نفي السوريين إلى المخيمات والمَهاجر يعول على إضعاف روابطهم ومقاومتهم

أورثت روايات وتواريخ حركات التحرر من الاستعمار والتسلط الغربيين- و»الشرقيين» إذا أدخلت روسيا القيصرية فالسوفياتية فالبوتينية اليوم في باب القوى المستعمِرة، ومعها الصين وارثة امبراطورية الهان، وتركيا العثمانية فالأتاتوركية… – تسمية المتمردين على السلطات القاهرة بأسماء قبيحة تنم بتوحش هؤلاء وقسوتهم وعنفهم. فمن الفييتمنْه في الهند الصينية (وهي فيتنام وكمبوديا ولاوس لاحقاً) إلى الفِلاّحة الجزائريين، ومن ماوماو كينيا إلى المخربين الفلسطينيين، سبحة متصلة من الاسماء الدالة على القتل الأعمى والاقتصار عليه. والتوحش والقسوة والعنف والقتل لابست من غير شك ملابسة عميقة وعضوية خروج الجماعات الوطنية والمحلية أو الاهلية على تسلط القوة المستعمرة، وقسمتها الخلق إلى أسياد وعبيد وقلة من هم بَيْن بَيْن. ولا يعذرها، لئن كان من معنى للعذر أو الاعتذار في مثل هذا المعرض، مباشرتها التوحش والعنف والقسوة في أهل الجماعات أضعافاً فوق مباشرتها في العدو المستعمِر. فالحروب الاهلية لم تنفك وجهاً ملازماً للحرب على الاجنبي. ولم تنفع وحدة العدو، أو وحدانيته المفترضة، في لم شمل الثوار أو المجاهدين أو الاخوة المناضلين، على خلاف ما يوجب التناقض الاساسي والرئيسي، وفرق ما بينهما، معاً.

وشم المجد

ولكن الحربين، حرب التحرير على الاجنبي والحرب الاهلية «في صفوف الشعب»، لا تستويان مكانة وشأناً على رغم خوضهما معاً. فالاولى قد تتوسل بقمع أخوة السلاح، والفصائل الوطنية، والولوغ في دمهم من غير قيد أو حساب، إلا أن «قيادة» حرب التحرير تسوغ هذا كله، وغيره مثله، من غير تحفظ. وتجلل هامة أصحابها والقائمين بها، بمجد باقٍ على الزمن كالوشم على الخد أو الجبين، على قول الاردني الذي مدح منتظر الزيدي، رامي جورج دبليو بوش في بغداد المالكية بالحذائين الخالدين والمنسيين. فالحق في التحرر يضمر حقاً آخر قد يكون أقوى من الاول، هو الحق في إبادة العدو الاهلي أو الداخلي. والحرب على العدو الخارجي، أو البعيد في رطانة سيد قطب و»الجهاد» المصري و»القاعدة»، مدخل إلى الحرب الفعلية على «الجاهلية» أو «الشعوبية» أو «الانعزالية» الداخلية. وقد يتعذر استئصال العدو الخارجي، وهو كثير وقوي ومن ملة أخرى قد لا تعود إلينا هدايتها. وأما العدو الجاهلي أو الشعوبي أو الانعزالي فإما أن يدخل في صحيح الدين أو يقتل. 

وحين خلا الجو للحرب الاهلية الاستئصالية، على قول كبار ضباط الجيش الجزائري في تسعينات القرن العشرين وقول الخمير الحمر من قبلهم، لم يفهم «مجاهدو» حرب التحرير، وهم الحزب الغالب والحاكم في حقبة «ما بعد الاستعمار»، التحفظ الذي جبه في بعض الاحيان سعيهم في إرساء سلطتهم على مجتمع جماعاتهم، واستئصال بقايا المجتمع القديم في المجتمع الجديد. ولعل أحد مصادر عسر الفهم، أو العجب، هو المديح الذي كيل من غير حساب لعنف التحرر والتحرير، توجَّه هذا العنف على المستعمِر أم على الرعية الوطنية والاهلية. فبعض منظري التحرر وكبار فقهائه وأصولييه، وفرانتز فانون أحد اعلامهم البارزين، لم يرَ في العنف على المتسلط والمستكبر الغربي الا سيرورة التحرر النفسية وجدلها العميق: فلا يُعقل الخروج من جلد العبد وأسره إلى عيد الاخوة والمساواة الناجزتين والتامتين إلا من طريق التمثيل في النفس (الاكتئاب أو لبس أقنعة البيض والتشبه بهم) والتمثيل في الغير (تكثير الجروح فيه). وجماع هذا هو ثورة المستضعفين في الارض.

