لبنان الصغير و الفيدرالية السورية

د. كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

عندما أسس بيكو وكليمنصو وغورو لبنان الكبير ، كان هدفهم إنشاء دولة مسيحية قابلة للحياة في المنطقة العربية ، فضموا لمتصرفية جبل لبنان أربع أقضية كبيرة هي بيروت وصيدا والبقاع وطرابلس . لكن الأغلبية المسيحية في هذا البلد الجديد الموسع سرعان ما تآكلت وتحولت لأقلية صغيرة ، فلبنان اليوم يحتوي على حوالي مليون ونيف  مسيحي ومثلهم سني ومثلهم شيعي ، وقليل من الدروز ، ويحتوي أكثر نصف مليون لاجئ فلسطيني وحوالي مليوني لاجئ سوري نصفهم موجود قبل الثورة …

فنسبة المسيحيين فيه اليوم لا تتعدى 15% ومع ذلك هو شكلا دولة مسيحية وفعلا دولة شيعية ، وبدلاً عن ولاء هذه الدولة للأم الحنون فرنسا ، تحول ولاؤها للفقيه الاستعماري في قم ، وبمشاركة المسيحيين بعد أن أحكم حزب الله قبضته على الدولة والاقتصاد والسلطة … أي باختصار فقدت هذه الدولة  أمها ومرضعتها  وأسباب ومقومات هويتها المفترضة التي أوجدت من أجلها ، وأدخلت  نفسها بنفسها إلى معمل تدوير النفايات السياسة والدول الفاشلة ، الذي دخلته قبلها دول أخرى مثل العراق وسوريا بينما تنتظر ايران وغيرها من الدول على أبوابه للدخول والتحول وفق متطلبات وشروط الدول التي تقود العولمة .

الخريطة السياسية الجديدة للشرق الأوسط التي سترسمها ماكينة تدويرالنفايات هذه على حساب الدول الحالية المهترئة لن يكون فيها لبنان ، والصراع الدائر والمتوقع تحوله لحرب إقليمية ودولية ، هو الآلية العسكرية الفعالة لرسم الكيانات السياسية المختلفة تماما عن سابقتها ، بحسب توزع المكونات الديموغرافية ، وبحسب خطوط توقف القتال بين جيوش التحالفات الدولية المتصارعة والمتدخلة …

وبقراءة سريعة للتحولات الديموغرافية وميزان القوى العسكرية ، لا نحتاج لذكاء كبير لكي نستنتج بسهولة أن لبنان الذي أُقحم في أتون الصراع الدائر في العراق وسوريا واليمن وفلسطين وغيرها … وكأنه دولة عظمى ، قد حكم على نفسه بالموت والاندثار في غبار تلك الحروب ، كونه الدولة الأكثر هشاشة وضعفا كما أسلفنا ، وهو بمغامراته المتهورة تلك التي تجاهلت النصائح الكثيرة باتباع سياسة النأي بالنفس ، قد أصبح طرفاً في معادلة الصراع والتغيير في الشرق الأوسط بدخوله حلف الممانعة ، وبشراكته مع أنظمة العراق وسوريا وإيران المجرمة ، مع أنه تكوينيا مجرد محمية مسيحية فرنسية أحدثها الاستعمار الفرنسي الذي ولى زمانه … وبذلك يكون لبنان قد خرج من هويته عندما جعل نفسه رأس حربة للمحور الإيراني الصفوي في مواجهاته ومعاركه ليس فقط مع العالم والعرب والكرد والسنة ، بل أيضا مع الشيعة العقلانيين في ايران ولبنان والعراق  رغم ادعاءه تمثيلهم …

لذلك سيكون استهداف حزب الله في بداية أي مواجهة عسكرية مقبلة تقودها اسرائيل وتدعمها أمريكا وتشارك فيها الدول العربية بالتحالف مع الكرد لتقليص النفوذ الإيراني وقصقصة أذنابه بسكوت ورضا روسي … وسيوضع مصير لبنان بعدها ضمن بزار رسم الخرائط السياسية الجديدة  للمنطقة بدلا عن خريطة سايكس بيكو الهرمة ، التي حان موعد دفنها لألف سبب وسبب … وهو ( أي لبنان ) سيصبح البديل الطبيعي عن الساحل السوري الذي تحول قاعدة عسكرية روسية ، وسيبقى كذلك  طالما بقيت روسيا دولة استعمارية .

اللبنانيون الذين يعيشون اليوم سكرة انتصارات الممانعة الوهمية ، ويسعون لإذلال وطرد السوريين، هم ذاتهم سيصحون غدا على صوت القذائف ، ويسارعون لطلب الشفقة والرحمة من ضحاياهم السوريين ، عندما يصبح لبنان المدمر بنتيجة الحرب جزءا من سوريا الجديدة ، ويعود جبل لبنان كما كان مجرد متصرفية مسيحية محمية من فرنسا تعيش ضمن فيدرالية كبيرة عربية سنية متحالفة مع امريكا ، بينما ينحصر الشيعة في منطقتين منفصلتين جغرافيا هما (جبل عامل والهرمل ) ، ولا يتمكنوا حتى من دخول الفيدرالية السورية ككيان مستقل …

صحيح أن دولاً مثل العراق وسوريا وغيرها  ستزول من الوجود،  لكن العرب سيبقون أساس الهوية والتكوين السياسي التاريخي للمنطقة . كل ما يحتاجونه فقط هو تغيير بعض الآيديولوجيات الحمقاء التي يرفعونها ، لكي ينتصر محور السلام والحضارة على محور الشر والتخلف ، ليكون ذلك درسا تاريخيا لكل المستبدين الذين يقتلون شعوبهم، و للأقليات التي تستقوي بدول أجنبية وتظن أنها تستطيع بناء مجدها على إذلال غيرها … فلبنان الصغير كان مجرد كذبة جغرافية، وخطأ تاريخي لن يصعب إصلاحه  ضمن عملية التغيير الكبرى التي تحدث في الشرق الأوسط .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.