلامية، بينما هدّدت جماعة مماثلة في شمال سيناء بفرض عقوبات قاسية على تعاطي المخدرات والتدخين.48 أثارت هذه الحوادث وسواها قدراً كبيراً من الذعر بشأن ظهور شرطة “مطاوعة” إسلاميين على الطريقة السعودية. غير أن الواقع هو أن حركات مثل حركة النهضة كانت أقلّ اهتماماً بفرض الأعراف الإسلامية في هذه المرحلة منها بتجنّب المواجهة المباشرة مع قطاعات الأمن الوطني.
  • مع ذلك، لم ينبثق النموذج الأكثر تطوراً في استخدام ضبط الأمن لبناء نظام اجتماعي إسلامي بعد العام 2011، بل ظهر في غزة في أعقاب استيلاء حركة حماس على السلطة بالقوة في حزيران/يونيو 2007. وربما كانت عملية إعادة بناء قطاع الأمن على يد حكومة حماس هي الأقرب إلى النموذج الغربي من حيث تطوير المهارات الفنية ونظم الإدارة، أو تقديم خدمات وتقارير النشاطات للجمهور عبر الإنترنت. إلا أنه تم تطعيمها برسالة دعوية إسلامية تجسّدت في التدريب العقائدي المكثّف لعاملي قطاع الأمن، والانخراط المباشر مع الهيئات الدينية والأكاديمية وأنشطة التوعية الدينية للجمهور.
  • سعت حركة حماس أيضاً لتحقيق تكامل بين الشرطة وآليات العدالة الإسلامية والعرفية: تم ضمّ المحاكم الشرعية التي كانت تتعامل بصورة طبيعية مع قضايا الأحوال الشخصية في النظام الرسمي للعدالة المدنية، في حين تم توحيد وتقنين لجان المصالحة المجتمعية غير الرسمية التي كانت تقدم الوساطة والتحكيم على مستوى الأحياء وإخضاعها إلى سيطرة لجنة من العلماء المسلمين. وقد تم تسجيل أحكام تلك اللجان لدى الشرطة. وجرت أيضاً محاولة لجعل القضاء القبلي، وهو أحد الأشكال المميّزة بصورة خاصة في القانون العرفي، يتماشى مع الأشكال الأخرى من العدالة، على الرغم من أن هذه المحاولة لم تنجح، مادفع حكومة حماس في نهاية المطاف إلى إدراج نفسها كمشارك نشط في الوساطات القبلية.49
  • تم كذلك تطبيق نهج مماثل عموماً في الدول العربية التي لم تشهد انتقالاً. إذ يتضمن النموذج الأردني للشرطة المجتمعية، على سبيل المثال، حلّاً مشترَكاً للنزاعات، بما في ذلك الحوادث المرورية التي تؤدي إلى إصابة أو وفاة أو الأفعال غير الجرمية الأخرى، بين الشرطة ومساجد الحي، وجمعيات العشائر أو الحمائل (العائلات الممتدّة)، والفعاليات الأخرى مثل مدراء المدارس.50وكما هو الحال بالنسبة إلى شرطة حماس في غزة، فإن الحلّ قد ينطوي على عقوبات يفرضها القانون العرفي أو القبلي، مثل دفع الديّة أو النفي، غير أن العملية تُجنّب المحكوم عليهم فتح ملفّات جنائية بحقّهم. وبالمثل، في سورية، التي تمرّ في مخاض انتقالٍ عنيف، فإن القرى التي نادراً ما رأت الشرطة الرسمية أو لجأت إلى المحاكم المدنية التي تديرها الدولة قبل العام 2011، قد قامت بصورة عامة تقريباً بتشكيل محاكم شرعية يرأسها أئمة المساجد المحليون أو رجال دين آخرون عندما خضعت إلى سيطرة المعارضة بعد الانتفاضة.
  • ظهر النموذج الأكثر تطوراً في استخدام ضبط الأمن لبناء نظام اجتماعي إسلامي في غزة في أعقاب استيلاء حركة حماس على السلطة بالقوة في حزيران/يونيو 2007.
  • على النقيض من الأشكال العرفية أو الإسلامية لضبط الأمن والفصل في المنازعات، التي تتميّز أكثر بالمَأْسَسَة والتي يتم اعتمادها “من فوق”، وكثيراً ما تُترجَم بوصفها “الشرطة المجتمعية”، فإن ضعف الدولة المُزمن في اليمن وغياب الشرطة الرسمية في الكثير من المناطق دفعا المجتمعات المحلّية إلى اللجوء إلى هيئات غير رسمية قبل فترة طويلة من انتفاضة العام 2011. ووفقاً للباحثين اليمنيين ندوى الدوسري وعادل الشرجبي، فإن 80 في المئة من اليمنيين لا يزالون يحلّون النزاعات “بما في ذلك القتل والجريمة والثأر والصراع على الأراضي والموارد خارج إطار النظام القضائي الرسمي عن طريق استخدام التحكيم والوساطة التقليديين”، في حين أضاف وزير العدل السابق محمد المخلافي أن زعماء القبائل والأئمة المحليين يديرون سجونهم الخاصة في بعض المناطق.51
  • على الرغم من الاختلافات الكبيرة بينها، تكشف الحالات السابقة أن ظهور بدائل إسلامية وغير رسمية في الظاهر بعد المرحلة الانتقالية أفضى إلى توسيع نطاق أشكال موجودة مسبقاً من الشرطة المجتمعية والعدالة العرفية في سياقات انهيار الدولة والاستقطاب السياسي وانهيار العقود الاجتماعية. وهي تُظهر، علاوة على ذلك، أن هناك ميلاً إلى اعتبار تكييف المبادئ القانونية العرفية لتنظيم السلوك الفردي والجماعي أكثر شرعية على مستوى المجتمع المحلّي.52وبما أن المجتمعات المحلّية تقوم في الكثير من الأحيان بدور الوسيط في العقود الاجتماعية بين الدولة والمواطنين، فإن أي جهد لإصلاح قطاع الأمن الرسمي ونظام القضاء الجنائي الذي يرتبط به يجب أن يستوعب هذه الأشكال البديلة وأساليب ضبط الأمن والفصل في المنازعات.

