ما العمل؟



د.كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني
الدكتور كمال اللبواني

مشت الخيول على العصافير الصغيرة

فابتكرنا الياسمين

ليغيب وجه الموت عن كلماتنا

لا وقت للمنفى  و للصور الجميلة  

فاذهب بعيداً في الغمام

لنصاب بالوطن البسيط

وباحتمال الياسمين             

    ( أبيات لمحمود درويش من قصيدة أحمد الزعتر )

ما العمل ؟ … سؤال يطرحه ملايين السوريين على أنفسهم وعلى بعضهم كل يوم؟ وتدور النقاشات على مجموعات التواصل، وتحضر المشاريع وتعقد المؤتمرات… لكن من دون جدوى، لأن كل إنسان يرى العمل الأهم هو ما يخدم حالته الخاصة، فالإجابة على هذا السؤال يتطلب أولاً أن نفكر بشكل جمعي وعام، وأن نعرف ماذا فعلنا؟ ولماذا فشلنا؟  خلال تسع سنوات مريرة قدم فيها الشعب السوري  الغالي والنفيس دون جدوى، ثم ماذا تبقى لدينا بعدها 

الشعب السوري أراد التغيير وأشعل الثورة على نظام الفساد والاستبداد، وبدلاً من التنحي أمام  إرادة الشعب كما فعل النظام التونسي والمصري، اعتمد النظام السوري على خطط واستراتيجيات حليفه الإيراني في قمع التمردات، وطبّق الخطط بعد الخطط التي لم تفلح أمام إصرار الشعب، ولم تتدخل الدول التي راهنت المعارضة عليها للجم الآلة العسكرية للنظام وإيران كما فعلت في ليبيا، فاضطر الشعب لحمل السلاح والقتال، وبالفعل حرر ثلثي سورية، عندها اعتمد النظام وحلفاؤه الإيرانيين سياسة البراميل لضرب الحاضنة الاجتماعية وتدمير المدن وتهجير السكان، مما هيأ الأرضية المناسبة لهيمنة المجموعات الإسلامية الجهادية الأكثر عنفاً وتطرفاً مستغلة ظروف المعركة القاسية التي فرضت على الشعب، فابتلعت معظم فصائل الجيش الشعبي التطوعي الحر، ودخلت في صراع مع فصائل الثورة، ثم مع بعضها البعض، وبالرغم من ذلك حققت توازناً مع النظام وحليفه الإيراني، لم يكسر هذا التوازن إلا التدخل الروسي الهمجي الذي اعتمد استراتيجيته التي استخدمها في قمع الشيشان، باستهداف المدنيين والقصف الجوي المكثف، وهكذا انقلب الميزان العسكري لصالح النظام، هنا برز دور المشبوهين في المعارضة وفي زعامات المنظمات الجهادية، وقاموا معا بعمليات تسليم المناطق تباعاً للنظام، وانتقلت المعارضة السياسية عموماً، بسبب طبيعتها الانتهازية، من الرهان على الغرب للرهان على الشرق في إيجاد مقعد لها ضمن تسوية مع النظام ، بينما توزع الشعب الثائر بين قتيل ومشوه ومشرد ومهجر، وبدا مؤخراً أن كل  تضحيات السوريين قد ذهبت هباء، عندما خرج الأسد يتبجح بالانتصار، فضاق الحال بالكثيرين وألحوا  بعد تسع سنوات بالسؤال من جديد: ما العمل ؟ سؤال متأخر ولكنه ملح، جوابه يعتمد  على تقييمنا لما حصل في السنوات السابقة أولاً، والذي يمكن تلخيصه بالنقاط التالية:

1- سقوط خيار الحل السياسي مع النظام الذي انتصر عسكرياً.

2- سقوط خيار المراهنة على الغرب بسبب ضعفه وخوفه من المجموعات الإسلامية، وعلى المجتمع الدولي بسبب تعطيله بالفيتو الروسي الصيني.

3- إثبات فشل المعارضة السياسية وعجزها عن إدارة الثورة في كل صعيد (عسكري وخدمي وإداري )، وتقديمها البراهين تلو البراهين على طبيعتها الطفيلية ونزعتها الانتهازية.

4- سقوط الخيار العسكري في إسقاط النظام  بعد تدخل دول عظمى  لمساندته.   

5- سقوط مدوي لشعبية المجموعات الإسلامية لبعدها عن المشاريع الوطنية، وسهولة اختراقها والتلاعب بها، وصراعاتها مع بعضها، وعداء المجتمع الدولي لها، وصولاً لتخليها عن قضية شعبها وتسليمها المناطق المحررة تباعاً للنظام.

