يثب

لماذا يسكت أصدقاء سوريا عن بقاء الأسد ؟

د. كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

في البداية نامت ذاكرة الثوار السوريون على أحلام الدعم القادم من الغرب أسوة بما حدث في تونس ومصر واليمن وليبيا ، وصدقوا التصريحات والمؤتمرات الداعمة التي عقدت بالتناوب في عواصم الدول ، و تلقفوا انهمار الاعترافات بالمعارضة .. ولكنهم وفي غمرة ذلك لم يكونوا يهتمون بالتحول التدريجي والجذري لخطاب الثورة وشعاراتها الذي حدث في السنة الأولى ، والتغير العميق في بنية المجموعات المقاتلة الذي حدث في السنة الثانية، وما نتج عنهما من تحول كبير في سياسات الأصدقاء في السنة الثالثة …

من الصعب جدا على نمط العقل المنغلق ( الدوغمائي)  اتخاذ الموقف النقدي من الذات والآخرين، عندما يصبح من الضروري التحاور والتعاون معهم، لأنه يقوم على  اغماض العينين عن العيوب الذاتية ، واطلاق تهم العداء على كل الآخرين، وينغلق على ذاته بطريقة يصعب فهمها من خارجها، والسؤال كيف وصلنا إلى هذا التقوقع . وكيف خسرنا دعم حلفائنا لنا ؟؟؟

نذكر هنا أهم ثلاثة عوامل في تحول الثورة نحو خطاب اسلامي جهادي مغلق على الذات ومعادي للغرب:

العامل الأول : عنف النظام وحربه الفظيعة على المجتمع وسلوكه الاستفزازي الطائفي الذي أعطى للشعارات والمسميات الاسلامية قيمة مضافة، كونها اولا قادرة على دفع أعداد كبيرة من المجاهدين للموت من أجل الفوز بالآخرة حتى مع تدني الأمل بالنصر الدنيوي ، وثانيا كونها تقدم اللون الطائفي المضاد والعدائي . فالمعتدي هنا يحدد درجة وطريقة ردة فعل المعتدى عليه . وهو ما أعطى الشرعية والقبول لهذه الشعارات الإسلامية الطائفية الثورية في أوساط الضحايا الذين لم يترك لهم عدوهم فرصة لتقييمه بعيدا عن الشيطان الرجيم ، مما يعطي لضده تلقائيا صفات معاكسة رحمانية .  فكل من قاتل النظام حصل على الشرعية بسبب جرائم النظام ، لكن هذا العقل غير صحيح ، لأن قسما منهم هو صورة مختلفة الألوان للنظام ، أو وجه ثاني لذات العملة من وجهة نظر آخرين . فمعادات النظام تكون بنظام معاكس ، وليس بمجموعات تشبهه وتكرر ذات عيوبه ، وليس بنشر الفوضى والجريمة وتحطيم سلطة الحق والقانون . وهو ما يعكس التخلف الكبير في الثقافة والوعي السياسي العربي بعد قرون من الانحطاط والاستعمار . وبشكل خاص الوعي السياسي الديني الاسلامي الذي تبين بالتجربة فشله الذريع . في السنة الثالثة من الثورة عندما بدأت تشاهد خطوات تجسيدية له تسببت في ردة فعل كبيرة ضده وهو ما يجب أن ينتبه له دعاة تسييس الدين  كونهم يستهلكون وبسرعة رصيد الدين وقيمته في مزاريب السياسة .

العامل الثاني: هو الدعم (الاعلامي والمادي وبالسلاح ) الوارد من الدول الصديقة الذي ركز في الفترة الأولى على الإسلاميين بقيادة الاخوان الذين اعتمدهم الغرب في البداية  كقادة للربيع العربي، ( لظنه أنهم يلبون المطالب الشعبية، أي الرغبة في استعادة مكانة الدين بعد عقود من الاستبداد الكافر بكل القيم ) لكنهم وبسبب عدم امتلاك الإخوان النخبويين للقاعدة الشعبية ، ولا لمنهج سياسي فعلي غير الاستبداد والفوقية ، سلموا هذا الدعم لمن يظنونهم أدنى منهم … أي للجهاديين السلفيين الذين طوروا منظومتهم الجهادية الخاصة واستولوا على مصادر الدعم الخارجي وموارد الدولة الداخلية في المناطق المحررة ووظفوها في خدمة مشروعهم لإقامة الدولة الاسلامية ( بأشكالها المختلفة البغدادية والجولانية والحورانية والغوطانية وهكذا … كل على ليلاه يعلن نفسه أميرا للمؤمنين ويطلب البيعة لنفسه كما طلبها يزيد وبشار ونجاد،)  ولا ننسى أن دعما كبيرا  قدم من النظام وحلفائه للمنظمات المفرطة في التطرف بهدف تقوية الطابع الاسلامي والتكفيري للثورة ، وبشكل خاص تسهيل حصولهم على مستودعات السلاح وموارد الدولة ، وعدم استهدافهم بالقصف وتجنب قتالهم .