  • التحوّل الميليشيوي

مع ذلك، فإن الأمر الأكثر مدعاة للقلق هو تراجع الشرطة المجتمعية إلى أشكال شبه عسكرية، عندما تُحوّلها الأطراف السياسية المنظَّمة إلى أداة لخدمة مآربها الإيديولوجية وفرض سيطرتها الاجتماعية. وبالتالي، يكون الخطر أعظم، حيث أدَّت عقودٌ من قمع الدولة والتهميش أو الصراع المسلّح المطوَّل إلى إضعاف الحركات الشعبية القاعدية والسلطات المحلّية الأخرى للغاية، أو إلى زيادة حدّة الاستقطاب المجتمعي، وحطّمت في سياق ذلك الأنماط غير الرسمية أو العرفية لضبط الأمن والفصل في المنازعات. في مثل هذه الحالات، لم تكن المجتمعات المحلّية قادرة على مقاومة العسكرة، أو فرض السلطة المنافسة للجماعات المسلّحة غير الدُولتية أو الميليشيات التي ترعاها الدولة، والتي كثيراً ما تأخذ على عاتقها بعض مهام إنفاذ القانون والتحكيم البدائي. كما أن عسكرة هذه المهام، أي تحويلها إلى شكل ميليشيوي، تفاقم انهيار قطاع الأمن الرسمي والآليات المجتمعية على حدّ سواء، الأمر الذي يزيد من العقبات والتكاليف التي تعترض أي محاولة للإصلاح في المستقبل.

وقد تَعزّز هذا الاتجاه بسبب الاضطراب الشامل للهياكل الاجتماعية وإعادة تنظيمها، والتي كثيراً مايُنظر إليها باعتبارها أصيلة وتقليدية وغير قابلة للتغيير – مثل العشائر والقبائل – سواء بسبب الهجرة لأسباب اقتصادية أو التهجير القسري. إحدى نتائج ذلك تمثّلت في تفتيت مجال الأمن البديل وتوفير العدالة، حيث سعت جماعات مسلّحة متنافسة إلى فرض هيئاتها الخاصة على المجتمعات المحلّية التي تم إضعاف قدرتها على المقاومة. في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة في سورية منذ العام 2012، على سبيل المثال، شكّلت الجماعات المتمردة سلطاتها الشرعية الخاصة وهيئات إنفاذ الأحكام القضائية، كوسيلة لتوطيد سيطرتها الاجتماعية. أدّى ذلك إلى حدوث تنافس مباشر، حيث سعت جماعات متمرّدة عدّة، بما فيها “جبهة النصرة” التابعة لتنظيم “القاعدة”، مراراً وتكراراً إلى تأكيد تفوّق هيئاتها الشرعية في مدينة حلب الشمالية، في حين سعت جماعة “جيش الإسلام” المهيمنة في منطقة الغوطة الشرقية المحاصَرة بجوار دمشق باستمرار إلى إجبار جميع منافسيها على الاعتراف بسلطة هيئة “القضاء الموحّد” التابع لها، وقامت بمحاولات عدّة للقضاء على المحاكم الشرعية المنافسة بالقوة.

