يثب

رداً على منظري موت الثورة السورية

د. كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

بسبب الهزائم العسكرية التي حدثت للفصائل العسكرية على يد التحالف الروسي الإيراني ، وبسبب فشل وتشرذم المعارضة السياسية وتهافتها ، كثر من ينظر لموت الثورة السورية ، من قبل النظام ، وحتى المعارضة من أولئك الذين لم يؤمنوا بها بداية و حاولوا التقليل من قيمتها ، أو الذين يمهدون لعملية الاستسلام للنظام أملا في تحصيل مكاسب سلطوية عن طريقه بعد أن فشلوا في في تحصيلها عن طريق الثورة  … والغريب أن يشارك في ذلك التنظير سياسيون وكتاب بل أساتذة في العلوم السياسية، ويتسببوا بهذا الكم من الإحباط وروح الاستسلام التي طبعت مرحلة ما بعد حلب ، وعليه فقد اقتضى التوضيح النظري لمفهوم الثورة ومراحلها من خلال فلسفة التاريخ السياسي للمجتمعات الانسانية لنحدد أين نحن في طريقنا الذي سقط عليه الكثير ممن نحب . ولكي نوضح كيف أن هزيمة الفصائل الإسلامية التي احتكرت قيادة الثورة وقررت توقيع صك الاستسلام في الأستانة ، لا يعني موت الثورة بل بالعكس ، قد يكون عاملا لقلب ميزان القوى لصالح الثورة من جديد لو أحسنا اختيار الأدوات الجديدة وأشركنا فئات الشعب التي استبعدت قسرا من قضيتها …

الثورة فلسفيا هي (عملية تجدد مجتمعي سياسي عبر قانون نفي النفي )، وليست تطورا تدريجيا سلسا ، هي عملية هدم وبناء عميقة وسريعة لبنى ونظم سياسية ثقافية قيمية ، واقامة بديلها ( كما نظّر هيغل في فلسفته الديالكتيكية ) ، وهي عملية تحطيم عنيف للبنى الفوقية المعيقة لتطور البنى التحتية ، كما نظر ماركس ( في ماديته الديالكتيكية والتي تعتبر العنف الثوري محركا للتاريخ ) …

 الثورة تحدث عندما يوجد انسداد وقمع وإعاقة لعملية التطور ، عندما يعجز المجتمع عن تطوير نظمه القديمة ( البنى الفوقية السياسية والثقافية ) تبعا لتطور احتياجات ورغبات الناس ( البنى التحتية قوى الانتاج ) ، عادة في الدول الديمقراطية لا توجد حاجة للثورة بسبب مرونة هذه النظم وقدرتها على تجديد ذاتها من دون استخدام العنف والتمرد لنفي القديم وتحطيمه ، ثم نفي حالة الفوضى الناتجة عن تحطيم القديم وإقامة النظام الجديد … والتي نظّر لها تولستوي في مواجهته مع الستالينية المتصلبة ( عندما طرح نظرية الثورة المستمرة ) ، فتغيرات البنى التحتية تؤثر باستمرار على البنى الفوقية وتغيرها في النظم المرنة ، أما في نظم الاستبداد والشمولية فتكون هذه النظم متكلسة عصية على التغيير فتتغير بالتحطيم الثوري والفوضى ، وهذا ينطبق أيضا على النظم السياسية الدينية التي تستمد تكلسها من تقديس ذاتها .

الثورات عبر التاريخ نوعان : نوع يبدأ بفكر ونظرية ويبحث عن أتباع ينظمون أنفسهم ثم يشركون قوى المجتمع الراغبة في التغيير بعملية تهديم وتقويض القديم سلما أو حربا ، واعادة بناء الجديد المعروف مسبقا مكانه .. هذه هي الثورات التقليدية في علم السياسة ، كالثورات التي أحدثتها الديانات الكبرى ( المسيحية والإسلام ) حيث أعادوا صياغة كامل النظام القيمي الإجتماعي وفقا لتعاليم جديدة ومختلفة … ومنها أيضا الثورة الفرنسية التي قوضت النظام البطريركي، وأقامت حقوق المواطنة ، ومنها أيضا ثورة العمال والجنود في روسيا بقيادة لينين ، ومنها حرب التحرير الصينية بقيادة ماوتسي تونغ التي قوضت النظام التقليدي الصيني وبنت البديل عنه وفق نظرية جديدة …

