سوريون ولبنانيون إلى مخيمات شمال إسرائيل!

هل يتجاوز لبنان قطوع عرسال؟ ربما يحصل هذا الأمر شكلياً وآنياً. الأرجح أن الحادثة، بالطريقة التي حصلت بها، وبأسلوب التنفيذ الذي تمت به كانت حادثة عرضية فجرها موقف محدد. وبالتالي، فإنها لا تحمل بداخلها قوة زخم كبيرة تجعل منها أساساً تنبني عليه أحداث كبرى بمستوى نزاع أهلي كبير. الصراعات الكبرى تحتاج حدثاً أكبر لتفجير صاعقها، وكذا لإعطائها مقداراً أكبر من الشّحن يضمن دوام تشغيل مفاعيلها، لفترة أطول، يصار خلالها إلى توليد عدة شحن كاملة، يمتلك معها الصراع صفة التشغيل، أو التسيير الذاتي.

لكن حادثة عرسال لن تكون بلا وظيفة. وغالباً لن تمر مرور الكرام على الواقع اللبناني. طريقة إدارة الفرقاء اللبنانيين للأزمة ومحاولات التوظيف التي يقوم بها كل فريق، تكشف جزءاً من المشهد المقبل على لبنان. وثمة في لبنان عقل جمعي بات يسجل باحترافية عالية كل الحوادث، كل طرف يعنونها حسب رؤيته للأحداث وموقعه منها، ويصوغ نصوصها بالطريقة التي تتوافق مع روايته ورؤيته لمسارات الأمور، ويذيل على الهامش ملاحظاته وربما تصوراته لما هو آت.

يحصل كل ذلك، في ظل مناخ مساعد، ولديه قابلية على احتضان وتقبل كل فكرة، مهما كانت درجة لا منطقيتها ولا عقلانيتها، تساعد على تعظيم الهواجس والشكوك وشيطنة الأخر وتوسيع «بيكار» المظلومية. يحصل ذلك ولبنان قد أنجز مرحلة الانقسام في المواقف، وبات عاريا من أي مشتركات بين أطرافه، فيما تحول ساسته إلى مجرد مشجعين للعبة الجهنمية الدائرة. فقد انخرط الجميع في لعبة الغالب والمغلوب، لدرجة لم يعد معها ممكنا رؤية طرف محايد، أو خارج حلبات المشجعين، أو حتى في صفوف المحكمين.

حاول لبنان، وبمساعدة بعض العالم، حصر النار السورية في الداخل السوري. حتى عندما عبثت بعض أطرافه بتلك النار، اعتقد البعض أنها غير واصلة إلى عمق لبنان. اعتمدوا في ذلك تكتيك حصر المياه عبر السدود. وهي عملية فيزيائية انشائية بحسابات رياضية، تعمل من خلال بناء جدران سميكة لحصر المياه ومنع تدفقها، لكن الواضح أن موجات الحدث السوري باتجاه لبنان كانت أكبر من طاقة الجدران اللبنانية وقدرتها على صدها وحصرها ضمن حيز محدد. وهاهي تفيض على عرسال وطرابلس وعكار، وتهدد بإغراق الجميع.

الواضح أن فلسفة هذا الحل قامت على أساس قياس الحالة السورية بمسطرة الحرب الأهلية اللبنانية، التي استمرت خمسة عشر عاماً من دون أن يكون لها تداعيات كبيرة على محيطها، ولكن من دون مراعاة الظرف الحالي، والتغييرات التي حصلت في الوعي الاجتماعي لسكان المنطقة، وعناصر التشظي والانقسام التي تعمل بأريحية كاملة، من دون أي محاولة لتعديلها أو تشذيبها. كل الإجراءات والسياسات التي قامت بها الأطراف اللبنانية في مرحلة ما قبل حادثة عرسال، لم تكن سوى محاولات لتوطين الأزمة السورية واستنساخ ديناميكيتها.

هل يتجاوز لبنان قطوع عرسال؟ الأرجح أن حالة الانقسام تجاوزت ممكنات التصدي لها، والواقع، وحتى نفهم الحالة بشكلها الصحيح، لابد من ردها إلى سياقها الطبيعي، إذ لا يشك أحد بأن ما حصل في عرسال استكمال لصيرورة انطلقت منذ تورط حزب الله في سوريا ونضجت على وقع أحداث طرابلس المتواترة، وأخذت تكمل تشكلها في حادثة الشيخ أحمد الأسير في صيدا، ثم في الانفجارات المتتالية في الضاحية الجنوبية. ولعل المشكلة أن تلك الصيرورة كانت منغلقة على نفسها، وتجري بانسيابية، من دون أن يتنكب أي من المهتمين بالوضع اللبناني، من الداخل والخارج، عناء التفكير بإيجاد الطرق والوسائل لوقفها، فقط اكتفى الجميع بشعار تحييد لبنان، الذي ثبت أنه لم يكن سوى شعار فارغ، لا توازيه استعدادات وترتيبات كافية.

حسنا، لكن انفجار لبنان، إذا حصل، وليس ثمة ما يؤشر على إمكانية عدم حصوله، ستكون له تداعيات غرائبية، أقلها لجهة موجات النازحين الهاربين من الحرب، ففي مراحل سابقة تبادل لبنان وسوريا مهمة إيواء أولئك النازحين، ولكن سوريا صدّرت للبنان، حتى اللحظة أكثر من مليون نازح، وليس للبنان حدود أخرى سوى مع إسرائيل، وإذا كان يستحيل أو يصعب على جزء كبير من السوريين العودة إلى سوريا في حال حصول اضطرابات في لبنان، فإنه لن يكون أمامهم، ومعهم أعداد كبيرة من اللبنانيين، سوى الطرف الأخر من الحدود، أي فلسطين المحتلة، ذلك ان البحر هذه المرة لن يكون فيه من المراكب ما يكفي لنقل النازحين إلى الغرب، الذي تشبّع من نازحي العراق وسوريا.

التقدير الأقرب في هذه الحالة هو لجوء إسرائيل إلى إقامة مناطق عازلة داخل سوريا ولبنان. وكان مركز دراسات أردني يموله النظام السوري توقع قيام إسرائيل باحتلال جنوب سوريا وجعلها منطقة عازلة، غير أن إسرائيل صارت تحاذر كثيراً في استعادة تجارب الاحتلال، وبخاصة في ظل حالة الفوضى المستشرية في المنطقة، مخافة دخولها في دوامة استنزاف مع أطراف لا رأس لها، وبالتالي لا يمكن الضغط عليها أو إخضاعها، الأمر الذي يرجح إمكانية قبولها إنشاء مخيمات للنازحين على أطراف حدودها الشمالية مع لبنان وسوريا، حيث تكون تكاليف ضبطها أقل بكثير من تكاليف دخولها إلى حدود البلدين. لكن يتوجب الانتباه الى حقيقة انه حين تحقق مثل الأمر وقبوله حدثاً عادياً، تكون الدماء قد فاضت في الحيزين اللبناني والسوري أكثر من فيضانات مياه السدود.

المستقبل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.