  • أن عسكرة ضبط الأمن، أي تحويله إلى شكل ميليشيوي، تفاقم انهيار قطاع الأمن الرسمي والآليات المجتمعية على حدّ سواء، الأمر الذي يزيد من العقبات والتكاليف التي تعترض أي محاولة للإصلاح في المستقبل.
  • ومن النتائج الأخرى لتآكل المعايير العرفية أو الإسلامية المعمول بها سابقاً وإضعاف الهيئات التي تفسّرها وتطبّقها، انبثاق أنماط أقسى وأكثر عنفاً لضبط الأمن، تزعم الانطلاق من الإطار المعياري والمنطلق العقائدي نفسه. ويمثّل مزيج الإكراه المُفرَط وفرض رؤية معينة للنظام الاجتماعي من جانب الدولة الإسلامية حالة قصوى، لكنه مع ذلك مؤشّرٌ على اتجاه أوسع. قبيل انتزاع الدولة الإسلامية السيطرة على مدينتي درنة أو سرت الليبيتين في العام 2015، على سبيل المثال، كانت البلاد تأوي بالفعل خليطاً من الهيئات المرتجَلة لضبط الأمن والفصل في المنازعات، تديرها الميليشيات الثورية والإسلامية المختلفة. والواقع أن إضعاف الشرطة الرسمية وتهميش النظام القضائي المدني، كان يعني أنه حتى الحكومة اضطُرَّت إلى الاعتماد على ترتيبات ارتجالية مع هذه الهيئات.
  • لم تُسَلِّم المجتمعات المحلية بعسكَرَة ضبط الأمن والفصل في المنازعات فقط تحت الإكراه، بل على العكس تماماً. ففي منطقة حضرموت الجنوبية في اليمن، تؤكّد بعض المصادر أن العديد من السكان المحلّيين اختاروا منذ العام 2011 اللجوء في نظام القضاء التابع لتنظيم القاعدة في جزيرة العرب، الذي يقدّم الخدمات من دون أخذ أجور وينفّذ الأحكام، بدل اللجوء إلى شيوخ العشائر، الذين يُعتبَرون متحالفين مع الدولة ويطلبون أجراً أو حصة من أي فائدة مالية أو تسوية يشاركون فيها.53لايأخذ الشيوخ في المناطق الأخرى أجراً، غير أن إضعاف النظام القبلي وتفاقم الصراعات المسلحة عموماً جعل المحكّمين المتنافسين مثل القاعدة في جزيرة العرب أكثر فعالية.
  • قد تستجيب المجتمعات المحلّية أيضاً إلى إعادة تعريف الجماعات المسلّحة غير الدُولتية لما يُعتبر قانونياً وشرعياً، عندما يخدم ذلك مصالحها، أو يكون أفضل من البدائل المتاحة. في أعقاب الغزو الأميركي للعراق في العام 2003، على سبيل المثال، أصدر الزعيم الشيعي مقتدى الصدر فتوى تجيز للميليشيا التابعة له بالمشاركة في أعمال النهب والابتزاز طالما أنهم يدفعون الخمس لإمامهم المحلّي.54شهدت الانتفاضة السورية ظاهرة مماثلة، حيث طوّرت الجماعات الإسلامية المتمرّدة خطاباً كاملاً ومجموعة من القواعد والأعراف حول مفهوم الغنيمة، وصبغته بالشرعية الدينية ورفعته إلى مستوى المبدأ القانوني.55
  • علاوةً على ذلك، في بيئات الصراع المسلّح الذي ينطوي على استقطاب سياسي أو اجتماعي أو طائفي حادّ، تشكّل رؤية المخاطر المحتدمة النظرةَ المجتمعية تجاه ضبط الأمن الاعتيادي، وتصنّفها في مرتبة أدنى من حيث الأولوية. يُعتبر لبنان مثالاً بارزاً على ذلك، حيث كان أعضاء ومناصرو الأحزاب السياسية القوية، وخاصة تلك التي لديها إرث عسكري، أقل اهتماماً من المواطنين والمقيمين الآخرين بقضايا السياسة الثانوية مثل تقديم الخدمات والبنية التحتية، لأن انتماءهم الحزبي يضمن الحصول على تلك المنافع.56كانت النتيجة في الواقع، كما قال باحث العلوم السياسية سهيل بلحاج وزملاؤه، “تجسيداً قسرياً ومناطقياً للانقسامات السياسية والطائفية”، حيث تدّعي جهات حكومية وغير حكومية متعدّدة بأن لها حقاً مشروعاً في استخدام القوة.57 وبالتالي، ترضخ سلطات الشرطة والبلدية بصورة روتينية، في بعض أنحاء البلاد، إلى مايُسمّى اللجان الأمنية التي تشكّلها الميليشيات والأحزاب السياسية شبه العسكرية المهيمنة محلّياً بشأن جميع قضايا ضبط الأمن والعدالة.58
  • تشكّل رؤية المخاطر المحتدمة النظرةَ المجتمعية تجاه ضبط الأمن الاعتيادي، وتصنّفها في مرتبة أدنى من حيث الأولوية.
  • في بعض الحالات، عكست الظاهرة المليشيوية أنماطاً سابقة لعمليات الانتقال في مجال ضبط الأمن، كانت تستند إلى القوات شبه العسكرية (الدرك) على نطاق واسع إلى جانب أجهزة الشرطة المدنية، كما هو الحال مع الكتائب الأمنية سيئة السمعة في ليبيا أو قوات الأمن المركزي في مصر. وينعكس هذا الإرث في اتجاه عددٍ من الدول العربية التي تمرّ في مراحل انتقالية، إلى تلزيم مهامها الأمنية إلى أطراف أخرى أم إلى تهجينها. ومن الأمثلة البارزة على ذلك قوات “الحشد الشعبي” الشيعية التي تشكّلت في العراق في العام 2014، و”الحشد العشائري” السنّي الذي تشكّل بعد عام من ذلك؛ وقوات الدفاع الوطني التي يرعاها النظام في سورية منذ العام 2012؛ وميليشيات اللجنة الأمنية العليا في ليبيا في مرحلة مابعد القذافي؛ وقوات المقاومة الشعبية التي ظهرت بأشكال عدّة لدى أطراف الصراعات المتنافسة في اليمن منذ العام 2011.
  • أضعفت الهياكل الأمنية الهجينة الأجهزة الرسمية المكلَّفة عادةً بإنفاذ القانون وتنفيذ المهام القضائية أو حلّت محلّها، لكن من دون أن تستبدلها، ناهيك عن تقديم أداء أفضل. لكن على الرغم من أوجه الخلل الواضحة والنتائج السلبية، من المرجّح أن تستمر الظاهرة المليشيوية، لأن ذلك يشكّل جزءاً لايتجزأ من العمليات الموازية لانهيار الدولة وإعادة التفاوض بشأنها.