وكان انقضى اقل بسنتين من العقد حين توفي فانون، في اوائل عقده الرابع، ولم يلاحظ ان جبهة التحرير الوطني الجزائرية قتلت من انصار حركة التحرير الوطني، الجزائرية والعمالية والمسالية (نسبة إلى مسالي الحاج)، عشرات الآلاف من المناضلين والانصار والاصدقاء والاهل نسباً. وأغضى فانون عن هذه المقتلة التي بلغ عدد ضحاياها، إذا جمع إليهم الـ70 ألفاً من الحركيين والمتعاونين مع السلطة الاستعمارية عشية رحيلها وغداته في صيف 1962، نحو ثلث عدد القتلى العام وهو اقل من 300 مئة ألف بقليل (نظير «ثورة المليون شهيد» التي أشاعتها وتشيعها رواية رسمية وشعبية أجمع عليها أعيان «المجاهدين» الحكام وعامتهم المحكومون والمنشقون والمتمردون). فالمثقفون التقدميون، والثوريون على وجه التخصيص، لا يسعهم «العلم» بالمنازعات التي تعتمل في صفوف حركات التحرر والتحرير، وهم لا يرغبون في مثل هذا العلم المزعج والمربك. فهو يشكك في مساغ ركن السلطة الجديدة الخارجة من الحرب، حرب التحرير والتحرر، أي اتحادها بالمجتمع الذي أرست مقدمات حكمه والسلطان عليه في أثناء الحرب. وحروب التحرير والتحرر أهدت مجتمعاتها المستقلة أنظمة كيم إيل سونغ (كوريا الشمالية) والخمير الحمر (كمبوديا) وبومدين (الجزائر)، وغيرها مثلها كثير. 

ولقاء التحرير والتحرر، وكأنهما هبة الحزب الذي قاد الحرب قسراً في أحيان كثيرة وليسا ثمرة ما لا يحصى من المبادرات الفردية والجماعية، يتوقع أي يريد الحزبُ القائد والمجاهد أن يدين له الشعب الواحد والمتحد بطاعة لا يشق عصاها. وعلى الشعب أن يغضي عن الشقوق او الفطور التي لا تلبث ان تدب في جدران البنيان المرصوص وتتسلل إلى أساساته وأركانه، وتباعد بين كتله أو جماعاته. وتتولى الحروبُ الملحمية والاسطورية، الكونية والمزمنة، على الجيوش الجرارة التي تؤازرها قوى العدوان التكنولوجي والنيوليبرالي الامبريالي وجحافل التكفيريين الظلاميين، سدَّ الشقوق والفطور الثانوية والمزعومة. فلا محل للحروب الصغيرة، على قول منظري الحرب في القرن الثامن عشر الاوروبي، «حروب الدانتيلا» الداخلية والمتواضعة، شأن «الحروب» السورية الاولى، حيث لا مكاسرة على حوافي الهاويات السحيقة. ولا تهدر صواريخ سكود والبراميل والخزانات المتفجرة ويَقتلُ غاز السارين المئات في دقائق معدودات.

