الجذور التاريخية للصراع القطري السعودي

د. كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني 

لا يهتم العرب بالأنساب إلا بقدر اعتبارهم للتاريخ مكونا أساسيا  لهويتهم ، ولا يمكن فهم أي تحالف أو صراع بالاعتماد فقط على المستجد من أحداث ، لأنه على الدوام يتم التعامل معها في سياق التراكم التاريخي لها والذي أصبح مندخلا في بنية الهويات والتحالفات …

إن نزول النبوة في البيت الهاشمي جعل الزعامة القرشية تحاربها ، وعندما انتصرت الرسالة فهمها الطلقاء كملك على جزيرة العرب ، فدخلوا فيها ، وسرعان ما ظهر تمرد نجد بعد وفاة الرسول ، وهذا يعود أيضا للتنافس التاريخي بين مضر وربيعة ، فالمرتدين رفضوا الولاء السياسي لمضر ، و اعتبروا دفع الزكاة رمزا للخضوع القبلي ، وبعد تأجيل الصراع داخل قريش لفترة بواسطة خلافة أبو بكر وعمر  سرعان ما عاد البيت الأموي للسيطرة والذي انتهى بقتل عثمان وعودة السيادة للبيت الهاشمي ، لكي يستمر التمرد الأموي ، وخلال الصراع بينهما خرج الربيعيون على علي ومعاوية معا وطعنوا بشرعية سلطة قريش ومضر ، لصالح شرعية دينية مفترضة مستقلة عن الانتماء العشائري ، و حقيقة كون معظم قادة الخوارج من نجد وربيعة يوحي باستمرار الصراع واتدائه لأزياء مختلفة … سقط بنو أمية وجاء العباسيون ثم استبعد العرب عمليا من الخلافة  ، وفي مرحلة التفتت والضعف انفصلت نجد سياسيا عن الحجاز ، وحكم أهل نجد الحجاز لأول مرة في التاريخ أيام القرامطة ، ونقلوا الحجر الأسود كرمز للقداسة لديارهم  ،  ثم جاء السلاجقة والترك ليعيدوا توحيد المنطقة ، وخاضوا حربا طويلة مع الفرس … خضعت الحجاز لكن نجد واليمن بقيت على درجة كبيرة من الانفصال ، وقامت الحركة الوهابية كدعوة جديدة لاستعادة الخلافة الدينية في مواجهة الوراثة الملكية ، وخاضت حربا لا هوادة فيها مع الشيعة الصفوية ، ثم عندما هددت الدولة العثمانية كُلف محمد علي باشا بقمعها ، لكن طموح محمد علي لم يتوقف عند نجد والحجاز بل امتد لبلاد الشام … وهكذا عادت نجد لعهد للاستقلال ، وفي غضون الحرب العالمية الأولى تحالف أشراف مكة مع البريطانيين ضد الدولة العثمانية ، وسعت بريطانيا للسيطرة على جزيرة العرب ونفطها ، بينما جمع آل سعود وهم من قبيلة العنزه الصغيرة نسبة لآل الرشيد والعتبان والشمر ، قادت مجموعة من القبائل الصغيرة وخاضوا حربا عسكرية من واحة لواحة ومن قرية لقرية ، وقوضوا حكم آل الرشيد الذي كان امتدادا طبيعيا للحكم الوهابي ، وكل ذلك بدعم سري أمريكي باحث عن موارد النفط ،

ولأنهم كانوا قد خضعوا للحركة الوهابية ، سرعان ما تصالح الطرفان على أرضية تأسيس مملكة تحكم الحجاز أيضا ، وهذا التحالف استند إلى الصراع التاريخي بين نجد والحجاز ومضر وربيعة … لكن لم تكن السيطرة على نجد وطرد الهاشميين كافيا لدفن الخلافات ، خاصة عندما سميت المملكة الجديدة باسمهم ، وحصرت الأمارة بأسرتهم وأولاد الملك عبد العزيز ، كانت الصراعات تستعر من فترة لفترة وتخمد  بمزيج من القمع والهبات ، وأهمها حركة تمرد جهيمان العتيبي الذي احتمى بالحرم … في آخر عام 1979 ، بعد أن ازدادت الثروة بشكل مفاجئ بسبب ارتفاع أسعار النفط بنتيجة حرب 1973  .. وبعد تلك الحادثة الخطيرة ، قرر آل سعود نقل شرعيتهم للاعتماد على الشريعة ، و اشراك سلطة مشايخ الوهابية التي صارت هيئة الأمر بالمعروف … على أمل اخفاء الخلافات القبلية تحتها ،

هناك مثل سعودي يقول من لم يسجن أيام فيصل لن يسجن بعدها ، ومن لم يغتني أيام خالد لن يغتني بعدها ، ومن لم يفقر أيام فهد لن يفقر بعدها … وهكذا لعب تراجع القدرات الاقتصادية وتزايد السكان وعدم تكافؤ الفرص دوره في عودة الانتماءات الماقبل وطنية للظهور … وهو ما سيشجع الزعامة القطرية على التفكير باستعادة المجد الغابر ، فقد بقيت قطر خارج سيطرة آل سعود بدعم بريطاني ، وبذلك بقيت الزعامة التقليدية للحركة الوهابية الممتدة بالنسب لمحمد عبد الوهاب حاكمة فيها ، وهي تدرك عمق جذورها في نجد ، وهذا ما يشجعها ويثير غضب وحساسية آل سعود الذين يتهمونها بالسعي لتفكيك المملكة . قطر احتمت مبكرا بالأمريكان بعد تراجع نفوذ بريطانيا ، وحافظت على علاقات مميزة مع ايران ، ثم استغلت الربيع العربي لمد نفوذها لمصر واليمن وسوريا ، فهي لا تنس تدخل محمد علي باشا ، ولن تنس دور الأتراك . تبنت قطر رغم صغرها كدولة سياسة خارجية كبرى في المنطقة ، بما يتناسب مع حجمها الافتراضي المدفون تحت الماء كجبل الجليد ، مستذكرة حلم سيطرة ربيعة على العرب الذي بدأ مع امرؤ القيس ، ( بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه         وأدرك أننا لاحقان بقيصرا