العامل الثالث : هو المنظمات الجهادية العالمية وشبكاتها التي وجدت المناخ المناسب لدخولها وهيمنتها على القوى العسكرية وفرض سلطانها على الشعب السوري الذي يقاتل النظام مستغلة حالة التشتت والضعف التي تعاني منها قوى الثورة ، ومستفيدة من دعم خفي من قوى اقليمية وشبكات عالمية ، وتدخل استخباراتي من قبل حلفاء النظام . أيضا مستفيدة من قدرتها غير المحدودة على ترهيب الآخرين وإخضاعهم تحت سيف الطاعة .

وبسبب ضعف البديل الديمقراطي وانشغاله بتوافه الأمور وفساده وفشله السياسي وعقم زعمائه وناشطيه .. طغى في النتيجة الطابع الاسلامي بالشعار والتنظيم والقيادة على الثورة السورية، حيث لا فروق جوهرية يمكن توصيفها بين الاسلاميين جميعهم  ، حتى أن نقصان عدد جبهة يترجم زيادة في جبهة أخرى ، فالأشكال عديدة لكن لجوهر واحد .. ومع ذلك هو  قابل للتغير ، والولاءات له وفيه غير مستقرة اطلاقا وغير ثابتة أو نهائية  ، وهكذا تهيأت الظروف لقيام إمارات ودول اسلامية لكن هشة وسريعة الزوال ، وجرب الشعب النموذج العملي الممكن لهذه الدعوات ، ولا أقول النموذج الصحيح، أو الذي يمثل الاسلام الذي نحترم  ، لأننا لا نتحدث عن أفكار وصور مثالية كلنا تربينا عليها ونحترمها كمبادئ عامة للحكم الرشيد ، بل نحن نتحدث هنا عن بشر قدموا نموذجهم باسم الاسلام ، وعن امكانات واقعية فعلية ونماذج تطبيقية فاشلة بكل المقاييس، بل مرعبة تتناغم مع  وحشية ودموية وهمجية النظام… لأن كل السلطات ( التي تسمي نفسها اسلامية) التي دخلت حيز الوجود في العصر الحديث متشابهة ومتقاربة ، ( من أفغانستان وصولا للسودان وداعش وحالش وولاية الفقيه ) ..

وبطغيان هذا الطابع توقف التعاطف الدولي والعربي الرسمي مع الثورة وصار الجميع يفكر بأن سقوط النظام بيد هؤلاء الجهاديين المتقوقعين على منطقهم الخاص ومعاييرهم الخاصة، والعاجزين عن حوار الآخر بل عن القبول بوجوده ، سيتسبب في مشكلة أكبر من بقاء النظام الضعيف الذي تحول لعصابة اجرام ، وعليه يجب الحيلولة دون سقوطه مرحليا على الأقل بانتظار وجود بديل مقنع ، وهذا هو سبب ما حصل من تغاضي وسكوت بل تسهيلات داعمة لوجود النظام بالتزامن مع اضعاف المعارضة وافشالها .. وهو ما ترجم عمليا في مسار جنيف . حيث المفروض نظريا ايجاد طرف ثالث ، لكن المنفذ عمليا وواقعيا حتى الآن هو الابقاء على الطرف الأول بشار ونظامه . لأن ايجاد الطرف الثالث عبر مسار جنيف يحتاج لموافقة الطرف الأول أي النظام الذي استشعر القوة بعد تخلي داعمي الثورة عن دعمها ، و في النتيجة أدى فقط لإضعاف الطرف الثاني لصالح الأول ، وهو عيب مسار جنيف الذي انتقدناه ورفضناه منذ تأسيسه ، لغياب أداة الضغط للازمة على النظام، وبسبب الاعتماد الكلي على الروسي الذي يكذب .