حروب غير لائقة 

فالحرب على غير الامبريالية اليهودية والصليبية غير لائقة. ولا تخلف بطولات وأبطالاً، وأحياناً «آلهة» على تصنيف فيكو الايطالي والثامن عشري (قرناً ميلادياً). وهي غالباً ما ترتكس بأصحابها، وهم من العامة «الاجتماعية» إلى مرتبة البشر والانس، على تصنيف أو ترتيب صاحبنا نفسه. ومقارنة أنباء الحروب السورية منذ 3 أعوام ونصف بأنباء «الحرب» الغزاوية الواحدة في الاسابيع الثلاثة الاخيرة من تموز، قرينة حادة على ما تقدم. وما على المواطن الفضولي، بعض الفضول ومن غير مبالغة، الاستدلال إلى الامر بمعالجة ناجية الحصري النموذجية في تحقيق من جزءين («الحياة» اللندنية، 14 و17 تموز 2014، موسوم بعنوان واحد: «عن مآسي السوريين والاعباء الامنية والاجتماعية والاقتصادية على لبنان»). فنظير شن الهجوم والمباغتة والهجوم الاستباقي والاصطدام والمصادر المقربة وأَسْر مسلحين يحملون 40 الف دولار وأمراء ألوية ومقتل العشرات وسقوط اعداد هائلة من الجرحى والاجتياحات والهزائم والاوهام وقوات النخبة واستشهاد شبان في ارض المعركة والاستفادة الاميركية الكبرى ودرء الاخطار والاستنزاف والفشل والسيطرة على القلاع وفصل الجرود بعضها عن بعض واجتثاث التهديد والحسم السريع، الخ. إن كان ثمة من آخر للمسلسل البطولي والملحمي ولغوه الرتيب، تقتصر ناجية الحصري على الاصغاء إلى «حكايات المرارة»، على ما سمى الصينيون مرويات الفلاحين في عهد أسياد الحرب ويسمون اليوم مرويات المشردين في عهد أسياد «اقتصاد السوق الاجتماعي».

و»أبطال» ناجية الحصري هاربون ومهاجرون من القنص الذي شل يد الابن الولد وهو يحمي الناس، على ما تروي أمه، ويحتاج إلى جراحة أعصاب ممتنعة. وبعضهم هرب من القصف الذي يهدم «ثلاث طبقات (من خمس) من المبنى»، فلا يبقى حياً، ويهرب، إلا من كان في القبو و»نقطته» الطبية، على ما تروي أم عبيدة التي سلكت إلى عرسال «طريق الحية» المتعرجة بجوار طريق أخرى هي «فتحة الموت». وآخرون هربوا من «الطلب». فإذا قُتل أخ شقيق، أي استشهد على قول شقيقته، طلبت الاجهزة الامنية شقيقه. وإذا وقع في أسرها تحسّب أخوته الطلقاء لمطاردتهم الوشيكة. وكثرة هربوا مستبقين قتلهم والتمثيل بهم: ففي أثناء سنتين، على ما يروي طبيب من القصير أو «الهرمل الجديدة» إذا صدقت خطط الجماعة الخمينية المسلحة (- لبنان)، سقط في القصير التي كانت تعد 50 ألفاً 3 آلاف ضحية قبل مهاجتمها واحتلالها. وحين رأى «حزب الله» ان الهجوم خير من الدفاع والتربص والحصار، والصواريخ الفراغية خير من الهواوين البائسة والرثة، حزم أمره. فأجمع من بقي من أهالي البلدة الكبيرة على الهجرة ليلاً تحت جنح الليل. فمنهم من هاجر إلى يبرود والدار الواسعة وغيرهما، ومنهم من قصد عرسال. ويقول الطبيب القصيري:» منعنا حصول مجزرة بخروجنا من القصير»، وكأنه يعتذر من «قوات النخبة والرضوان» الحزب اللهية عن تفويت الهاربين عليها مأثرة جليلة تضاف إلى مآثرها.

وبعضهم خلف وراءه النزوح والهرب. فبعض المخيمين في أحد مخيمات البلدة اللبنانية الحدودية يروي أنه ترك حمص، مدينته الاولى ومقامه الاصلي، إلى القصير. واضطره حصار القصير إلى مغادرتها إلى يبرود. وكان في وسعه النزوح من محطة إلى محطة، شمالاً أو شرقاً أو شمالاً فغرباً، وأن يمضي على سيرته. وقطعت المهاجَرة إلى لبنان القريب السيرة. وتقول إحداهن، وهي حائزة شهادة ماجستير في اللغة العربية، «نقد وبلاغة» على ما لا تنسى التدقيق والتخصيص من غير تنطح :»أعلم علم اليقين أن لا عودة لي إلى سوريا». هنا رودس، هنا الوردة، فارقص هنا، على ما كان يكثر كارل ماركس وصاحبه فريدريش انغيلز من الاستشهاد ويكثر حسن قبيسي من التذكير. 