6- سقوط الرهان على الدول الصديقة والشقيقة بما فيها أمريكا وتركيا والدول الخليجية، والتي أثبتت مراراً وتكراراً أنها لا تهتم بمصالح الشعب السوري، إلا بمقدار خدمة مصالحها كدول بل مصالحها الضيقة كأنظمة حاكمة، ولم تعد تمانع بقاء الأسد المجرم لذات الأسباب.

7- بقاء إمكانية للمراهنة على نزاعات الدول المتدخلة وتناقض مصالحها.

8- ثبات إرادة الشعب السوري وتصميمه على تحقيق أهدافه في الحرية والكرامة والديموقراطية في مناخ من استمرار تجدد الربيع العربي وامتداده لبقية الدول تباعاً.

9- تراكم عدد المتضررين من النظام وشموله لمعظم أبناء الشعب السوري بسبب أفعاله الجرمية واصراره على اعتبار سورية مزرعة له، وتمسكه بالسلطة كسبب وحيد لكل ما جرى.

10- تصاعد موجات التمرد والاحتجاج والصراعات الداخلية في حاضنته الاجتماعية وعموم المناطق المحتلة التي تخضع لسيطرته.

11- استمرار المقاومة في معظم المناطق التي عادت لسيطرته وفشل المصالحات.

12- تدهور الحالة الاقتصادية والمعيشية لدرجة لا تطاق في عموم البلاد  والعجز المطلق عن إيجاد حلول لها.

ثانيا : ماذا بقي لدينا ؟

  • بلد مدمّر وشعب مشرّد واحتلالات متعددة، فقر مدقع، وحالة فوضى وتفشي للجريمة.
  • نظام مهلهل يعيش على المساعدات الخارجية، حاضنته بدأت بالتمرد عليه بعد زوال خطر المجموعات الإسلامية، جرائمه تلاحقه في ضمير كل سوري وفي المجتمع الدولي.
  • دول متناحرة متدخلة تتقاسم النفوذ والاحتلال، وتقترب من الاقتتال بين بعضها، وقد أصابها التعب واليأس بسبب عدم وجود نهاية للوضع السوري الذي تحول لمستنقع استنزاف لها.
  • بقايا منظمات عسكرية وجهادية عديمة الفعالية مرتهنة تعمل كمرتزقة عند الدول.
  • تزايد عدد المجموعات الصغيرة المنفلتة من أي وصاية والتي تستمر بعمليات الانتقام ونشر الفوضى.
  • معارضة سياسية مفككة ومشتتة وفاشلة، منظمات فاسدة، شعب بلا مأوى ولا تنظيم سياسي ولا مدني ولا أهلي لا قيمة ولا صوت سياسي له.
  • عدد كبير من القادرين على حمل السلاح والقتال تحيدوا عن المعركة كرها بسبب عدم توفر قيادات وطنية.
  • كم هائل من الحقد على النظام والاحتلال من كل المتضررين والضحايا وما أكثرهم.
  • كم هائل من الطاقات والإمكانات التي يمكن توظيفها خاصة في المخيمات ومناطق المصالحات.
  • قدرة هائلة على الفساد والتخريب وإدامة حالة الفوضى، تمرس بها الشعب السوري طويلاً وتفوق فيها على غيره من الشعوب.
  • محاولات مستمرة للهجرة نحو أوربا تشكل ضغطاً متزايداً على المجتمع الدولي.
  • تضخم حاضنة اجتماعية يائسة ميالة طبيعياً لممارسة والعنف الأعمى بهدف الانتقام، ومساندة الإرهاب  الذي يشكل أداتها الوحيدة لاسماع صراخها وللتعبير عن شدة ألمها.

هذه العوامل كافية لاستمرار الثورة ومنع النظام من إعلان انتصاره بالرغم من سيطرته العسكرية، لذلك فإن الخطر الأساسي اليوم على الثورة هو دور المعارضة ( المعتدلة ) التي تروّج للواقعية وقبول الأمر الواقع الذي فرضه النظام عسكرياً، والذي يريد النظام مع الدول الحليفة تكريسه سياسياً، وهنا يأتي دور المعارضة الخياني بسعيها لترسيخ حالة الاستقرار المبنية عليه، بالتوافق التام مع مصالح الدول المتدخلة التي تتمسك بهذه المعارضة بأسنانها ولا تريد إزاحتها مهما كانت الأسباب، طالما هي أداتها لسرقة قرار الشعب السوري.

