الأحكام العرفية في سوريا



د.كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني
الدكتور كمال اللبواني

حُكمت بلاد الشام طيلة العهد العثماني بالعرف والدين كنظام اجتماعي حقوقي عريق وتقليدي يحكم المكونات البشرية المكونة من قبائل بدوية أو حضرية، وعائلات وقرى، وأحياء في المدن، بينما السلطة السياسية كانت بعيدة جداً وتستخدم عائلات محلية كمندوبة عنها، ولكنها أيضاً تخضع بدرجة أقل للعرف والعادات، وتحاول إيجاد التوازن بين متطلبات الحكم العثماني، وبين متطلبات الشعب، ولم تنجح دوماً في ذلك مما سبب تراكم عداوات داخل القرى بين العائلات التي اعتمدتها السلطة وبين البقية، وما تزال تورّث حتى الآن.

بشكل عام، بقي العرف والدين يحكمون المجتمع بشكل طبيعي بعيداً عن السلطة السياسية حتى بعد نشوء نظام قضائي في آخر الحكم العثماني وأيام الانتداب الفرنسي، فقد عبر ذلك النظام بشكل كبير عن مقاصد وقيم العرف، ولكنه بقي هامشياً كسلطة بعيدة لا تدخل في صلب الحياة اليومية التي حكمت بالعرف التقليدي المتوارث، وكانت تحتكم لسلطة المجتمع، وأحياناً يضيع الحق أو يحصّل بالثأر والانتقام عندما لا تكفي سلطة المجتمع المعنوية لتحصيله وصونه.

مع إعلان الوحدة بين مصر وسوريا تغيّر نظام الحكم وتحوّل لنظام فساد وإفساد ورشوة ومحسوبيات وولاءات، ولكنه لم يستمر طويلاً، فحاول المجتمع العودة لنظامه القديم لكن سرعان ما صعدت للسلطة فئات اجتماعية منفصلة عن العرف والدين والمجتمع استهواها التحكم الاستبدادي بالسياسة والاقتصاد وفقاً للنظريات الاشتراكية العسكرية، والتي وضعت مصالحها على نقيض العرف والقيم والحرية، وهكذا بدأت عملية الإفساد الشامل مع وصول حزب البعث للسلطة، وقيام الدولة بالاستيلاء على كل شيء من الاقتصاد للسياسة للثقافة، فكانت عملية التحديث التي قام بها النظام العسكري الجديد مجرد عملية تخريب لكامل النظام الاجتماعي السابق، وبشكل خاص، تحطيم لسلطة العرف والقيم والأخلاق والدين، ومع أنها أعلنت تطبيق الأحكام العرفية اسماً، إلا أنها ألغتها تماماً وضمناً، فقد عطلت القضاء والحقوق وجعلت الحَكم الوحيد هو السلطة المستبدة التي هي الحق وهي الخير وهي الوطن، ومن يريد الارتفاع في سلم الثروة والنفوذ عليه الانتماء لها وخدمتها، وهكذا ارتبطت مساحة العيش بمقدار الولاء لسلطة مستبدة منفلتة من كل مرجعية ورقابة أخلاقية أو ديموقراطية.

وبعد استلام حافظ للسلطة، وتحت شعار إعطاء الفرصة للقطاع الخاص، اشترط السماح بتطوير الملكيات الخاصة بشراكته، ثم جعل كل صعود في سلم الثروة مرتبط بالرشوة والفساد والتهريب والتهرب الضريبي، وكل صعود في سلم السلطة مرهون بالولاء له والتنكر للشعب الذي صار هو العدو، وهنا أطلق عمليات التشبيح على الضعفاء الذين تحت رحمة النظام، وبسبب انخفاض الدخل المستمر أصبحت الحياة غير ممكنة بالدخل العادي المحصل ضمن قيم العرف والحلال، بل صار الحرام هو الوسيلة الوحيدة للبقاء على قيد الحياة، وهكذا انتشرت بشكل هائل وبسرعة عجيبة ثقافة جديدة تعتمد الاستزلام والخيانة والغش والسرقة والاختلاس، والتشبيح وخرق القانون، ثم الاحتماء بقضاء مسيّس ومعطّل كلياً لصالح حماية النظام.

خلال ثلاثة أجيال لم يعد ممكناً العيش إلا ضمن النظام الفاسد المفسد الذي صنعه البعث وطوره حافظ ثم بشار، وأصبحت ثقافة الفساد هي الثقافة الوحيدة المتوارثة بين الأجيال، وغابت تماماً لدرجة انقراض القيم العرفية التقليدية، فانهار المجتمع وانهار الاقتصاد وعمّ الظلم والخراب واستشرس القمع.

وهكذا عندما قامت الثورة قامت ضد إجرام السلطة، وليس ضد نظام القيم والمعايير التي وضعتها وسودتها وأصبحت ثقافة الجميع، قامت الجماهير التي تحمل في دمها ثقافة الفساد ولا تعرف غيرها بالتمرد على سلطة النظام من دون التمرد على ثقافته، فماذا حصل؟
يتبع…



اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.