والذين امتحنهم شهود الموت من غير قوة على جبهه أو درئه في صورة أم وابنها أصابت قذيفة بيتهما فبَترت ساقي الابن وجرحت بطنه جرحاً غائراً وجرحت رأس الام وصدرها، فبقيا ينزفان ساعة ونصف الساعة ولا حيلة للجيران إلا الفرجة عليهما ينازعان؛ أو في صورة أطفال تحت الانقاض فقأت شظايا المتفجرات عيونهم، أو قطعت أطرافهم، أو بقرت بطونهم، فتتلو الممرضات آيات من التنزيل عليهم وإذا قدرن على لمسهم حقنهم بالمخدرات تخفيفاً عنهم هؤلاء الممتحنون يحاول بعضهم تعويض عجزهم عن الاسهام في عمل مجز أو نافع. ويحسب أن خيرَ ما يتركه وراءه وَلَد يحمل اسمه. فالولادات في مخيمات عرسال كثيرة، وتبعث الطبيب القيصري على «الحياء» من اللبنانيين. والرائحون إلى الموت لا يشكون في حتمه يورثون «أهاليهم»، من غير تعيين، أولاداً وحيوات جديدة تبتدئ، بدورها، زمناً لا ينهشه الطاغية ولا نظامه ولا عبيده. 

تحضر وبداوة

ففي وسط المخيمات بعرسال، شيد معلمون سوريون تركوا يبرود وجوارها، حيث «المتعلمون» كثرة، على قول أهاليها، مدرسة من الحجر بأيديهم. وبأيدهم صنعوا الطاولات والخزائن والابواب. وتوجوا صنيعهم اليدوي والحرفي و»الغرامي» بتسمية المدرسة باسم زميلهم مهدي عباس، صريع القصف على مدرسة القصير، واقفاً واللوح الاسود وراءه، والطبشورة البيضاء بين سبابته وإبهامه. ولم يفترق زملاء مهدي عباس حين هاجروا إلى المهجر اللبناني القريب. وعزموا على استئناف عملهم طوعاً ومعاً. ولم يحوجهم «صديق مغترب» إلى المال. فهم، وآلاف التلامذة الذين يتوافدون صبيحة كل يوم إلى المدرسة والالاف من اهاليهم الرازحين في مهاجر العوز والعراء والمهانة، لم يفارقهم إيمان يعصى الفهم بالتعليم:» لولا التعليم لكنا متنا من القهر»، تقول إحداهن، زوجة ضابط منشق. وتلاحظ على زوجها:» لا يعرف العمل بأي مهنة»، قرينة ربما على منافع العلم «الحقيقي» في الاحوال كلها، وعلى الخصوص في حال الهجرة والتشرد والنزوح. 

وإقامة المستشفى وتدبيره وإدارته ليست أقل شأناً من تشييد المدرسة، والتدريس فيها على «المنهاج السوري»، وكأن «المنهاج» يعبق برائحة التفاح. وكانت تهمة مساعدة المصابين المدنيين وغير المدنيين في المدن والبلدات السورية تودي بمن تصيبه إلى الموت. وهذا يعظم مكانة المساعدة الطبية والاغاثة في المهاجر. فهي بيِّنة على رابطة اجتماع لم يتوحش، ولم تحطمه وطأة العنف المحموم. وعلى هذا، يُدل الطبيب «الميداني» بمستشفاه، ويحصي خدماته «الفلكية» مفتخراً: يستقبل المستشفى في اليوم نحو 800 مريض، وينجز في الشهر 200 عملية جراحية، ويتولى 200 عملية ولادة، إلى عمل عيادات طب الاسنان والامراض الجلدية. ويخلع الصوت الخفيض إدلاله حين يعرض لالتهاب الكبد، والوفيات جراءه «بشكل مخيف». فمياه الشرب مصدرها الصهاريج الموبوءة، ولا راد لفعل جراثيمها وبكتيرياتها في المعد والامعاء والدم والغدد. والمدرسة والمستشفى معلمان حضريان وصناعيان بارزان، وهما حجتان قاطعتان على البداوة وخرابها. 