              فقلت له لا تبك عينك إنما              نحاول ملكا أو نموت فنعذرا )

ما يخالف التاريخ :

  • السعودية تبني شرعيتها أيديولوجيا على الحركة الوهابية ، لكن قطر تعتمد في هويتها على رصيد هذه الحركة التاريخي والقبلي ،
  • الإمارات العربية المتحدة التي بقيت إلى حد كبير خارج سيطرة الحركة الوهابية وحافظت على ارتباطها بالحجاز وبغداد ودمشق كحاضرات تجارية ، ليس لها طموحات للسيطرة في المنطقة بل تشعر بخطر وجودي إيراني عليها يدفعها للبقاء تحت الحماية السعودية ،
  • بينما قطر تدخل في تنافس مع آل سعود على الهيمنة على نجد ، وتستفيد من قوة ايران ،
  • ايران رغم العداء الكبير بين الصفوية والوهابية ،تخفي ذلك في استغلالها لدور قطر في تقويض المملكة السعودية ،
  • تركيا الصوفية رغم حربها مع الوهابية دينيا ، لا تجد غضاضة في التحالف مع قطر خاصة بعد خيانة الأشراف لها ، لكنها لا تجد ضرورة للصراع مع السعوديين ، إلا بمقدار التنافس الرئيسي بينهما على الهيمنة في العالم الإسلامي .
  • مصر دخلت في صراع سياسي عميق يهدد باندلاع حرب أهلية فيها بسبب الخلاف السعودي القطري الذي دخلت تركيا أيضا على خطه ،
  • وكذلك ليبيا دخلت فعلا في تلك الحرب لذات السبب ، وهناك تقارير تتحدث عن توصل التحقيقات الأمريكية عن مقتل سفيرها في ليبيا لوجود ارتبطات خارجية مشبوهة إيرانية، وتمويل قطري للمجموعات التي قتلت السفير الأمريكي ، مما استوجب حصول تغيير شكلي في السلطة في قطر بدل دخول القضية للقضاء الأمريكي حيث تسلم الأمير تميم عن والده السلطة .
  • في اليمن تقاطعت المصالح القطرية والإيرانية في أكثر من مكان وطريقة وأصبحت الحرب الأهلية هناك بلا أفق .
  • في سوريا انقسمت الثورة السورية بين موالي للزيت ( التمويل السعودي ) وموالي للغاز ( التمويل القطري ) ، ولا يخف دعم قطر لجماعات الإخوان الذين ساهموا في أسلمة الثورة ، واستمر دعمها لمعظم المجموعات المتشددة اسلاميا ، ومؤخرا سارعت قطر للتناعم مع التفاهم التركي الإيراني برعاية روسية .. حتى لو كان لصالح بقاء نظام الأسد وتقاسم سوريا ، وجرّت معها الإخوان والعديد من التنظيمات الإسلامية .
  • قطر في مكان وزمان ما دعمت سرا الحركات الإسلامية التي تعارض حكم آل سعود ، وتلاقى هذا مع دعم ايران لها .
  • كل ذلك كان معروفا وعلنيا ، ولكن لم يكن كافيا لإعلان القطيعة ، فالرعاية الأمريكية لقطر لم تتوقف حتى مجيء ترامب للمنطقة الذي أطفأ بشكل ما الضوء الأمريكي الأحمر ، والذي ساهم في ذلك التحول الأمريكي هو لعب قطر على الحبلين في موضوع حماس ووثيقتها ، والتي انتهت لاحتمال اندلاع الصراع مجددا معها ، بعد أن كانت التحضيرات لعقد اتفاق هدنة طويلة معها قد وصلت لمرحلة متقدمة …

في النتيجة : لا يجوز الاستهانة بخطورة هذا الصراع وباحتمالات توسعه المفتوحة … قطر تراهن على التوازن الإقليمي في المنطقة ، وتراهن أيضا على عمق امتدادها في المجتمع الأهلي السعودي المهدد بالانفراط نتيجة عجزه عن التحول لمجتمع مدني … كل مساعي التهدئة لن تكون إلا جزئية ومؤقتة ، وما انفجار هذه الصراعات اليوم في عموم المنطقة إلا بسبب اضمحلال دور الدولة الراهنة بفعل العولمة ، والذي يتم من دون وجود بديل معولم أرقى منها ، مما يفسح بالمجال للهويات والانقسامات الأهلية ما قبل المدنية للظهور والبروز …

باختصار لقد انتهى عصر الازدهار والرفاهية والاستقرار في الخليج ، وصار من الواجب مواجهة الحقائق والأزمات الحضارية الهائلة التي تصيب المجتمعات المحلية كلها بما فيها ايران طبعا . الحرب القادمة في المنطقة كما هي الحرب المستعرة في عموم الشرق الأوسط الكبير ، لن تكون حروبا بين الدول بقدر ما ستكون حروب أهلية عابرة لهذه الدول … المنطقة كلها تدخل في أتون حرب أهلية عظمى ، تعيد تكوين المنطقة بشكل جذري …

قلة من يدركون عمق الأزمات في الشرق الأوسط التي ليس الإرهاب والحروب الأهلية إلا مظاهر لها ، وندرة من يملكون القدرة على التنبؤ بمسارها ، لكن لا أحد عمليا قادر على السيطرة عليها .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.