النوع الآخر من الثورات لا يبدأ من فكر وقيادة وتنظيم ، ولكن يندلع عفويا كحركة احتجاج على النظام القديم ، تمرد وانتفاضة شعبية واسعة تحركها رغبة تقويض هذا النظام قبل التفكير بالبديل وقبل تبلور نظرية وقيادة … تشارك فيها نماذج أيديولوجية متنوعة ، موحدة ضمن هدف اسقاط القديم ، ومختلفة على تصور البناء البديل أو غير مدركة له … فالثورة السورية هي نموذجية لتمرد فقراء العرب السنة على السلطة كشريحة واسعة ضاقت ذرعا ووصلت حد الانفجار ، ساهم في إطلاقها بعض المتنورين المنظرين لفكرة الحرية والديمقراطية ، لكن قبل نضوج مؤسساتهم الحزبية التي كان عليها في حال وجودها ، أن تنظم الجماهير وتحركها وتقود ثورتها نحو الهدف المحدد بوسائل لا تتناقض مع الغايات ، لكن تمرد الشعب السوري سار نحو الفوضى العارمة بسبب غياب النظرية والقيادة ، وبسبب الحرب الهمجية التي شنها النظام وسياسته في التهجير والتغيير الديموغرافي ، لذلك تخلى معظم المنظرين التقليديين عن اعتبارها ثورة أو بدأوا ينظرون لموتها … ويروجون لانتصار النظام الذي بدا كأنه أفضل منها للكثيرين فيما إذا قورن بحالة الفوضى .

المرحلة الثانية من الثورة السورية إذا (كعملية نفي للنفي ) لم تبدأ بعد ، فنحن ما نزال في مرحلة النفي والتقويض الأولى أي حالة الفوضى ، ولم تستكمل ثورة الشعب السوري حتى الآن مسيرة الهدم التي ستطال كامل مؤسسات الدولة التي ترتبط بالسلطة وترتهن لها ، فإسقاط هذه السلطة المتغولة الشمولية يتطلب للأسف اسقاط مؤسسات الدولة المصممة لخدمة هذه السلطة . بعكس نظريات الحفاظ على مؤسسات الدولة ، وأي دولة .

ويتطلب أيضا في الطرف المقابل هدم سلطات من تسلق على الثورة وركبها طامحا في أن يكون هو نموذج المستقبل الموعود المطلوب بناء سلطته ، والتي تكاثرت بسبب طول أمد الفوضى وغياب الفكر والنظرية والقيادة ، ولأن سوريا محكومة ومملوكة لشخص فقد توهم الكثيرون أنهم هم الثورة (بشخصهم )  ، وهم نموذج سوريا القادمة وقادتها الجدد الطبيعيين ، ولذلك نفشوا ريشهم ودخلوا في تنازعات مضحكة كديوك الدجاج .

انتصار قوات وميليشيات المحتل لا يعني انتصار النظام ، وسقوط السلطات الانتهازية المعارضة لا يعني سقوط الثورة ( أقصد شخصيات المعارضة وأمراء الحرب ومستثمري الجهاد ) … والذين يحاولون ربط مصير الثورة بانتصارهم وتسلطهم . بل أصبح اسقاطهم هو ضرورة لاستمرار هذه الثورة وانتقالها للمرحلة الثانية ، لتكون هزيمة حلب ، واستسلام الأستانة بداية لمرحلة جديدة ، تنتفي فيها مبررات المحتل الإيراني ، والهمجية الروسية ، وخذلان الأصدقاء ، وتنكر الأخوة .

ما نشهده اليوم ليس سقوطا وموتا للثورة بل هو سقوط كل المتسلقين عليها ، سقوط كل من حاول تكرار النظام القديم بشخوص جديدة ، و سقوط كل دعوات العودة للماضي القديم والتغيب عن حضور المستقبل المختلف ، في حين يستمر ما تبقى من النظام بالعيش على السيروم الخارجي في غرف العناية المشددة … وما يميز هذه المرحلة هو حالة الإهتراء في كلا الطرفين وفقدانهم التام القدرة على التحكم والفعل وتحولهم لمجرد أدوات بيد الآخر … الآخر الذي يدرك أنه لا يستطيع أن يكون بديلا عن الشعب والمجتمع الذي سيفرض رغباته وحاجاته في نهاية الأمر ، فالدولة لا تقوم من دون أرض وشعب يحكم بسلطة .