ويراجع بعض النازحين فصول حياة سبقت كانوا فيها «أصحاب بيوت»، على قولهم معتزين، ولا «تختصر حياتـ(هم) بخيمة» أو تصبح «الخيمة» فيها «حلماً»، على ما يردد بعضهم. فيبعث معارضةَ الخيمة البدوية والمترحلة والمقصية بالبيت الثابت والحجري والمأهول في وسط بيوت مثله. فصاحب البيت هو صاحب «وطن» أو ابن وطن وسليله. وبعض من بقوا، قتلتهم قذيفة سقطت على منزلهم، مثل أم حيان. فهذه «تشبثت بالوطن»، ولم تترك فيمن تركوا، هي وابنها. وخلاف الوطن والبيت والاقامة الحصينة والمنيعة والتعليم، البداوة، على ما مر، وغزواتها ونهبها وتبديدها: «سرقوا كل شيء، بيوتنا وسياراتنا ومحلاتنا وحرقوها». ويسمي السوريون ترحيلهم عن أراضيهم وأرزاقهم وبلداتهم ومجتمعاتهم سياسة «الارض المحروقة». وفي إجراءات الارض المحروقة، عدا القصف المتقطع أو المتصل أياماً وأسابيع تمهد للهجوم الاخير ورفع الاعلام والرايات والبيارق على المآذن (وهي مآذن «شيعية»، ولم تغصب من «إخواننا السنة»، على تنبيه خطيب مأذون)، حرق السجلات العقارية وأوراق الطابو وحجج المِلك والتوريث. فأراضي الاستيلاء فيء على المجاهدين، وغنيمة يغنمونها على المهزومين والمشردين الذين يُحسبون سواقطَ قبائل أو أقوام «بائدة»، جزاء كفرهم أو «تكفيرهم».

مراجعات

ومن مراجعات المهاجرين المشردين، اليوم، رأيهم في بعض أحوالهم الماضية. فيقول «أحدهم» على ما تكتب ناجية الحصري مغفلة الاسم بعد شواهد منقوله عن أصحاب أو مخبرين تسميهم بأسمائهم، وذلك في معرض عام لا يستجر «جريرة»- يقول أحدهم هذا: «أكثر ما نندم عليه أننا علمنا طلابنا ثقافة النظام، أهلنا صفقوا للنظام فصفقنا له». فيلاحظ القائل الغفل آصرة أو قرابة بين الهجرة وبين الخروج على التقليد، أي بين الهجرة وبين ولادة الوعي الفردي، وأوبة النفس إلى نفسها ومحاورتها نفسها، على قول ابن رشد في الفكر. وسياقة الخروج على التقليد «الاهلي» هي خروج سِفْري، على شاكلة الخروج التوراتي، من «أرض مهانة»، على قول محمد أبي سمرا، وبداوة وسيبة، إلى أرض لجوء وضيافة واحتكام إلى الرأي والاجتهاد، وانقطاع من «التصفيق» والتقليد. 

ويلاحظ الرجل نفسه، ولا يبعد أن يكون امرأة، أن «من كان مع النظام وتعرض للعقاب، أسوة بالآخرين (المعارضين)، أصيب بالضياع، ولم يعد له خيارات (أخرى)». والملاحظة نفاذة، ويفوق نفاذها عدداً من ملاحظات فانون على أمراض الرجل المستعمَر. فهي تنبه إلى ان جموح النظام وتماديه يحولان بينه وبين الاضطلاع بدور القطب «الابوي» الذي يزعمه لحربه على المارقين والتكفيريين والغرباء المجلوبين من أصقاع الارض والمختلطي الأنساب والهويات والاعراق، على ما يردد تضليله الأخباري. وإذا كان المستعمِر، أو مثاله، يستهوي بعض من يخضعهم ويسودهم وتدعوهم غوايته إلى انكار من يكونون، على زعم جوهري وماهوي يقبع في قلب الجدل الفانوني المنحول- فالنظام «الوطني»، الجامح والمتمادي، يطيح الغواية، ويترك من أغواهم خالي الوفاض من «سيد» يليق بالسيادة، وتطأطئ له الرعية الرأس طوعاً وامتثالاً أو جبناً. وعلى هذا المثال نسجت «دولة» الخلافة، ومن قبلها جبهة النصرة، والزرقاوي قبلهما. 

