نجاح وفشل الثورات

د.كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

تحدث الثورة عندما يحصل انسداد في ديناميكية التغير السياسي بحيث تعيق النظم القائمة تقدم وتطور البنى التحتية الاقتصادية والاجتماعية ،  فالبنى التحيتية وفقا للفلسفة المادية التاريخية ( ماركس ) تؤثر وبشكل حاسم على البنى الفوقية وتغيرها ، والتي لا بد أن تكون تابعة بشكل ملزم لمستوى تطور البنى التحتية . أي بالتعبير الاقتصادي يتحكم مستوى تطور أدوات الإنتاج وقوى الانتاج بعلاقات الانتاج ، وبالتعبير الاجتماعي تتغير الثقافة تبعا لتغير طبيعة حياة التشكيلة وأدواتها ، وتؤثر بشكل حاسم على النظم والعلاقات السياسية التي لابد أن تعبر عنها ، وعندما تتناقض البنى الفوقية مع أساسها تحدث الثورات التي تحطم الأشكال القديمة للبنى الفوقية ( السياسية) افساحا في المجال لبناء أشكال جديدة ( الشعب يريد اسقاط النظام ) فكل ثورة تنجح عندما تحطم الأشكال السياسية والنظم القديمة ، وتفشل اذا استمر هذا النظام ولو حتى بدعم عسكري خارجي.

الذي حدث في سوريا أن النظام لم يعد نظاما يعبر ولو بدرجة نسبية عن بنى وثقافة قسم من الشعب ، بل تحول كليا تقريبا لمجرد سلطة احتلال … وهكذا نستطيع القول أن الثورة قد نجحت في اسقاط النظام كنظام وطني، وحولته لقوة احتلال ، لكن وطنها ذاته قد أصبح تحت الاحتلال … وأصبحت مهام الثورة مختلفة تتطلب التحرير ، وهذا ما شوش على بعض الخدج حديثي السياسة الذين توهموا أن العودة لحضن النظام ، أو التعاون معه على انهاء الثورة سينقذ البلد من الاحتلال …

النظام السياسي كالقميص الذي يصبح صغيرا وضيقا مع نمو الطفل ويجب تبديله ، إن تركته يتمزق وإن خلعته لا يمكن ارتداءه مرة أخرى ، فإذا لم يتمزق بفعل نمو الجسد ، واستبدل بثوب الاحتلال الفضفاض بالقمع والقصف والوحشية ،  فإن عودة النظام من دون الاحتلال أصبحت عسيرة .  وهكذا خسر النظام أيضا المعركة ، كما خسرتها الثورة ، وربح المحتل الذي استغل حاجة النظام وخيانته ، لكن فرص عودة واستمرار النظام لا تعادل فرص حتمية التغير وفق أي توافقات دولية أو تسويات … لذلك يجب أن يبقى صوت الشعب مرتفعا كلما بدرت بادرة أو مسعى . ولا يجب التفريط تحت أي ذريعة براغماتية بضرورة اسقاط النظام … فالحلول الوسط هي أسوأ الحلول في هذه المرحلة ، حيث يتم ترقيع النظام الديكتاتوري لتتكرر الحاجة للثورة بعد مدة وجيزة ، فالمطلوب هو نظام سياسي ديموقراطي مرن قابل للتطور يستجيب للتغيرات وارادة الشعب ، عندها فقط سوف نشعر بالاستقرار السياسي وعدم الحاجة للثورات والعنف التخريبي …

الاحتلال ليس كالنظام الذي يدعي الشرعية ، إنه حالة فاضحة لا يمكن شرعنتها ولا تخليدها ، واسقاط الاحتلال ليس أصعب من اسقاط النظام ، لكن أدواته مختلفة ، المهم حاليا وبحسب الامكانات المتوفرة هو استمرار رفع تكلفة هذا الاحتلال ، فالمعروف حاليا أن الاحتلالات صارت مكلفة أكثر بكثير من منافعها … ومن دون مشاركة الشعب وتعاونه لا يستطيع أي احتلال الاستمرار بدفع التكاليف الباهظة المادية والبشرية ، ولما كانت ثروات سوريا كبيرة وتستطيع أن تمول كلفة جيوش الاحتلال ، لذلك وجب التركيز على الخسائر البشرية والتي تتطلب الحفاظ على المنظمات العسكرية القادرة على العمل الفدائي ، وشن حرب تحرير ، وعدم الانجرار وراء تصنيفات المحتلين لها فهي تقوم بدور وطني تحرري مشروع بغض النظر عن لون علمها وشعاراتها ، فالتحرر من الاحتلال حق مطلق ليس مشروطا بجنس أو أيديولوجيا. على الشعب الاستمرار في حالة المقاطعة والعصيان ، ورفض كل صيغ التعاون مع المحتل … والعمل على الافادة من التناقضات الدولية لممارسة مزيد من الضغوط على نظام الاحتلال ،

حاليا هناك تعاون روسي ايراني يكمل بعضه ، لكن الضغوط المتزايدة على ايران قد تعطي نتائجها ، وهنا يفقد الاحتلال الروسي سنده القوي على الأرض ، أما دخول روسيا إلى جانب ايران فسوف يضع روسيا أيضا في حيز الضغوط … الخيارات المتاحة أمامهما هي انتظار تراخي الغرب وقبوله بالهزيمة ، والخيارات المتاحة أمام الثورة هي تشجيع الغرب على متابعة الضغوط ، مع التهديد بالتحالف مع ايران في حال انتصرت ، فلا يكون النظام القديم هو الحل بل نظام جديد مختلف هو أيضا حليف للمحتل الإيراني ، هذا أفضل من بقاء النظام والاحتلال معا ، وهذا يحظى بقبول المحتل الذي يشعر بالراحة داخليا. لتصبح قضية تقليص نفوذ الاحتلال قضية نضالية مستمرة للشعب …

كما نرى الثورة قد تتعرقل وتقف في مرحلة معينة ، وقد تجبر على تغيير مسارها ، وتجزيء مطالبها ، لكنها بحكم أنها ثورة تعبر عن متغيرات تحتية لا يمكن التغلب عليها ، ستبقى مستمرة وستحقق ارادتها ، فإرادتها ليست خيارا شكليا ، بل هي شروط الحياة الأساسية على أرض الوطن ، الثورة لم تطالب بالكثير بل بأبسط الحقوق التي يجب أن يتمتع بها مواطن أي دولة في هذا الزمان … الناس قد تخون عهودها ، وشعاراتها لكنها لا تستطيع خيانة حاجاتها ومصالحها … هذا ما قاله الفيلسوف الإجتماعي الألماني كارل ماركس قبل قرن ونصف .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.