ماذا بعد محرقة إدلب ؟

د.كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

يتساءل السوريون، وبشكل خاص الذين يعيشون تحت وابل القصف اليومي الهمجي، ماذا بعد …؟ وإلى أين تسير الأمور ؟ ، بعد أن أدركوا حقيقة فقدانهم السيطرة على مصيرهم (معارضة ونظاماً معاً ) وهيمنة قوى أجنبية أصبحت هي من تقرر وتنفذ وترسم المسارات ، فقدر سوريا أنها تقع في قلب العالم القديم، ولها أهمية استراتيجية جغرافياً وثقافياً ، ظهرت عندما فشل النظام الحاكم في القيام بدوره كنائب عن جيوش الاحتلال في قمع الثورة الشعبية العارمة التي قامت ضده ، مما استدعى عودة جيوش الاحتلال المختلفة، والتي لا يبدو أنها مستعدة للدخول في صراعات بينية مع بعضها، بل تميل أكثر لتنسق عملها معاً وفق تفاهمات تعبر عن حجوم ونسب الاهتمامات والمصالح . وهذا ما جعل الحلف الروسي الإيراني الذي ساند النظام منذ البداية هو المتحكم الأساسي باللعبة ، بسبب تخلي الولايات المتحدة وضعف أوروبا ، وانشغال تركيا داخلياً ، و موت جميع الدول العربية سريرياً ، وما نصب روسيا كمتحكم يوزع قطع الجبنة السورية على القطط المختلفة.

قبل أشهر سلّمت الأمم المتحدة للروس إحداثيات المشافي ومراكز الإغاثة في ما تبقى من المناطق المحررة في ريف حماه وإدلب (أملا في تجنب استهدافها من قبل طيرانهم)، ذلك يدل على وجود رضى من نوع ما من قبل المجتمع الدولي عن الهجوم الذي يشنّه النظام بدعم عسكري روسي وإيراني، لكن الروسي الذي تسلّم الإحداثيات تعمّد استهداف معظم هذه الأهداف في تحدي وغطرسة واضحة تظهر مدى قوة النفوذ الروسي ومدى تخاذل الدول الأخرى وتهافت قدراتها، بل توحي بوجود تواطؤ ضمني من قبل الأمم المتحدة مع احتلال سوريا ، طالما أنها لم تقم بأي رد فعل، وتمتنع عن إلزام الأطراف باحترام معاهدات جنيف الأربعة وملحقاتها المتعلقة بحالة الحرب والمدنيين تحت الاحتلال .

مضت أشهر على انطلاق الهمجية الروسية ضد إدلب، ولم يظهر أي رد فعل من قبل المجتمع الدولي أو أمريكا أو أوروبا أو حتى الدول العربية وتركيا، وهذا يدل على وجود إما تفاهمات مع الروس، أو رضا ضمني عن الهجوم، أو عدم مبالاة في أحسن تقدير، فعملية استهداف المدنيين بشكل سافر لم تحظ بأي اهتمام سوى بعض الإدانات الشكلية، التي لا تقدم ولا تؤخر. مما يعني أن الروسي مطلق اليدين، وماض في هجومه، ولا يوجد ما يمنعه عملياً سوى قوة المقاومة التي يبديها المقاتلون الذين يدافعون ببطولة لافتة عن ما تبقى لهم من مساحة للعيش فوق أرض الوطن، والتي يكتظ فيها ملايين المدنيين ومنهم مهجرين من كل المحافظات، وهم جميعا يتساءلون : ماذا بعد ؟ ما هو مصيرنا ؟

بالأمس كتب السفير الأمريكي السابق فورد مقالاً حول هذا القصف الذي تأثر إنسانياً بصوره كما قال، واختتم مقاله موجهاً كلامه لنا: (يجب أن لا تتوقعوا شيئا من الولايات المتحدة …! ) وبالأمس أيضاً أعلن مسؤولون روس أنهم يعملون بتنسيق كامل مع تركيا حول موضوع ادلب؟ وهذه ليست المرة الأولى، فالكثير من الاجتماعات بين القادة كانت تخرج ببيانات مشتركة تؤكد هذا التنسيق، منذ بداية مسار أستانة وسوتشي.

في بداية الهجوم على إدلب تردد التركي ولاذ بالصمت، ثم حسم أمره وأرسل بعض الدعم لقوات المعارضة، بعد أن طلب الروس من (قسد) أن تشارك في الهجوم على ادلب، عندما تبين لهم عجز قوات النظام عن إحراز أي تقدم ، مقابل ترتيبات وضمانات معينة لقسد، وهذا على ما يبدو أزعج التركي الذي جهد كثيراً لإخراجهم من عفرين، وبالتالي دفعه لدعم المعارضة في مواجهة الروس، ولمفاوضة الأمريكان بجدية من أجل فرض منطق آمنة في الشمال السوري، فشلت المفاوضات تماماً بين الأتراك والأمريكيين، رغم المرونة والتنازلات الكبيرة التي قدمها التركي، فالأمريكي قد أغلق عليه الباب تماماً ربما كنوع من العقاب على صفقة صواريخ S 400، التي قدمها بوتين لتركيا كطعم لسحبها بعيداً عن الناتو، وابتلعته تركيا وفقدت حليفها الغربي رغم عدم حاجتها لهذه الصواريخ فعلياً. فقوة أي بلد ليس بما يشتريه من أسلحة متطورة تفقد تميزها بعد فترة قصيرة، بل في قدرته على انتاج وتطوير أسلحته التي يصنعها هو ( نموذج إيران).