  • الديناميكيات الطبقية

شكّلت الديناميكيات المتغيّرة للتمايز الطبقي والمجتمعي أيضاً المعايير الاجتماعية والتوقعات حيال ضبط الأمن. ولقد دفعت أشكال المحسوبية في الاقتصاد الليبرالي الجديد والخصخصة الجائرة، والتراجع الموازي في الخدمات والرعاية الحكومية، هذا التطور في معظم أنحاء المنطقة. غير أنها تفاقمت في الدول العربية المتضرّرة من الانتقال السياسي المتنازع عليه وآثار الصراع المسلّح، بما في ذلك التوسع الملحوظ في الاقتصادات المرتبطة بالجريمة والحرب. وتبيّن تجربة الانتقال في دول مثل مصر وتونس أن المزايا الطبقية والتحيّز لاتزال تلعب دوراً كبيراً في تشكيل الممارسات والعلاقات في قطاع الأمن والمصالح الاجتماعية التي تخدمها. كما أن السياقات الانتقالية تجعل من الضروري أكثر أن يتناول من يدعون إلى إصلاح قطاع الأمن الأسئلة التي طرحها الباحثان في الشؤون الأمنية روبن لوكهام وتوم كيرك: “أمن مَن بالضبط، وممَّن أو أي نوع من الأمن، وبأي وسيلة؟”59

  • بالنسبة إلى القطاعات الاجتماعية المهمّشة سياسياً والمحرومة على صعيد الفرص الاقتصادية وسبل الوصول إليها، قد لا يكون إصلاح قطاع الأمن موضع ترحيب عام. ربما يبدو هذا مخالفاً للمنطق، حيث تعاني هذه القطاعات على نحو غير متناظر من عمليات الابتزاز اليومية من ضباط الشرطة الفاسدين أو من سهولة لجوئهم الروتيني للعنف، أو دخولهم عنوة إلى المنازل، أو تدميرهم المساكن غير القانونية وسبل العيش. لكن تلك القطاعات قد تستفيد أيضاً من استعداد الشرطة المحلية لغضّ الطرف عن الأنشطة غير الرسمية وحتى غير القانونية التي تساهم في بقائهم الاقتصادي. وقد ترسّخت هذه الأنماط إلى درجة أن غالبية كبيرة – بين الطبقات الوسطى بقدر ماهي بين المجموعات ذات الدخل المنخفض – تعتبر الفساد جزءاً من السلوك العادي في التعامل مع الدولة.60

لاتزال المزايا الطبقية والتحيّز تلعب دوراً كبيراً في تشكيل الممارسات والعلاقات في قطاع الأمن والمصالح الاجتماعية التي تخدمها.

 بالقدر نفسه من الأهمية، أضعفت عمليات الانتقال أو أنهت أي دور رقابي اضطلعت به الشرطة، سواء من خلال تقويض الرقابة الداخلية والضمانات القضائية المحدودة أصلاً بصورة إضافية، أو من خلال توسيع الفرص المتاحة لها لتحقيق مكاسب غير مشروعة. وقد ساهم هذا في حدوث طفرة هائلة في مجال المساكن المشيّدة بطريقة غير قانونية، وانتهاكات واسعة لأنظمة الاستخدام العقاري والتعدّي على الأراضي العامة، وانتشار الأكشاك و”البسطات” في الشوارع والشركات الصغيرة غير المرخّصة، وإحياء المطالبات بالأراضي المتنازَع عليها، أو إبطال تسويات النزاعات السابقة التي تمت في المحاكم حول حرية الوصول إلى المياه.61

 بما تهدّد استعادة ضبط الأمن بصورة فعّالة هذه الأمور الواقعية والممارسات الفعلية لكن كما أظهرت استطلاعات الرأي في اليمن ولبنان، فإن غالبية في هذه الدول يريدون نظرياً حضوراً فعّالاً للشرطة.62 يعكس هذا التناقض الظاهري جزئياً المستويات المختلفة لسبل الوصول إلى مقدّمي خدمات الأمن سواء الحكوميين أو الأطراف غير الحكومية، وتصورات مدى التعرّض إليها. في لبنان، على سبيل المثال، تفاوتت الثقة في قوى الأمن الداخلي (الشرطة) على نطاق واسع بحسب المنطقة بين المسيحيين والمسلمين الشيعة في دراسة أجريت في العام 2014، غير أن المسلمين السنّة كانوا يرون أنهم مستهدفون بغضّ النظر عن موقعهم الجغرافي، مايشير إلى حالة عدم ثقة، سببها سياسي، بالدولة المركزية والأجهزة التابعة لها.63 ومع ذلك، أظهرت الدراسة نفسها تدنّي الثقة في مقدّمي الخدمات الأمنية البديلة، مثل الأحزاب السياسية والميليشيات. كما أن نمطاً مماثلاً كان واضحاً في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة في سورية المجاورة، حيث اعتبرت الهيئات المرتجلة التي تعمل وفق الشريعة شرعية ولكن أيضاً غير كافية ومتناقضة في كثير من الأحيان. فقد اتّبعت المذاهب المختلفة للفقه الإسلامي، وكانت تفتقر إلى التدريب في الشريعة الإسلامية (أو القانون المدني)، وثَبُت أنها أقلّ فعالية من النظام القضائي السابق الذي تديره الدولة في ردع الانتهاكات الكبيرة والحفاظ على الأمن الأساسي.64

 من الواضح أن غرض وطبيعة ضبط الأمن تبدو مختلفة من وجهة نظر الفئات ذات الدخل المنخفض والمجتمعات الريفية أو شبه الحضرية المهمّشة، التي تمثّل معاً غالبية السكان في معظم الدول العربية التي تمرّ في مراحل انتقالية. وبالتالي فإن إعادة تأهيل القطاعات الأمنية الرسمية لاتضمن استعادة ضبط الأمن لهذه القطاعات الاجتماعية بصورة فعّالة. بل على العكس من ذلك، لأن تركيز إدارة قطاع الأمن في العواصم الوطنية والتحيّز الحضري والطبقي الملحوظ في ضبط الأمن عموماً، إلى جانب إدماج قطاع الأمن في الأنظمة الاستبدادية السابقة منذ أمد بعيد، قد يمكّن الفعاليات الاقتصادية المؤسّسية القوية والمهيمنة من الاحتفاظ بشبكاتها ونفوذها وإعادة تأكيد سيطرتها على النظام الاجتماعي.

