مدلول التصريحات الدولية الأخيرة حول بقاء الأسد

د. كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

التصريح السياسي لا يعتد بمحتواه بل بتوظيفه ، والخبير في السياسة يحاول أن يتجاوز شكله للوصول لوظيفته ، من خلال فهم الحيثيات والدوافع التي يخدمها ، بينما البسطاء يأخذون بظاهره ويعتبرونه تعبيرا عن قناعة ونية جدية ، ولأن وظيفته عادة تخالف شكله يتوصلون لقناعة بأن الدول تكذب ، أو أن السياسة ليس لها دين .

فعندما صرح قادة الغرب أن الأسد فقد شرعيته وعليه أن يرحل ، لم يكونوا يقصدون أنهم سيقومون هم بفعل ما لتنحيته وترحيله ، لذلك بقي الأسد في السلطة ، ولم ينفذوا مضمون تصريحاتهم التي وظفوها يومها لتشكيل ضغط معنوي على الأسد ليخفف من استعماله للعنف ليس أكثر ، فقد كانوا ينتظرون منه أن يغير سلوكه بنتيجة هذه التصريحات، وهذا يعني ضمنا الاستمرار بالاعتراف به ، لذلك تابع اجرامه ضاربا عرض الحائط بكل ما يقال … وعندما اعترفوا بالائتلاف ممثلا شرعيا وحيدا أيضا لم يكونوا يقصدون ذلك عمليا ، بل استعماله كأداة ضغط ديبلوماسي فقط . لأنهم عمليا صمموا الائتلاف ليكون فاشلا وبلا دور .  وعندما قالوا أن الحل السياسي هو الحل الوحيد ، هم لم يقصدوا أبدا الضغط باتجاه هذا الحل  المستحيل عمليا مع نظام الإجرام ، بل إدامة أمد الصراع لأطول فترة ممكنة، ضمن سياسة الاستنزاف التي اعتمدوها باعتبار أن كلا الطرفين المتصارعين عدو للغرب ، والتي يجب أن تطول لأطول فترة ممكنة ، تزداد مدتها كلما أمعنت المعارضة باطلاق التصريحات المعادية للغرب المسيحي وربيبته في المنطقة اسرائيل ، فالحل السياسي منذ البداية واضح أنه يتطلب ببساطة تغيير النظام ، المشكلة أصلا هي جنائية بامتياز تشمل القتل والتعذيب والفساد والاضهاد القومي والديني والطائفي المؤسس له في النظام الحاكم … وهكذا وبنفس الطريقة يجب النظر أيضا لخطوطهم الحمراء المعلنة وغيرها وغيرها …

مؤخرا تناوب زعماء الغرب على سحب كلامهم السابق وإطلاق تصريحات تتحدث عن بقاء الأسد وحقه في الترشح لفترة رئاسية جديدة بعد انتهاء ولايته المزعومة ، مما فهمه الشعب وبعض الدول العربية الساذجة ، وكذلك بشكل خاص الانتهازيين الذين تسلقوا المعارضة وتوهموا أنهم قد أصبحوا حريفي سياسة : على أنه تغير دولي يجب مراعاته بواقعية ، فتسابقوا على تخفيض سقفهم وتقديم التنازلات ، ومنهم من باشر تحضيراته للعودة لحضن الوطن عرين الأسد ، وعزز اتصالاته بروسيا وإيران حلفاء النظام ، بينما احتفل أنصاره البلهاء بما فيهم حزب الله بإعلان النصر المؤزر ، خاصة بعد تصريحات ماكرون و وزير الخارجية البريطانية والجبير وصمت المؤسسات التي تهيمن على تمثيل المعارضة .

بمقارنة بسيطة كان بإمكانهم أن يفهموا الموضوع بطريقة أخرى : لأنه عندما قال الغرب قبل ست سنوات على الأسد أن يرحل ، لم يرحل … واليوم عندما يقولون يجب القبول ببقاء الأسد فهو أيضا لن يبق لذات السبب ،  فاختلاف الكلام هو بسبب اختلاف التوظيف ، و توظيف الكلام الجديد المناقض للسابق جاء على أرضية محاولة تنفيذ التفاهم الروسي الأمريكي على تقليص النفوذ الإيراني في سوريا ، كشرط لتلزيم روسيا بحل المعضلة السورية ، لكن روسيا طلبت منهم لكي تنجح في مهمتها تبريد الجبهات وتقليص التهديد العسكري للنظام ، وتخفيض سقف المعارضة ، و تطمين الأسد على مستقبله وبقائه ، أملا في تسهيل عملية تخليه  عن إيران بحسب اعتقاد وادعاء الروس ، وهذا كله قد حصل ضمن خطة منهجية أوحت فعلا أن الثورة انتهت وأن مليون شهيد قد ذهبت دماؤهم هدرا ، مما أثار جنون ملايين المشردين والمضطهدين والمفجوعين  الذين يعجزون عن تقبل هكذا تحول أو هكذا حل . لكن الأسد فهم وظيفة هذه التصريحات ، لذلك تمسك بإيران ، وبمتابعة الحل الأمني ، وشدد من قبضته على من بقي في مناطقه أو عاد لحضنه ، ناهيك عن أن ايران لم تسمح له بأن يتخلى عنها بأي شكل وأي ثمن بعدما وصلت لمرحلة تهيمن فيها على الدولة والجيش في حمص ودمشق وادلب ودرعا والبادية ، بينما روسيا عمليا لم تستطع السيطرة إلا على الساحل ، وإيران تمسك بالأرض في بقية المناطق ، وإخراجها منها أصبح صعبا وقد يحتاج لعمل عسكري ، من شأنه أن يطيح بالأسد أيضا بسبب حالة الالتحام بينهما.