فالسيد الاسدي والبعثي، والعلوي على الارجح (في سهل حمص وأريافها)، قاصر عن القيام بالوجه المعنوي، غير العسكري والقمعي المباشر، الذي لا تستقيم سيطرة ولو غاشمة إلا به. وعلى خلاف المستعمِر بإزاء المستعمَر، لا يترك الطاغية «الوطني» الجامح للشطر من رعيته الذي يقهره ويقتله على رغم ولائه، إلا الضياع. فالقطب الاهلي والمحلي الذي يسع المقهور في المستعمرات الرجوع إليه إذا اخفق انتحاله سبباً أو نسباً بالقاهر، ممتنع على الاهليين والوطنيين السوريين والمخذولين وتنبه ملاحظة «احدهم» المزدوجة إلى جدة معايير السياسة المولودة من الثورة على المحتل الاجنبي. فإذا كانت وحدة الجماعة الوطنية الناشئة عن الثورة على المحتل ملاذاً ودواء شافياً من أمراض اختلاط الهوية، على ما حسب الطبيب فرانتز فانون واهماً بعض الشيء، فتحطيم الطاغية الجماعة الوطنية أو لحمتها المعنوية والرمزية يسرق من المتحصنين بها «بيتهم» المفترض، ويحملهم على الاستعاضة عنه بالخيمة.

والحق أن تمادي الطاغية الاهلي والوطني في تحطيم الاجتماع السوري قوض بيتاً معنوياً من صنف آخر. وتجمع ناجية الحصري في ملاحظة واحدة ما تقول أنه «شعور واحد» يتملك الاطباء والجراحين والصيادلة والممرضات وأساتذة النقد والادب… ويسودهم، هو أنهم «كانوا على رغم الحرب التي تشن عليهم، بحال أفضل يوم (كانوا) يقاومون الظلم في بلدهم قبل أن تتعرض (ثورة الحرية والكرامة) للتشويه، فتصبح حرباً مذهبية، وحرب مصالح وكراهية، وتصور على انها ارهاب». ولعل أقسى ما يصنعه التهجير المتعمد، على الاراضي السورية الوطنية وخارجها (وهو يصيب نحو 12 مليون سوري)، إلى الاضطراب «البدوي» الذي يرمي بالسكان في خضم حياة متلاطمة من غير مرسى، هو خسارة الاهالي مسرح مقاومتهم الطاغية وعداوته، أو ماء هذه المقاومة، ونهرها وبحرها. وهو ما يسميه المهاجرون قسراً «الثورة». 

تقول أم عبيدة:» في يبرود (محطة الهجرة الثالثة) عشنا أجمل أيامنا، كانت همة الشباب تزيدنا قوة واندفاعاً وإحساساً بأهمية الحياة». ويردد خالد رعد وزياد الواو أصداء مقالة المرأة: على رغم القتل والبراميل المتفجرة وطمر الردم الاحياء والجرحى والموتى، «كنا مبسوطين». وعدد القتلى الذي قد يبلغ في اليوم الواحد 30 «نصفهم استشهد فيما كان يشيع القسم الاول» لا يلغي «الانبساط». فالعودة من التشييع إلى «المخابئ»، وطعام العشاء المشترك، والاعداد لليوم التالي معاً، واستراق ضحكة لعلة تافهة قبل النوم، كلها تُشعر أصحابها بمشاركتهم الإرادية في أمر يتقاسمونه، سموه «الحرية والكرامة». وآنسوا في أنفسهم قوة كانت معطلة: «ولادة تحت القصف في القصير، وعبور فتحة الموت مع طفلين من دون الزوج تحت وابل من القصف والقنص، واختباء من الشبيحة في مزارع السياد… ومغادرتها فجراً بعد اقتحام الجيش النظامي (المزارع) وذبح من بقي من نساء وأطفال» هذا سجل حياة «فيتنامي»، تحل فيه البراميل الوطنية محل النابالم الاميركي، ومخيمات النزوح محل القرى الاستراتيجية، وسيادة رئيس مثلوم محل هوشي منه وجورج ماكنمارا معاً، وروبرت فيسك محل ويليام بورشيت، والقصير محل مان لي وعشرات القرى المستأصلة، و»حزب الله» محل القوات الخاصة في مشاة البحرية، وبيارق أسماء الائمة المعصومين محل العلم المرصع بالنجوم…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.