طبعا في مرحلة الفوضى والتبعثر وغياب النظام لا تجد المجتمعات سوى التراث والمقدس التقليدي لتجتمع حوله ( وهو عندنا طائفي ديني ) ، لكنه ليس هو هدف الثورة ولا محركها كما تدعي المنظمات الجهادية التي استغلت هذا الظرف وسعت للعودة لنماذج من الدولة القديمة الخوارجية التي تجاوزها الزمن ، ولا أقول مبادئ وقيم الدين الباقية ما بقيت الإنسانية … الثورة السورية ثورة على نظام سياسي مستبد طائفي فاسد استعبد شعبه . وليست ثورة دينية وطائفية إلا بمقدار الدفاع عن النفس بوجه المشروع الصفوي . إنها ثورة حرية وكرامة لم تجد تعبيرها الأيديولوجي المحدد بعد .

نحن اليوم نشهد نهايات مرحلة النفي الأولى أي تدمير كامل البنى المادية والمعنوية ، و بداية إرهاصات مرحلة النفي الثانية لهذا النفي ، أي نفي الفوضى واعادة بناء نظام بديل … طبعا يسعى الروس والإيرانيين لتجديد واحياء النظام القديم … لكنهم يجهلون حجم التغييرات التي أحدثتها عملية الهدم … ولا يدركون قوة وتأثير المجتمع الذي يفتقر حاليا لتعابيره السياسية ويعيش حالة الضياع والتشرد ، لكنه بمجرد عودة الحياة الاجتماعية ستظهر قوته من جديد بعد ما اكتسبه من خبرات وتجارب مريرة دفع ثمنها من أعز ما يملك .

من ركام المدن المدمرة ومن فقر مخيمات التشرد ومن هذا الهرج الهائل على صفحات التواصل تتبلور صورة سوريا الجديدة ، التي لن يمكن اعادة بنائها من دون مشاركة شعبية واسعة ومن دون عمل شاق لعشرات السنين .وغدا ومع بداية عملية البناء ستنشأ الحاجة لمشاركة المجتمع ، وعندها تتبلور مفاهيم ونظم جديدة ليس فيها من أثبت فشله في الماضي من نظم وأشخاص ….. عندها تكتمل صورة الثورة وتنتج بشكل عفوي فكرها وقيادتها … فهذا النوع من الثورات ليس مدرسي تقليدي ، لذلك هو عسير على فهم الأكاديميين المدرسيين … والسياسيين قليلي الخبرة التاريخية .

مع انهيار الأشكال السلطوية المشوهة لصورة الثورة سيفقد أيضا الطرف الثاني الكثير من مناصريه ، الذين ناصروه تخوفا منها ، وسيفقد الكثير من الدعم الخارجي ( فنصر النظام العسكري على المنظمات الجهادية هو نهاية له أيضا ) ولطالما حاول تجديد عمره بوجودها … مشكلة المنظمات الجهادية أنها متشددة لا تؤمن بالناس ، وتقفز للحياة الأخرى من دون المرور بالحياة الدنيا … فهي مشروع موت وليس حياة … مقاتلة شرسة لكنها لا تصلح لادارة المجتمعات الحية  وتلبية متطلبات العيش العصري الذي يحلم به الجميع ، فنمط الحياة الحديث الذي لا يقاوم يتناقض مع أيديولوجيتها .

الثورة السورية ذات محتوى طبقي فهي ثورة الفقراء ، وذات محرك فكري ثقافي ( ثورة حرية وحقوق سياسية ) وذات بعد فلسفي عقيدي  في صعيد استهلاك التراث … وهي إذ تطيل أمد مرحلة الهدم فذلك نتيجة تراكم قرون من التخلف وتعطيل العقل والاستبداد …. وبمقدار فساد الأدوات وتناقض الوسيلة مع الغاية بمقدار ما يطول أمد الهدم بانتظار أن يتغير مافي أنفسنا وما نستعمله من معايير وأدوات … وبمقدار الجهل وغياب الوعي بمفاهيم السياسة والمؤسسات وشروط قيام السلطات والدول ، وبمقدار العجز عن اعادة قراءة الدين بما يتناسب مع عقل وظروف العصر ، بمقدار كل ذلك بمقدار ما ندخل في متاهة التجريب والتعلم من دروس الألم والفشل الناجم عن ضرب الرأس بالجدران … وتتأخر المرحلة الثانية من الثورة أي نفي الفوضى واعادة البناء ، لذلك فالعمل الفكري التنظيمي اليوم هو أهم عامل في اختصار زمن المعاناة  وألم المخاض . واعادة اشراك الناس في العملية السياسية هي مادتها ….. سوريا ستولد مرة أخرى  من هذا الركام ، وربما يكون الشرق الأوسط كله متأثرا بها بالنظر لمكانتها المركزية فيه … فالدم السوري قدره أن يكتب التاريخ ويصنع المستقبل …

صبرا أهل سوريا فإن موعدكم النصر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.