بناء على ماسبق فإن العمل السياسي المطلوب يتحدد بالنقاط التالية :

1- اعتبار سورية دولة فاشلة وممزقة ومحتلة، تتحكم بها عصابات وميليشيات مجرمة أجنبية ومحلية على رأسها عصابة الأسد، واعتبار الشعب السوري  شعباً منكوباً (في الداخل، وفي دول اللجوء أيضاً) وذلك لقطع الطريق على عملية إعادة شرعية النظام وتثبيت نتيجة انتصاره العسكري سياسياً.  

2- مطالبة الأمم المتحدة بإعلان سورية دولة فاشلة، والمجتمع الدولي بتحمل مسؤولياته بما يخص حق الشعب السوري في العيش في وطنه وتقرير مصيره بحرية، أيضاً مطالبة المجتمع الدولي بتطبيق العدالة الدولية على مرتكبي الجرائم بحق الإنسانية وجرائم الحرب أيا كان، وبإلزام جيوش الاحتلال باحترام اتفاقيات جنيف المتعلقة بحالة المدنيين تحت الاحتلال. والاعتراف بحق الشعب السوري بالحرية وبشرعية مقاومة الاحتلال بكل الأشكاله، وممارسة كل أنواع الضغوط على السلطات الحاكمة في سورية وعلى جيوش الاحتلال، وعدم المباشرة أو المساهمة في عملية إعادة الإعمار قبل وجود سلطة شرعية حاكمة يرضى عنها الشعب وتخضع لرقابته.

3 – إعلان عدم شرعية أي هيئة تفاوض باسم الشعب (يسميها النظام أو المعارضة أو تختارها الدول)، وعدم شرعية أي مسار سياسي راهن طالما الشعب غائباً عنها، والرفض المسبق لكل مخرجاتها.  فالشعب السوري لا يستطيع انتخاب ممثليه الشرعيين إلا من خلال حياة سياسية طبيعية على أرضه، وكل ما يسبق ذلك هو غير شرعي وغير ملزم للشعب أو دولته في المستقبل.

4- دعوة الشعب السوري في الداخل والخارج  لمتابعة عصيانه المدني ومقاومة الاحتلال، ومتابعة رفضه للنظام الحاكم، وللمعارضة السياسية، ومنظمات التطرف، والقوات الأجنبية كلهم سوياً ومعاً.

5- التركيز المستمر على جرائم النظام من اعتقال وتصفية وقصف وفساد.. عبر تفعيل ملفات جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية.

6- تسعير وزيادة حالة الرفض الشعبي للمعارضة السياسية ورموزها الانتهازيين، ولدورها في تكريس النظام، وفضح فساد رموزها وانحطاطهم.

7- فتح آفاق التعاون مع ثورات الشعوب في الدول المجاورة للجم حكوماتها عن التدخل في سورية.

8- تطوير برامج التنسيق بين تمرد الداخل وثورة الخارج والقاطنين في دول المهجر.

9 – السعي بكل الوسائل لإدامة حالة الفوضى والتمرد والعصيان، لأنها كافية لإفشال كل مشاريع تكريس الاحتلال التي تمر عبر فرض الاستقرار وإعادة الشرعية للنظام  وتساهم فيه المعارضة الخائنة بكل وقاحة، فتجاوز حالة الدمار الراهنة تتطلب تضافر الجهود بالتعاون الكامل مع الشعب لفترة زمنية طويلة جداً، وهذا يتطلب توفر حل سياسي يرضى عنه الشعب، وفكرة إخضاع الشعب تبدو مستحيلة بالنظر لأنه لم يعد لديه ما يخسره، فمجرد الإبقاء على حالة الفوضى الراهنة كافية كأداة مقاومة لاستمرار الثورة، وليس كأداة نصر طبعاً.

العمل التنظيمي المطلوب لتحقيق النصر  ( وهو العامل الحاسم في هذه المرحلة ):  

1- الهدف المنشود هو وجود هذا الشعب كقوة سياسية واقتصادية ومدنية مستقلة عن التبعية والارتهان لأي دولة.

2- التركيز على الانتماء الوطني السوري كأولوية على الانتماء الأيديولوجي الحزبي أو الأهلي الطائفي، في كل المنظمات، وفي استراتيجيات العمل.  