منذ البداية كان هنالك تخوف من الربيع العربي ومن الديمقراطية ، حيث سبق وجاءت أي انتخابات ديمقراطية بالإسلاميين المنغلقين للسلطة ، وهم ليسوا الاسلاميين المتنورين كما يدعون، بل هم التكفيريون فعلا وعملا وبنتيجة الممارسة والتجربة ، حتى لو كانوا بصيغتهم الاخوانية التي تجيد لعبة التقية . (فإذا كان العلماني مستبد وطاغية فماذا سيكون من يدعي تفويض الله له  لخلافته في الأرض ؟ )

الحقيقة المرة أنه لا يوجد حزب سياسي اسلامي معتدل ، وكل من يستعمل الدين في السياسة يستعمله لاحتكار السلطة والثروة والحق والحقيقة ، ويكفر ويرهب البقية للخضوع لسلطانه كناطق ومجسد لسلطة الله الأولى بالاتباع ( يقصد عمليا سلطته هو ، لأنه يتجاهل أن سلطة الله محققة دوما وأبدا ). سلطته هو التي يعاقب على الخروج عنها بالسيف الرادع  والشريعة التي لا تهاون في حدودها . الاسلام المعتدل لا يزج أنفه في السياسة ، وسلطته على النفس ومكانه القلب ، أما سلطة السياسة فهي سلطة زمنية خارجية مكانها أجهزة الأمن والقضاء . أما سلطة الله فهي قائمة بذاتها ولا تنتظر أحدا .

الوعي السياسي الاسلامي الراهن يقول أن الله هو رب خاص بعدد من الأمراء يعطيهم وحدهم الحقيقة والشرعية ، فهو ليس رب لكل البشر وكل الديانات ( كما تقول دعوة التوحيد ) بل هو فقط إله متعصب لجماعة حزبية محددة ( حزب الله وجنده ) تبعا لقراءة وتفسير وامامة شخص محدد يأخذ البيعة بالقهر  ويفرض سلطانه بالقوة والدم ( على أساس أنها سلطان الشريعة والفرقة الناجية). أي أن بقية الشعب وشعوب العالم هم ليسوا سوى ضالين أو مشركين، لم ولن يرض عنهم الخالق، ثم {عجز عن استبدالهم بقوم آخرين لنقص في جنود الله وملائكته}  ( معاذ الله ) ، وأن كل المسلمين بالوراثة غير المبايعين لهذا الأمير على السمع والطاعة، هم وفقا لمفهومهم المغلق ، خارجون عن الاسلام الذي يعني فقط بيعة الامام ( كطريقة وحيدة للاحتفاظ بالرأس فوق الكتفين )، والا فيجوز اقامة حد الخروج والعصيان عليهم، وبهذه الطريقة يقدم هؤلاء الحاملين للواء الاسلام أنفسهم كمشروع حرب ليس فقط لغير المسلمين بل لأغلب المسلمين الذين يضيقون ذرعا بهم وبتفسيرهم للدين وبطريقتهم في ادارة السلطة . ومع كل الفصائل المنافسة التي تدعي ذات الحق .

فالإسلاميون الجهاديون الذي اكتسبوا شعبية وشرعية في مقارعة النظام عسكريا ، خسروا أكثر مما حصّلوا عندما اهتموا بالحكم والسلطة وصار هدفهم الدنيا، أو كما يقولون الدنيا كبوابة للآخرة .. أي هدفهم السلطة والقوة والثروة.. وهي كلها فتنة ومفسدة .

لا يعقل لأي راشد أن يطلب من الغرب اسقاط الأسد الفاسد (الذي احترم مصالح جميع الدول ما عدا شعبه ، بل على حساب شعبه.. ) اسقاطه لصالح من يعادي كل العالم وشعبه أيضا بما فيهم رفاق جهاده ويقتلهم ويعذبهم . ولا يعقل أن يقدم الغرب السلاح النوعي لمن يخطط لمقاتلته وترهيبه فيما بعد ، ولا يعقل أن تقدم الدول الشقيقة الدعم لمن يهدد امنها واستقرارها ويتوعدها بالشر المستطير، ولأن الثورة قد تجاوزت امكانية الاعتماد على الذات، وصار نجاحها مرتبطا بمقدار الدعم ونوعه، صار من الواجب التفكير بعقلانية و الاختيار بين أمرين لمن لا يفكر بالاستسلام ويسعى لعقد الصفقات مع ايران وغيرها طمعا في السلطة وبأي وسيلة لا فرق عنده :

الأمر الأول : هو السير وراء جماعات الجهاديين المتناحرة ،و الاستعداد للموت المشرف في ساحات الجهاد ، لكن من دون أمل في الحصول على  دعم دول تعتبر أن الصراع الجاري هو صراع بين عدوين ، مع أمل ضعيف بالنصر لكن بعد مدة طويلة جدا ، ولصالح الخلافة  التي يتقاتلون عليها حتى داخل تنظيم القاعدة ذاته ويكفرون بعضهم البعض من أجلها ، بينما يدفع الشعب السوري الثمن باهظا من أرواحه وشبابه وبنيته ودولته ومستقبله .

