يجب.. يتوجّب


د.كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني
الدكتور كمال اللبواني

تحوّل الشعب السوري لشعب افتراضي يعيش حياته السياسيّة على شبكات التواصل الاجتماعي، بينما تتشتت حياته الاجتماعية والاقتصادية في أصقاع الأرض، وعلى صفحات التواصل تتشكّل الأحزاب والكتل والمنظمات والكتائب والفصائل، وتفتح الجهات، وتوضع الخطط، وتخاض المعارك، وتنطلق الحروب، وترتسم الحلول، ويخلع الرؤساء، وكل ذلك يجري على الشبكة الافتراضيّة، بينما يجثم الواقع الفظيع من الدمار والشلل كما هو، جلّ النشاط السياسي (المتضخم جداً) للشعب السوري ينحصر بالبوست، وينتهي دوماً ببيان مبني على كلمة يجب ويتوجّب، نطالب ونناشد، فالفاعل دوماً مجهول وغير موجود، من تطالب ومن تناشد؟، لا أحد، لذلك يشعر الشعب السوري أنّه يتيم، فالطفل يبكي لتسمعه أمه وتهرع إليه، أما الشعب السوري الذي يبكي ويشتكي فلا يجد أمّاً ولا أباً يهرع إليه، لذلك يشعر باليتم، ويقول مالنا غيرك يا الله. يجب

حقيقة المشكلة ليست في المجتمع الدولي أو الدول العظمى أو الشقيقة، التي لا تلعب دور الأب المطلوب منها تجاه صراخ الشعب السوري، المشكلة أساساً في وعي الشعب السوري ذاته ولذاته، الوعي الذي يفترض أنّه طفل وأنّ الآخر أم وأب، الشعور أنّه طفل عاجز يحتاج لثدي وحضن، والمشكلة في قادة المعارضة الأطفال الذين يسرعون للإمساك بحلمة ثدي هذه الأم الحنون أو ثوب ذلك الأب القادر، ويقومون كأيّ طفل جائع بشفط قطرات الحليب، الذي لا يصل منه شيء للشعب، فيبدأ بشتم كل العالم واتهام الجميع بالتآمر عليه، كل نشاط الشعب السوري ينحصر في البكاء والمطالبة والشكوى، يتوجّه نحو الآخر الذي يعتبره هو الفاعل، ولا ينتبه لحقيقة بسيطة أنّه هو الفاعل الوحيد المعني في تقرير مصيره، وأنّ الآخر لا يعتبر نفسه أماً ولا أباً بل مجرّد باحث عن مصالح ومنافع غالباً تكون على حساب الآخرين الضعفاء. يجب

ربما إذا انقطع النت وانطفأت الكهرباء، قد يستيقظ هذا الشعب من سكرته الافتراضية، ويعيش في الواقع الحقيقي، ليتلمّس جسده ويده وعصاه، وهذا خير له من البقاء التعويضي في عالم وهمي صنعه من خيالاته لا يغني ولا يثمن من جوع. جلّ النشاط الافتراضي الذي يشارك فيه كل الشعب السوري العاجز والمشلول والمسجون في المخيمات أو بسياسات العزل، لا يمكنه أن يتجاوز قيمة الورق، ويموت عندما ينتهي شحن البطارية، إذا لم ينتج خطط عمل وبرامج عملية، تنطلق على أساسها ورشات العمل، لتنتج قوى سياسية وعسكرية واجتماعية تتكوّن من سواعد متآزرة وقدرات مادّية فعالة، تفعل فعلها وتغيّر الواقع المادي، كل هذا النشاط الفيسي والواتسي، سيبقى بدون قيمة، وسيبقى الشعب الافتراضي يعيش خيالاته وأوهامه ويجترّ الإشاعات والتهيّؤات، طالما استمرّ في القناعة بأنّه طفل رضيع، وأنّ الآخر ثدي وأم  وليس ذئب.

علينا كشعب سوري أن نعترف بأنفسنا أولاَ، ونتعرّف على ذواتنا وقدراتنا، أن نكون نحن الفاعلين في قضيتنا وتحديد مصيرنا، أن نخرج من تخيلنا بأننا طفل رضيع يحتاج لثدي، لكي يتغيّر حالنا من الاستلاب والتشرّد والعوز،  لقوة قادرة على تغيير الواقع، كل الدول والشعوب الأخرى الأقل والأضعف منا تنظر إلينا بازدراء بل احتقار عندما ترى عددنا وقدراتنا، وتقارنها بما يصدر عنا من بكاء وتوسّل وشكوى غياب الأم، بينما القوى الكبرى لا تسمع في أصواتنا سوى ما يسيل لعابها ويفتح شهيتها لالتهام هذا الجسد الغضّ الذي يبكي.

المطلوب منّا اليوم، هو الخروج من الحالة الطفلية لحالة النضج، ومن الشلل والاعتماد الكلي على الغير، للعمل المعتمد على الذات، ومغادرة الكرسي المتحرّك المخصٍص للسياسيين ذوي الاحتياجات الخاصة، والسير على قدمينا، لا أن تنتهي كل هذه الجعجعة على الواتس إلى بيان يبدأ بيجب، وينتهي بيتوجّب الذي لا فاعل له. وننسى أنّنا الفاعل الوحيد المطلوب منه العمل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.