أوكرانيا : تكتيكات الساعة وتكتيكات حافة الهوية

د.كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني
الدكتور كمال اللبواني

في القرن الماضي نتذكر أزمة كوبا وخليج الخنازير حيث وصل العالم لحافة الحرب بين الأسطول الروسي والأمريكي عند سواحل كوبا، يومها كان الروس يريدون نصب صواريخ في كوبا رداً على نصب صواريخ للناتو على حدوده، وحماية نظامهم الشيوعي الذي نصروه هناك بدعم كاسترو ومليشياته، والذي كانت أمريكا تخطط لإسقاطه، لكن قبل تصادم السفن في خليج الخنازير بلحظات رن الهاتف وبدأ التفاوض، وفك الاشتباك وبقي كاسترو وانسحبت الصواريخ.

في تلك الأزمة كانت الحرب المتوقعة ستحدث مباشرة بين الطرفين الأمريكي والروسي، هنا في أوكرانيا الحرب حتى الآن غير مباشرة، تحدث بين وكلاء وعملاء موسكو والحكومة الأوكرانية، وهذا فارق جوهري سيحكم السيناريوهات.

عام 2014، عندما حرّك الروس كلابهم في أوكرانيا وقسموها ليؤمنوا طريقاً برياً لجزيرة القرم، التي هي مقر الأسطول الروسي، باتفاقية خاصة مع أوكرانيا المستقلة، والتي قد تنهي تلك الاتفاقية إذا شاءت مستغلة أي ظرف أو مستفيدة من حصانة انضمامها للناتو، رد الغرب على تدخل روسيا بفرض عقوبات على روسيا بالذات، بعد عام احتلت روسيا سوريا محاولة استخدامها كورقة تفاوض، سوريا مقابل الاعتراف بتقسيم أوكرانيا وهيمنة روسيا على القرم نهائياً، رفض الغرب أيضاً التفاوض، وأصرّ على حل كل أزمة على حدة، وهكذا راوحت القضية السورية مكانها وحطت رحالها على سلة دستورية لم تجمع أي تينة منذ 8 سنوات.

بدأ الغرب يستعد لضم أوكرانيا للناتو كوسيلة ضغط على روسيا، فأعلنت روسيا ضمها لشبه جزيرة القرم مثبتة أطماعها في أراضي أوكرانيا، التي حظيت باستقلالها التام بعد تفكك الاتحاد السوفييتي، لم يقبل الغرب التفاوض، وفشلت كل محاولات التوصل إلى حل، واستمرت سياسة التقارب وإرسال القوات والأسلحة حتى صار إعلان انضمام أوكرانيا مجرد وقت. ردّت روسيا بحشد قوات والتهديد بالحرب. الغرب قرر أيضاً إضعاف ورقة ومستوى التهديد، من حرب عالمية لحرب محدودة بواسطة وكلائه الأوكرانيين، عندما أعلن أنه لن يرد عسكرياً على الروس، مما أضعف ورقة التهديد الروسية، ففاقمت روسيا بحشد قواتها وأشركت بيلاروسيا وغيرها. تحركت كازاخستان لتهديد النفوذ الروسي هناك وفي عقر داره، فردت روسيا باحتلالها عسكرياً.

تحول الإعلام الغربي ودبلوماسيّي الغرب لقرع طبول الحرب الروسية كمتفرجين مصفقين  ليحرجوا الروسي، ويدفعونه نحو الهاوية التي أراد تهديدهم بها، وهي الحرب العالمية، التي سيحولوها لحروب استنزاف في محيط وداخل روسيا، من أفغانستان وكازاخستان مروراً بالشيشان وصولاً للقرم وأوكرانيا، صرّحوا وبشكل واضح أن اقتحام روسيا لأوكرانيا لن يرد عليه عسكرياً بل بعقوبات قاسية، والتي ستكون مصدر ألم بوتين والشعب الروسي الذي ضاق ذرعاً بمغامراته وشهوته للمال والتسلّط ، وحولهم لمجرد عبيد في بلدهم.

على بوتين اليوم أن يقرر: إما السقوط في الحرب التي ستكون نهاية لنظامه، وغزو أوكرانيا من دون أمل في الحصول على اعتراف بسيادتها حتى على القسم المنشق وهو هدفها الحقيقي، أو التسمر في المكان، والاكتفاء بعدم انضمام أوكرانيا للناتو (وهو عنوان الصفقة المقترحة عليه)، بينما تراوح أزمة أوكرانيا وانقسامها لتترك للزمن، كما هو حال تقسيم كوريا، والحال في سوريا. من سيقرر هذا هو الدولة الروسية ذاتها التي لا بد أن تتعرض لأزمات سياسية كبرى بسبب تخلفها وتراجعها الاقتصادي المستمر. الغرب يراهن على الزمن، والروس يراهنون على القوة، والذي سيقع في الهاوية لو اندلعت الحرب هم الروس الذين سيضطرون لدفع تكاليف تقصم ظهر الاقتصاد مما سيودي بالاستقرار السياسي. 

الحل الوحيد أمام روسيا عندها (لو شنّت الحرب) هو تلقي الدعم المالي الصيني الذي له مطالب كثيرة في أراضي روسيا ذاتها. في كل الحالات أوكرانيا كانت عبر التاريخ محتلة من قبل روسيا مثلها مثل جنوب روسيا كله، ولن يخسر الغرب سوى خسائر معنوية من احتلال روسيا لأوكرانيا، والتي ربما تشغله عن تهديدات لدول أخرى شمال أوربا.



اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.