 ثمّة عامل مساعد هام في هذا الاتجاه يتمثّل في تطور التصورات والتوقعات بين قطاعات الطبقة المتوسطة في الدول العربية. في البداية كانت تلك القطاعات تنظر إلى الانتقال السياسي بصورة إيجابية، لكنها شعرت بعد ذلك بأنها مهدَّدة حيث تسبّب التنافس الحادّ للحصول على الرعاية الاجتماعية والفرص الاقتصادية، فضلاً عن التحدّيات المباشرة من جانب القطاعات الاجتماعية التي تم تمكينها مؤخراً في بلدانها، في زعزعة الاستقرار السياسي وزيادة العنف وارتفاع معدّلات الجريمة. ومن المرجَّح أن القطاعات الاجتماعية نفسها تأثّرت بصورة غير متناسبة بالإقصاء السياسي الناجم عن التدابير الانتقالية مثل اجتثاث البعث في العراق، وقوانين العزل المختلفة التي صدرت أو تم اقتراحها بعد العام 2011 في كلٍّ من ليبيا وتونس واليمن. ونتيجةً لذلك، تأرجحت مشاعر الطبقة الوسطى عموماً، فابتعدت عن إعطاء الأولوية للأفكار الليبرالية عن سيادة القانون والحكم الديمقراطي وإصلاح قطاع الأمن، ومالت بدل ذلك نحو المطالبة بالقضاء على الجريمة وعلى المعارضة، حتى وإن ظلت متشكّكة وقليلة الثقة بالشرطة وأجهزة الأمن الداخلي.

تأرجحت مشاعر الطبقة الوسطى عموماً، فابتعدت عن إعطاء الأولوية لسيادة القانون وإصلاح قطاع الأمن، ومالت بدل ذلك نحو المطالبة بالقضاء على الجريمة وعلى المعارضة.

 وبطبيعة الحال، تختلف التحالفات والمسارات الاجتماعية-السياسية اختلافا كبيراً من دولة عربية إلى أخرى تمرّ في مراحل انتقالية، لكن في كل الحالات ثمّة عامل حاسم في النتائج يكمن في درجة من التقارب المتجدّد بين القطاعات الأمنية، من جهة، ومؤسّسات الدولة ذات النفوذ مثل القوات المسلحة والسلطة القضائية وشبكات النظام السابق والمصالح التجارية والطبقات الوسطى الجديدة، من جهة أخرى. ويبدو هذا واضحاً بطرق متعارضة في مصر، حيث اختار المجلس العسكري الحاكم في الفترة 2011-2013 بصورة متعمّدة عدم إعادة هيكلة أو إصلاح وزارة الداخلية وقطاع الأمن مترامي الأطراف الذي كانت تسيطر عليه؛ وفي تونس، حيث شكَّل الجيش قوة موازِنة لوزارة الداخلية الممتعضة من عملية الانتقال، وضَمَنَ أن يقوم المدنيون بتنظيم وتسيير المرحلة الانتقالية. كما اضطلعت نظم العدالة في جميع أنحاء المنطقة، وليس في الدول التي تمرّ في مراحل انتقالية وحسب، بدور هام في الحفاظ على الوضع الاجتماعي القائم. وقد ظلّت تلك النظم “مختلّة إلى حدّ كبير” بحسب ما أشارت مراجعة قام بها مراسل الشرق الأوسط بورزو دراغاهي، وكانت “أدوات لمن يصدف أن يكون في السلطة، أكثر منها منتديات للوساطة في النزاعات الشخصية والتجارية وإقامة العدالة”.65

في ظل غياب تغيير سياسي كبير أو تحدّيات تواجه النظام، يبدو أن الجهود المبذولة لإصلاح أو إعادة هيكلة قطاع الأمن ستبوء بالفشل في الدول العربية التي تمرّ في مراحل انتقالية. والواقع أن من المرجّح أن تعيد تلك الجهود إنتاج الاتجاهات التي كانت جارية على مدى العقدين الماضيين أو أكثر في التشكيل الطبقي والمصالح التجارية، مايؤدّي إلى استعادة شكلٍ ما من النظام الاجتماعي القائم في الفترة التي سبقت المرحلة الانتقالية. إن العلاقة بين قطاع الأمن والوضع الاجتماعي هي أوضح ماتكون في مصر. هناك، كان يُنظَر إلى أكاديمية الشرطة تباعاً على أنها “نادٍ” – كما وصفها المؤرّخ المصري توفيق أكليمندوس – لأبناء الأسر الغنية أو الطبقة الوسطى الجديدة وأعيان الريف، أو أنها سعت إلى اجتذاب أبناء القطاعات ذات الدخل المنخفض لتعويض هجرة ضباط الطبقة الوسطى نحو قطاع الأعمال أو النيابة العامة، كما وجدت باحثة العلوم السياسية دينا راشد.66 وكما كشف لواء الشرطة المتقاعد بدوي، كان القبول في أكاديمية الشرطة محكوماً بالمحسوبية الممنهجة ومحاباة الأقارب في مؤسسات الدولة، حيث كان لكلٍّ من رئيس الجمهورية ووزير الداخلية وأعضاء البرلمان والحزب الوطني الديمقراطي الحاكم آنذاك، حصة من القبول غير المشروط لزبائنهم أو أبناء زبائنهم. وقد تم قبول المتقدّمين من المناطق النائية من البلاد للمرة الأولى في أواخر العام 2011، غير أن النمط الأساسي لم يتغير.

