يثب

مخاتلة (… أما أطفال سورية فلا بواكي لهم)

أكثر من 12 ألف طفل سوري تساقطوا ضحايا منذ آذار (مارس) 2011 نتيجة سعي النظام العنيف إلى قمع الثورة وخنق رئة الحرية فيها، بحسب قاعدة بيانات شهداء الثورة السورية. قتلوا قصفاً وقنصاً وذبحاً وتفجيراً وتعذيباً وجوعاً وبرداً وخنقاً وحرقاً ودهساً. قتلوا بالغازات السامة والسلاح الكيماوي، وماتوا وهم ينتظرون إسعافاً وعلاجاً وغذاء، وربما مجرد بطانية، بعضهم لم يغادر بطن أمه، وآخرون عاشوا أيامهم القصيرة ألماً وعويلاً لا ينقطع، وعذاباً لا يفهمون سببه إن بلغوا حداً من معرفة ما يحدث واستيعابه. تتزايد أعدادهم كل شهر ولا تنقص، حتى بلغ عددهم في شهر واحد 770.

هؤلاء الأطفال لم يبكهم أحد. لم ترصدهم وسائل الإعلام. لم تخرج من أجلهم التظاهرات. لم تتباك المنابر على براءتهم أو تستنكر بشاعة الإجرام الذي يتعرضون له. صورهم ونظراتهم المروعة ودموعهم الجارية أصبحت من مألوف وسائل الإعلام، حتى كأنها مجرد ذكرى بعيدة أو حلم مزعج. يهربون من براميل النظام لتستقبلهم سكاكين «داعش» وألغام «النصرة»، يلجأون إلى قرى بعيدة فيكونون متاريس لفئات متحاربة تظهر فجأة ثم تختفي، وإن سلِموا من ذلك كله صارعوا برداً قارساً وعجزت بطونهم الخاوية عن تحريك أقدامهم، أما إن ركنوا إلى مخيم ما أو بلد مجاور، لم ينجوا من الاستغلال والسخرة والطائفية.

القتلى مجرد جزء صغير من المشردين وأهل الشتات والمقطعة أطرافهم والمستسلمين قسراً إلى أمراض شتى لا وجود لها خارج بلادهم، ولا تسكن سوى أجسادهم، لأنها نتاج تلاقح الجوع والغاز وأصوات الرعب.

بعدهم جاء الدور على أطفال العراق، تلاحقهم الطائرات بنيرانها وتقتلهم أحياناً بأسمائهم، وتتدرب على أجسامهم الصغيرة الشهوات المريضة والمجرمة والحاقدة. في اليمن يقتل الأطفال عرضاً، فهم ينتسبون إلى جماعات مستهدفة، أو يعبرون شارعاً لحظة تجوال قذيفة فيه. في ليبيا يكون موتهم حرقة لذويهم وإضعافاً لعزيمتهم وانتقاماً أعمى عجز عن الكبار فاختار أسهل الطرق. في غزة يتساقط الأطفال قصفاً وتفجيراً في ملاعبهم البريئة، وكأن الحرب تستهدف المستقبل وليس المحارب القائم.

في كل مرحلة يستقطب الإعلام الصور المشوهة لهؤلاء الأبرياء وتتصدر اهتمامه حيناً من الزمن، قبل أن يصبح التكرار علامة ألفة وحال اعتياد، فيستحيلون إلى مجرد أرقام إحصاء لا تشغل سوى شريط راكض للأخبار، بينما يبحث الإعلام عن نشوة جديدة جاذبة للجمهور.

لماذا يجهل الجميع تقلبات الإعلام وقلة صبره وسهولة تحويل اتجاهه؟ ولماذا يراهن البعض على أن الاهتمام بأطفال غزة سيدوم، وكأنهم يختلفون عن أطفال سورية؟ وهل حضورهم في الصورة هو صحوة إنسانية، أم لأن دخولهم للمسرح هو الأحدث؟ لماذا لا يتحدث أحد عن أطفال بورما والمجازر البشعة التي تطمس وجودهم بتشفٍّ؟

كلما مات طفل عربي ضاقت دائرة المستقبل وتشربت الضبابية إلى ملامحه، أما أن يلاحقهم الموت في كل هذه البلدان، وتكون الحياة ومضة خاطفة بين الولادة والقبر، فلا شك في أن حركة الاستخلاف ستتجمد، وتذوب كل الأحلام التي تجترها الأغاني الوطنية الصاخبة، التي تراهن على نمو أطفال غدت القبور مساكنهم حال مغادرتهم الأرحام.

سقط أطفال سورية في متاهة النسيان، وأصبح قتلهم من المألوف، ولم يعد من وجودهم سوى صورة تفوز بجائزة، أو رقم عابر في دفاتر الإحصاء.

ضاع شادي وضاع معه كل رفاقه الذين انطلقوا يبحثون عنه، وإن استمر الحال فسيكون العالم العربي بلا أطفال، حتى وإن أنجبوا المزيد، لأن البراميل فائرة، والألغام مترصدة، والمقابر جائعة، والمدافع هائجة.

إذا مات الأطفال فما معنى المستقبل وسواعد الغد؟ وإذا غادر أطفال غزة أضواء المسرح فمن هم الداخلون الجدد؟

الحياة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.