لو انتصرت الثورة التي صارت اسلامية لوقف الغرب مع ايران ، ولكن انتصار ايران الثورية الاسلامية يدفعهم للوقوف بجانب الطرف الآخر ، ولا نقول الجهادي السني الذي تفككت منظماته عمليا وهزم عسكريا بتدخل روسيا ، بل المجتمع المدني السني المعتدل كبديل وحيد عن المليشيات والحشود الشيعية الجهادية ، فمن وجهة نظر اسرائيل روسيا تدخلت وقضت على المنظمات الجهادية السنية ، لكنها قوت المنظمات الجهادية الشيعية وحلفائها ، والتي صارت تطوق اسرائيل ولا تكف ليلا ونهارا عن تهديدها ، لذلك هم يعتمدون الآن سياسة التفريق بين حلفاء الأسد وضربهم ببعضهم ، كما فعلوا بين المنظمات الجهادية ، لإضعافهم تمهيدا لتدخل غربي لابعاد خطرهم نهائيا . وبشكل يضمن نجاح أهداف سياسة الاستنزاف التي اعتمدت منذ عهد أوباما .

وبينما تجري المشاورات والتحضيرات لتدخل عسكري واسع في سوريا يتجنب ويحيد روسيا ويطيح بالوجود الإيراني ونظام الأسد ، أطلق دخان الحل السياسي القريب والناجز الذي يحفظ بشار الأسد ونظامه المجرم ويعيد له الشرعية ليصبح شريكا في المجتمع الدولي بكل قذارته ، مع العلم أن هذا الحل السياسي هو حتى الآن مجرد سراب ، وأفضل تعبير عنه هو مفاوضات ديمستورا التي لا تبيع إلا الوهم منذ سنوات … الدول حاولت تنفيذ ما تتوافق عليه فقط : مثل قتال داعش وإضعاف المنظمات الجهادية وتفكيكها ، لكنها وقفت على نقيض حول بقية المسائل التي لم تجد حتى الآن وسيلة لحلها كمسألة تقليص النفوذ الإيراني ومنعها من الوصول للمتوسط ، حيث طرح موضوع بقاء الأسد لتسهيل عملية سحب حليفه من تحته وهو الحرس الثوري الإيراني ، ليصبح عاجزا ، بعد أن سيطرت روسيا على الكثير من ضباطه وقطعاته وأجهزته ، لكن السؤال دوما كان : هل تصدق روسيا بوعودها ؟ وهل هي في وارد التخلي فعلا عن حليفها الإيراني في المنطقة ؟  وما هو الثمن الذي تطلبه ؟ فقد أثبتت السنة الماضية عدم وجود إمكانية انضاج صفقة روسية غربية شاملة ، لذلك بقيت ايران وتمسك الأسد بها ، وكذبت روسيا في وعودها ، وبالتالي أصبح واردا جدا انقلاب التصريحات الغربية مرة أخرى، كما فعل وزير الخارجية الفرنسي بالأمس . عندم عبر بوضوح أنه منطقيا الأسد لا يمكنه أن يكون شريكا في الحل بعد ست سنوات من الجرائم .

مهما صرحوا ومهما قالوا ، الأسد لن يبق ، ولن يحاكم ، بل سيدفن مع جرائمه وملفاته ومرحلته التي أكملت وظيفتها ، في سوريا لا يوجد حاليا أفق لحل سياسي بين أطراف الصراع التي هي دولية أكثر منها سورية ، بل لا بد من استعمال الضغط والقوة لاخراج بعض الأطراف ، ثم فرض وصاية دولية لفترة تسمح بانضاج توافقات وطنية جديدة بين السوريين الذين عجزوا لأسباب ذاتية وموضوعية عن انضاج تمثيل سياسي مقنع وقادر ومسؤول .

أخطر ما يمكن أن نفعله هو الانجرار وراء الطابور الخامس المؤلف من المهزومين والانتهازيين والمستسلمين وعملاء النظام الذين يركبون معظم مؤسسات المعارضة ، ونعطي النظام ما لا يجب أن نعطيه في هذا الظرف ، لذلك علينا في هذه المرحلة من الضعف بالمقارنة مع قوة الدول العظمى المتدخلة أن لا ننخدع بتصريحاتها ، وأن نتمسك بموقفنا الواضح من نظام الأسد وحليفه الإيراني ،وأن نكف عن اطلاق تصريحات العداء للغرب والتمسك بالآيديولوجيات المتشددة التي تثير مخاوفه، فهذا ما سيؤخر قرارها .

السياسة هي عملية ادارة بالأهداف تستخدم كافة الوسائل بطريقة براجماتية مفرطة ، تهتم بالمصالح حتى لو جانبت القيم والأخلاق واحترام الذات والمصداقية … وبعيدا عن التصريحات السياسية الموظفة يوجد دوما حقائق سياسية لا يمكن تجاوزها ، أهمها ارادة شعب ثار وانتفض ودفع مليون شهيد ، فالحقائق أشياء عنيدة كما يقال .

صبرا وثباتا يا شعب سوريا المنكوب ، على أمل أن ينعاد عليكم هذا العيد بظروف أخرى مختلفة عما يصرحون ويقولون ، مع الشكر لكل السياسيين الذين التقطوا هذه النقطة وثبتوا على موقفهم وتمسكوا برحيل الأسد والاحتلال وتطبيق العدالة وحرية الشعب وحقوق الوطن… فالعيد الذي يستحق التهنئة هو انتصار الثورة ورحيل النظام وعودة المهجرين  وتكريم ذوي الضحايا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.