 في ظل غياب تغيير سياسي كبير أو تحدّيات تواجه النظام، يبدو أن الجهود المبذولة لإصلاح أو إعادة هيكلة قطاع الأمن ستبوء بالفشل في الدول العربية التي تمرّ في مراحل انتقالية.

 مضت العلاقة التكافلية بين الشرطة والأطراف الطبقية الفاعلة في مصر إلى ماهو أبعد من ذلك. إذ اعتمدت الشرطة على عائلات محلية قوية للمساعدة في السيطرة على المناطق الريفية المضطربة مثل صعيد مصر، على سبيل المثال، وقادت عمليات مصادرة الأراضي الزراعية لصالح شركات التطوير العقاري (أو لصالح القوات المسلّحة في بعض الأحيان) في عهد حسني مبارك وبعده على حدٍّ سواء.67 كما أن التوظيف المتكرّر في هذه الحالة وسواها للبلطجية من جانب الشرطة وأعضاء الحزب الحاكم السابق وحلفائهم الاجتماعيين المحلّيين، كشف عن غموض سيادة القانون، في حين عكس وقائع النظام الاجتماعي الذي كان من المفترض أن يخدمه. وقد سار ضبط الأمن المختل جنباً إلى جنب مع نمو الشركات الأمنية الخاصة، وهو اتجاه ليبرالي جديد استمر بعد العام 2011، حيث قدمت إدارة الإخوان المسلمين في عهد الرئيس آنذاك محمد مرسي مشروع قانون لتوسيع هذا القطاع.68

 كانت ظاهرة التكافل العضوي بين القطاعات الأمنية والأحزاب المُهيمنة تنطبق عموماً في الدول العربية الأخرى التي تمرّ في مراحل انتقالية أيضاً. لم يكن الأمر بالجديد، كما أثبت التداخل بين الأجهزة الأمنية وحزب البعث الحاكم وشبكات المحسوبية في نظام الأسد في سورية قبل العام 2011 بفترة طويلة. إلا أن العملية الانتقالية عمّقت هذا النمط، وبصورة أكثر وضوحاً في العراق – حيث سيطرت الميليشيات القوية مثل فيلق بدر أو جيش المهدي بصورة فعلية على وحدة شرطة المغاوير التابعة لوزارة الداخلية وقوة حماية المنشآت (العراق)، على التوالي – وفي السلطة الفلسطينية، حيث اندمجت حركة فتح وخصمها الإسلامي حماس مع القطاعين الأمنيين المتنافسين في الضفة الغربية وقطاع غزة.

 كانت ظاهرة التكافل العضوي بين القطاعات الأمنية والأحزاب المُهيمنة تنطبق عموماً في مصر والدول العربية الأخرى التي تمرّ في مراحل انتقالية.

انهيار التكافل في تونس يؤكّد مدى أهمية هذا الأخير. ففي عهد بن علي، قيام الفروع المحلية الـ7500 لحزب التجمّع الدستوري الديمقراطي الحاكم “بمهامّها الدعائية الضخمة، فضلاً عن واجبات الشرطة الإضافية التي تشمل المراقبة وجمع المعلومات”، جعلها بمثابة “أجهزة أمنية أكثر منها حزباً”، كما لاحظ المؤرخ روجر أُوين. إلا أن حلّ الحزب بعد انتفاضة العام 2011 والنجاح النسبي لعملية الانتقال الديمقراطي، جعلا قطاع الأمن معادياً لكن محاصَراً، وغير قادر على تشكيل تحالفات اجتماعية أو سياسية جديدة يمكن الاعتماد عليها.69

  • اتخذ التكافل شكلاً مختلفاً في لبنان، حيث كانت السلطة موزّعة دائماً بين جماعات النخبة. وقد مكّنتها قدرتها على إعادة إنتاج التمثيل الطائفي من المستويات القيادية ونزولاً حتى أدناها في قطاع الأمن، من الاستمرار في استغلاله لتوزيع المحسوبية والحفاظ على قواعدها الاجتماعية، في حين عرقلت عملية إعادة تأهيل وإصلاح حقيقية للقطاع.70

 

  • تحدّيات الإصلاح في الدول الهشّة

المعضلات التي تواجه إصلاح قطاع الأمن والحوكمة في الدول العربية التي تمرّ في مراحل انتقالية، ليست جديدة ولا فريدة، مقارنةً مع التجارب التاريخية في جميع أنحاء العالم. إلا أن الهشاشة السياسية والمؤسّسية الملحوظة لهذه الدول غيّرت المشهد مع ذلك، وفرضت عليها تحدّيات منهجية كبيرة.

أوّلاً وقبل كل شيء، لم يتم إعادة بناء التحالفات الاجتماعية والمؤسّسية السائدة التي كانت تقوم عليها الأنظمة الاستبدادية السابقة، ولم تستبدل بتحالفات جديدة مستقرّة. وهذا ينطبق حتى على مصر، حيث يتكّون النظام الحاكم بعد مرسي من تحالف مؤسّسات الدولة التي تعتبر قوية بصورة فردية غير أنها تفتقر إلى أساس طبقي واضح. وبالتالي، وعلى الرغم من أن النظام الجديد أكثر قمعاً من نظام مبارك، فإنه أيضاً أكثر هشاشة، ما يجعله رهينة لكل مكّوناته المؤسّسية الرئيسة. وبالمثل، أصبحت الجزائر أقرب إلى إعادة إنتاج بنية السلطة المهيمنة التي كانت موجودة بالفعل قبل الحرب الأهلية في تسعينيات القرن الماضي، ولكن لم يتم إعادة بناء العقد الاجتماعي، فيما التحالفات المؤسّسية تتآكل، والتغييرات الهيكلية اللازمة لحلّ الأزمة الاجتماعية والاقتصادية العميقة في البلاد معلّقة.