بينما رفضت قسد أكل الطعم الروسي ، كي لا تخسر الدعم الأمريكي والحضانة الأوروبية ، وكي لا تفتح جراحا جديدة لا تمحى بسهولة مع المكون العربي السني ، فالروس سرعان ما يتخلون عن وعودهم، لكن الأمريكي أيضا لا يبدي حتى الآن أي رغبة في الدفاع عسكرياً عن قسد في حال استهدفت من قبل النظام أو تركيا، ولا القوات الرمزية الفرنسية الرمزية هناك، ولا يعوض عن ذلك الدعم المالي المقدم من الدول العربية مكرهة. مما فتح الباب أمام التركي من جديد للتفاهم مع الروس على صفقة تشمل ما تبقى من الشمال السوري، الخارج عن سيطرة النظام.

ونظراً لصمود مقاتلي وأهالي المناطق المحررة، بشكل يختلف عن سياق بقية المناطق التي سلّمت بصفقات وخيانات، فإن هزيمة المعارضة عسكرياً على الأرض في ريف حماه وادلب ليست سهلة، وهذا ما تدركه إيران ويجعلها لا تشارك بفعالية، وما يجبر الروسي على الزج بقوات النظام الأساسية في هذه المعركة، واشراك الفرق الموالية لإيران من جيش النظام بما فيها قوات ماهر في القتال في هذه المحرقة … مع التحضير الجدي ديبلوماسياً لتنفيذ صفقات سوتشي التي تقضي بسيطرة جيوش الاحتلال التامة على كل سوريا برعاية وإشراف روسيا.

ما يثير الشكوك والمخاوف في هذا السياق هو الإجراءات الأخيرة التي قامت بها تركيا ضد اللاجئين السوريين وترتيبات الحدود الجديدة بحيث تضمن عدم حدوث ردات فعل أو هجرات جديدة ، وذلك استعداداً على ما يبدو للقادم المخطط له، وكذلك (وهنا الأخطر ) ما تقوم به أطراف محسوبة على قطر والإخوان ومدعومة من تركيا بمحاولة مستميتة لتنصيب قيادة جديدة للثورة وإعطائها زخماً شعبياً لكي تكون قادرة على تمرير هذه الصفقة المشبوهة التي تعني عملياً إعلان نهاية الثورة، عبر تسليم إدلب للنظام بغطاء وتحايل روسي وتركي، يتلطى خلف قيادة مزعومة للمعارضة تعمل لصالحهم، كمرحلة أولى تمهّد لاقتحام مناطق قسد شرق الفرات من قبل (تحالف الأستانة والنظام وبعض قوى المعارضة الحليفة لتركيا)، عندما تصبح هذه المنطقة هي الوحيدة التي تخرج عن سيطرة النظام السوري المدعوم من قبل روسيا وإيران والذي فتح قنوات تواصل مؤخرا مع تركيا، وعندما تدخل أمريكا في غيبوبة الانتخابات.

بتنفيذ هذه الصفقة التي تؤكدها لنا مصادر ديبلوماسية مطلعة، تكون سوريا شعباً وحكومة، معارضة ونظاماً، قد خسرت كل شيء وقد دمّرت كل قدراتها وسلبت سيادتها. لتصبح حرية هذا الشعب مهمة جيل جديد من شباب المخيمات والتهجير يكتشف أدواته ووسائله التي لن تكون سلمية بطبيعة الحال.
هامش المناورة على خلافات الدول المحتلة يضيق، وهو شبه معدوم في وضع ادلب (إذا تأكد التخلي التركي) حيث يتم التخطيط لحسم الوضع فيها بصفقة خيانة مذلة تشبه ما حدث في الجنوب مع فارق واحد أن من سيرفض سوف يقتل بدل أن يرحّل. أيضا هامش المناورة قليل نسبياً في وضع مناطق شرق الفرات ( قسد ) حيث الأمريكي يظهر بشكل مستمر رغبته في الخروج من هذه الرمال المتحركة، بينما يبقى هامش معقول للمناورة، يتعلق بالوجود الإيراني والحل السياسي وإعادة الإعمار، هو أيضاً سيضيق بعد تنفيذ هذه التفاهمات .

بعد إدلب ستمتحن روسيا التي تعطي الوعود للجميع وتكذب على الجميع، هل ستكون جادة في ايجاد حل سياسي يعيد اللاجئين؟ وفي التخلي عن حليفتها ايران؟ وسيمتحن أيضا مقدار نفوذ إسرائيل في قرارات الكريملين، ومفاعيل الحصار الاقتصادي على نظام الملالي وقدرته على تحمل الضغوط؟ والأهم من ذلك ستمتحن قدرة الشعب السوري الثائر على منع تنصيب قيادات عميلة أنانية تخونه وتبيع قضيته وتضحياته خدمة لمصالح الدول كما تعودنا سابقاً.

ماذا بعد محرقة إدلب ؟
المحزن فعلاً هو هذا الثمن الباهظ الذي يدفعه المدنيون، نتيجة كذب وخداع الدول الصديقة والشقيقة قبل العدوة، وقيادات المعارضة قبل قيادات النظام … فطالما هناك توافقات وصفقات بينكم ، لماذا تكذبون على المساكين وترمونهم للموت … ؟؟؟ إنها السياسة التي لا دين لها، ولا قيم تضبطها، والتي تحركها مصالح أنانية وشخصية غير مقيدة بأي معيار خلقي أو انتماء وطني.
الله المستعان .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.