3- التعاون معاً على تجميع قدرات السوريين وتنظيم عملهم لتشكيل حركة سياسية وطنية سورية تضم أوسع طيف من الشعب السوري، تعمل هذه الحركة مرحلياً على إدامة الثورة بواسطة إدامتها لحالة اللا استقرار واللاشرعية طالما بقي النظام الحاكم، مع استمرار سعيها لتحقيق أهداف الشعب المتجسدة بصناعة وطن تحكمه دولة حق وقانون، يتمتع بالحرية والسيادة والديموقراطية، ويضمن العودة الآمنة للمهجرين، واستعادة الحياة الطبيعية.

4- إطلاق المبادرات التنظيمية في كل مكان ومجال، وتبادل التجارب والخبرات، ووضع أسس التعاون الوطني  والعمل المؤسسي المنضبط والمراقب شعبياً، بحيث تستوعب وتوحد قدرات الشعب السوري وتوظفها في خدمة أهدافه.

5- الاستثمار في شباب المخيمات للتحضير لبناء منظمات ثورية وجيل ثوري جديد،

6- الاستمرار في تفعيل حالة الرفض والعصيان في الداخل والخارج، ونشر عدم الاستقرار تحت أقدام النظام وجيوش الاحتلال ومساعي الدول لإعادة الشرعية للنظام ، وإبداع طرق فعّالة في ذلك.

7- الاستمرار في الهجوم على المعارضة السياسية ومعاقبتها على ادعاء تمثيلها للشعب وثورته زوراً من دون تفويض منه، وبالتدليس مع دول خارجية نافذة، ومحاسبتها على فسادها، وملاحقتها في كل دول العالم، لفرض حالة الشلل عليها ومنعها من القيام بدورها الخياني الذي يشكل الأداة الوحيدة لهزيمة الثورة وتكريس انتصار النظام.

خلاصة :  طالما أن الشعب موجود في حالة صعبة بسبب سلوك النظام الإجرامي، وطالما أن من يتحكم به اليوم هم مجرد عصابات مجرمة غير شرعية، فثورة هذا الشعب مستمرة بأشكال ووسائل مختلفة تبعاً للظروف وبشكل عفوي وتلقائي، وهو قادر ومتمرس في عملية إدامة حالة الفوضى والفشل الراهنة، وكل السوريين إن كانوا في الداخل أو في الخارج أو في مخيمات التشرد، هم جميعاً متضررون من النظام الحاكم، ولهم جميعاً مصلحة واحدة بوجود وطن يجمعهم يعيشون فوق أرضه بحرية وكرامة،  هذه هي الأيديولوجيا الوحيدة التي يجب أن يحملها الحراك الشعبي في المرحلة الحالية، وهو قادر لو أحسن تنظيم قدراته أن يكون اللاعب الأهم في تقرير مصير سورية، أما استمرار غيابه وتشرذمه وصراعاته، فهذا ما يضيع إمكاناته وتضحياته ويشجع المتدخلين على التمادي الذي يصل بهم لحد التقاتل علينا وفوق أرضنا، وجودنا كشعب فاعل في قضيته هو الأساس، وهذا غير مرهون بمحافظة محررة أو جبهة أو وضع عسكري، بل مرهون بمصالح وإرادة الشعب أينما كان، فإذا نجح في تنظيم قدراته فهو وحده من يستطيع إنقاذ وطنه والمنطقة من صراع أهلي ودولي مدمّر.  

وكما أن العالم يخيّرنا اليوم بين القتل والتشرد  أو القبول بالأسد، فنحن أيضاً نخيّره في المستقبل بين استمرار التمرد والفوضى وتصدير الأزمات، أو القبول بالديموقراطية وحكم الشعب بنفسه لنفسه.. الهدف هو رفض هذا الخيار عبر إدامة حالة الفوضى واللاستقرار بانتظار استعادة  الشعب لدوره في بناء الدولة، ونقلها من حالة التمزق والفشل والاحتلال والنزوح والتشرد لحالة الدولة المدنية الديموقراطية  الحرة ذات السيادة  لكل المواطنين، والتي لا يختلف عليها السوريين، والوسيلة لذلك هي المنظمات السياسية الوطنية الجامعة، وجوهر العمل المطلوب حالياً هو عمل تنظيمي وإداري لإدامة الثورة حتى سقوط النظام، ثم لإعادة بناء سورية بعده.

لذلك فإن الجواب على سؤال ما العمل؟ هو أن نكون.

أو كما قال تشرتشل  

?To be or not to be, that is the question



اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.