الأمر الثاني : هو البحث عن وسيلة تطمئن  الغرب والعرب وتشجعهم على تقديم الدعم لإسقاط النظام واستبداله بنظام غير مرعب لهم،  فهم بكل تأكيد إذا كانوا يفضلون النظام على النصرة والقاعدة، فهم لا يفضلونه على نظام معتدل وغير ارهابي.   هنا وفي هذا المجال لا تنفع بيانات وتطمينات الائتلاف والأركان لأن الجميع يعرف أنهم شيء مصطنع في الخارج لا سلطة ولا قوة لهم على الأرض . بل لابد من مشروع سياسي عسكري مجتمعي حقيقي واسع ومؤسساتي مقنع وقادر ضمن خطة تنظيم وبناء ليكون الحامل المجتمعي للخيار الثالث، الذي يتولى التحرير والبناء و يتنطح لملء الفراغ ويلغي كلا الاحتمالين معا . وينخرط في مشروع اعادة بناء المنطقة على أسس مقبولة من كل المكونات والقوى ..

لكن السؤال المركزي هنا : هل نستطيع ايجاد تيار سياسي ديني يخدم هذا المشروع ، هل لدينا قراءة شرعية معترف بها للدين المسيس غير العقل المغلق التكفيري الراهن ؟؟  أم بانتظار تحقق ذلك يجب أن نتجاوز عن الشعارات الاسلامية السياسية المتداولة ، ونترك أمور الدين والعقيدة خارج التداول السياسي في المرحلة الراهنة . بانتظار نضوج مشروع عقلي فلسفي تنويري تجديدي قد يحتاج لوقت ومناخ مختلف لكي يزدهر ، و هو ما سيمكن الدين من التعبير الحضاري عن نفسه اجتماعيا وسياسيا .. نحن اختبرنا قدرة العقيدة على تحريك مشاعر المجاهدين الذين ابدوا بطولة وتضحية نالت الاحترام من الشعب ، لكن في بقية الأمور الانسانية والاجتماعية والسياسية تبين لنا العكس ، العجز والفشل والتخلف والاستبداد والارهاب .

هل مشروع السلطة الاسلامية الراهن بأشكاله المختلفة المتاحة هو مشروع سياسي مقبول .. حتى من السنة ؟ بعد أن جربوه .. وهل هو صالح لحكم دول فيها تعدد قومي وديني وطائفي ، هل هو متناسب مع الحضارة واحتياجات الانسان العصرية .. ؟؟

بكل حزن لا اعتقد  ذلك… كنا نتمنى أن يحتوي تراثنا على ذلك النموذج الذي نكرره ويصلح لأيامنا ، لكنها سنة الكون في التغير والتبدل والارتقاء والتجديد والابداع .

لابد من تطوير العقل القارئ والمفسر والمطبق للدين وجوهر العقيدة التي نؤمن بها ونحترمها كمرجعية معرفية قيمية ، لكي ننجز اعادة انتاج الأشكال التطبيقية لها و الصالحة لهذا الزمان ، وهذا يتطلب نهضة عقلية وثقافية دينية، وليس التمسك بالصيغ القديمة التي تناسب زمانها وشرطها المختلف كثيرا بعد التطور الهائل الذي حصل بفعل الحضارة ..

لذلك أرى أنه أمامنا خيار وحيد للتقدم والخلاص مما نحن فيه ، هو خيار المشروع المدني الذي لا يتناقض مع مقاصد الدين وغاياته . والذي يقبل به الغرب ويسير نحو التحرير والبناء وخلق فضاء للتطور العقلي والثقافي والسياسي ، عندها يمكن لمن يفكر في الافادة من قيم الدين أن يطور النظام السياسي الاجتماعي لتتلاءم معه وتحقق غاياته النبيلة التي هي مكارم الأخلاق . أما أن نسير وراء أمراء الجهاد الحاليين كمرجعيات عسكرية وسياسية وفقهية فهو مسار صعب وغير منتج ومحدد لذاته . فالعالم كله سيتعاون على الخلاص منهم وهزيمتهم . والنتيجة المتوقعة لهكذا مسار هي بقاء النظام وهزيمة الشعب … والاسلام معه .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.