في ظل الغياب المستمرّ لتحالفات حاكمة جديدة مستقرّة، تفتّتت القطاعات الأمنية في الدول العربية التي تمرّ في مراحل انتقالية أو انهارت تماماً وفق أسس طائفية أو إثنية أو حزبية، في العراق ولبنان وليبيا والسلطة الفلسطينية واليمن. أو أنها حصلت على استقلالية رجعية وحتى مارقة، حيث باتت تخدم نفسها حصراً، بدل أن تخدم رئيساً واحداً مستبدّاً أو ائتلافاً حاكماً كما فعلت في الماضي، في الجزائر ومصر وتونس.

من الناحية النظرية، يُمكن لنهجٍ غير منحاز حزبيّاً حقاً أن يحقّق تقدّماً حقيقياً، إذا ماقاده وزراء في الحكومة مخوّلون تماماً ويتمتّعون بدعم متواصل من حكوماتهم ومن الوَحْدة العابرة للأحزاب في الهيئات التشريعية الوطنية. ومن شأن هذا النهج أن يكون أيضاً مصحوباً بانخراط مباشر مع قطاع الأمن والمجتمع المدني، وتمكين السلطات المحلية، وإنشاء لجان وطنية وإصدار “كرّاسات بيضاء” أو عمليات تشاورية مماثلة. إلا أن ذلك يتطلّب التوصّل إلى إجماع معقول بشأن النظام الاجتماعي والاقتصاد العادل الذي يفترض بضبط الأمن والفصل في المنازعات صونه والحفاظ عليه. وبدون ذلك الإجماع، فإن المساعدة الفنية والتدريب المقدم بصورة روتينية في إطار برامج إصلاح قطاع الأمن التقليدية لن يكون ذا قيمة.

ولعلّ مايزيد من تعقيد جهود الإصلاح هو الأنماط الضارّة جدّاً في سلوك قطاع الأمن التي أصبحت واضحة جداً في الدول العربية التي تمر في مراحل انتقالية، لكنها كانت واضحة بالفعل قبل فترة طويلة من الانتفاضات. كان التحزّب والعنف الروتيني وقمع النقد والمعارضة والفساد والنشاط الاقتصادي غير المشروع، ورفض الرقابة أو المراجعة من خارج قطاع الأمن جزءاً من السلوك الاعتيادي لدى الحكام المستبدّين والأنظمة السلطوية من أجل لجم المعارضة الاجتماعية وتعويض القطاعات الأمنية التي تتقاضى رواتب زهيدة.

  • على الرغم من ذلك، ومع تعطّل أو انهيار ترتيبات الحكم السابقة، فإن إشراك القطاعات الأمنية في أنماط السلوك نفسها لم يعد يخدم غرضاً واضحاً في صدّ المعارضة أو ترويض الفئات الاجتماعية المتململة. بدلاً من ذلك، هناك أنماط جديدة آخذة في الظهور حيث يتناوب عاملو قطاع الأمن بين الدخول في الشبكات الاقتصادية التي تنطوي على درجة أو أخرى من اللاشرعية – إلى جانب الأطراف الفاعلة غير الرسمية والمجتمعات المحلية المهمّشة التي كانوا قد قمعوها من قبل – وبين المشاركة في صراعات حزبية ضد من يُنظر إليهم باعتبارهم قطاعات اجتماعية منافسة أو نشطاء مجتمع مدني معارضين.
  • وبالقدر نفسه من الأهمية، فإن مايبدو أنه أنماط مختلّة للغاية في سلوك قطاع الأمن هو أيضاً وسيلة للبقاء والحفاظ على الحدّ الأدنى من الأداء وسط بيئة محفوفة بالتحدّيات الصعبة أكثر فأكثر. وتواجه معظم الدول العربية التي تمرّ في مراحل انتقالية أزمات مالية حادة وهي غير قادرة أو غير راغبة في مباشرة العمل بإصلاحات اقتصادية وإدارية وقضائية واسعة؛ ولا التفاوض على عقود اجتماعية جديدة شاملة؛ أو تفكيك أسوأ جوانب المحسوبية الناجمة عن ليبرالية جديدة والمراكمة الجائرة للثروات؛ أو إنهاء الأنظمة الريعية القائمة على المحسوبية تماماً. في ظل هذه الظروف، يصبح الفساد في قطاع الأمن – وفي أرجاء جهاز الدولة والمجتمع كافة – نوعاً من الضريبة أو تكلفة تحويل تنشأ لأن الحكومات لم تعد قادرة على توفير الخدمات والاستحقاقات الأساسية.
  • مرّة أخرى، هذا النوع من المشاكل لا يمكن علاجه عن طريق أي توليفة مُتصوَّرة من الشفافية وقواعد الرقابة الموصى بها في الأطر التقليدية لإصلاح قطاع الأمن.71هذه أمور مهمة وضرورية، لكنها لايمكن أن تكون فعّالة إلا إذا رأت النخب السياسية والفعاليات المؤسّسية المؤثّرة أن هناك مصلحة في تمكينها، وتلك الرؤية هي في الواقع مفتاح إصلاح قطاع الأمن عموماً. وبالتالي فإن مقاومة القطاعات الأمنية للإصلاح الجدّي، يهدّد الدول العربية التي تمرّ في مراحل انتقالية بانهيار منهجي وظهور منافسين سياسيين أكثر تطرّفاً، كما أظهر العراق وليبيا وسورية واليمن بصورة واضحة.
  • وفي ظل هذه الظروف، أخيراً، تشكّل إعادة بناء دول عربية فعّالة وعقود اجتماعية منصفة تحدّياً صعباً للغاية. وبالفعل، فقد ثبت أن من المستحيل إعادة بناء بُنى السلطة القمعية القوية أو التحالفات المتماسكة من النخب الليبرالية الجديدة أو سواها، حتى عندما تتم إعادة بناء النظم السلطوية. غير أن عملية بناء الدولة تمثّل شرطاً أساسياً لإعادة تأهيل القطاعات الأمنية وإخضاعها إلى أي شكل من أشكال الرقابة الحكومية الهادفة، ناهيك عن الحوكمة الديمقراطية.
  • مع ذلك، وفي الوقت نفسه، فإن سلوك القطاعات الأمنية يؤثّر في محتوى ومعايير النقاشات والصراعات التي تتم من خلالها عملية بناء الدولة أو إعادة بنائها. ولا تقلّ عن ذلك أهمية الحاجة إلى استيعاب مقدّمي الخدمات الأمنية والعدالة البديلة الذين ملأوا الكثير من الفراغ الذي تركته الدولة. وهذا يمكن أن يستلزم تطبيق اللامركزية في جوانب من توفير الأمن والعدالة. كما يمكن أن ينطوي على إدارة أو تقنين ودمج أنماط ضبط الأمن، والفصل في المنازعات العرفية والعاملة على مستوى المجتمع المحلي في الأطر الوطنية.
  • سوف تتوصّل الدول العربية التي تمرّ في مراحل انتقالية إلى نتائج سياسية ومؤسّسية مختلفة في مايتعلق بقطاعاتها الأمنية. إلا أنها تتجّه جميعاً نحو أشكال جديدة وهجينة تجمع بين ضبط الأمن والفصل في المنازعات بواسطة الهيئات الرسمية وغير الرسمية؛، وعمليات التوظيف والترقية المعتادة القائمة على المحسوبية، إلى جانب الفرص المتوفّرة أكثر فأكثر لتحقيق المداخيل النقدية غير المشروعة في الاقتصاد الخفي؛ ومزيج من أنماط السيطرة المركزية واللامركزية على وسائل واستخدامات الإكراه.72العديد من المشاكل التي أدّت إلى هذا المنظور عصيّة على الحلّ بالفعل، مثل عدم كفاية الموارد. ولكن في جميع الحالات، يهدّد حجم التحدّي الدول العربية التي تمرّ في عملية انتقالية مطوّلة بانتكاسات متكرّرة لتعود إلى القمع والفساد الحكومي المستفحل والصراعات الأهلية.
  • تواجه الدول العربية التي تمر في مراحل انتقالية مهمة تبدو عصيّة على الحل: إعادة بناء مؤسّسات الدولة والعقود الاجتماعية في عصر التغيّر العالمي. ومن المؤكد أن الفشل سيكون مآل المقاربات التقليدية لإصلاح قطاع الأمن التي تعجز عن فهم المعضلات والتحدّيات التي تعرقل هذا الجهد، أو التي تختزله في علاقة مبسَّطة بين إصلاح قطاع الأمن وإرساء الديمقراطية.
  • يودّ الكاتب أن يعرب عن شكره وامتنانه لكلٍّ من ديفيد شوتر، جورج فهمي، ابراهيم فريحات ولاله خليلي، وروبن لوكهام، ريناد منصور، محمّد مصباح، حمزة المؤدّب، دينا راشد، مارك سيدرا وجيسيكا واتكنز، لآرائهم النقدية حول مسودّات هذه الدراسة.
  • يشكّل هذا التحليل الدراسة الأخيرة من مجموعة الدراسات المعمَّقة حول إصلاح قطاع الأمن في الدول العربية، وقد نُشرت دراسة “الفرص الضائعة: السياسة وإصلاح الشرطة في مصر وتونس”، ودراسة “الدول المتداعية: إصلاح قطاع الأمن في ليبيا واليمن” تباعاً في آذار/مارس وحزيران/يونيو 2015.

  • 50مقابلة أجراها الكاتب مع العميد توفيق الحلالمهة، المدير العام لمديرية الدرك، عمّان، 20 تموز/يوليو 2008؛ والنموذج موصوف بشكلٍ مفصَّل في الأطروحة التالية: Watkins, “Policing Disputes.”
  • 51ورد الاقتباس في: al-Dawsari and al-Sharjabi, “Assessment on Formal and Informal Governance in Yemen;” al-Mikhlafi and al-Rahabi, “Reform of the Security Sector in Yemen.”
  • 52Ali Sayed-Ali, Building Community Partnerships in Policing: Challenges and Opportunities for Potential Programming (London and Beirut: International Alert and the Lebanese Center for Policy Studies, February 26, 2014), 9.
  • 53الباحث اليمني فارع المسلمي في حديث مع الكاتب، بيروت، 16 حزيران/يونيو 2015.
  • 54International Crisis Group, Iraq’s Muqtada Al-Sadr: Spoiler or Stabiliser?, Middle East Report N°55, (Brussels: International Crisis Group, July 11, 2006), 8,http://www.crisisgroup.org/~/media/Files/Middle%20East%20North%20Africa/Iraq%20Syria%20Lebanon/Iraq/55_iraq_s_muqtada_al_sadr_spoiler_or_stabiliser.pdf.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.