المعهد السوري للأبحاث العلمية هو الاسم السري لجزء من صناعة السلاح السوري غير التقليدي. تحت إدارة هذا المعهد الذي يقف على رأسه جنرال سوري، توجد مصانع لإنتاج السلاح الكيميائي التي توجد حسب معرفتنا في ثلاثة مواقع، موقعان قرب دمشق وموقع قرب مدينة مصياف في محافظة حماة على بعد 70 كيلومترا فقط من قاعدة حميميم الروسية. وحسب تقارير سورية فإن المصنع الأخير هو الذي تمت مهاجمته صباح أمس من قبل سلاح الجو الإسرائيلي من السماء اللبنانية.
وجاء في الإعلان الرسمي أن الهجوم هدف إلى رفع معنويات داعش بعد أن تكبدت قواته خسائر كبيرة في المعارك في محافظة دير الزور. ويرى النظام السوري أن إسرائيل لم تقم بإنشاء داعش فقط، بل هي تساعده في عملياته الأخيرة. والتقرير لا يفصل ما يتم إنتاجه في المصنع (أو ما هو حجم الضرر الذي لحق به)، وليس واضحا إذا كان إضافة للصواريخ بعيدة المدى وقذائف المدفعية، يواصلون فيه تركيب قنابل كيميائية أيضا. إذا كانت إسرائيل تعرف عن إنتاج كيميائي في الموقع فليس من المشكوك فيه أن أمريكا وروسيا تعرفان عن ذلك أيضا. ويمكن التقدير أن إسرائيل قد أبلغت واشنطن قبل الهجوم وتلقت منها الضوء الأخضر.
هذا ليس الهجوم الجوي الأول، كما هو معروف، المنسوب لإسرائيل في المناطق السورية، لكن توقيته مهم. فقد جاء بعد تهديد روسيا بفرض الفيتو على كل مشروع قرار في مجلس الأمن يصف حزب الله منظمة إرهابية، وبعد لقاء بنيامين نتنياهو بوتين في روسيا، الذي عاد منه نتنياهو من دون تعهد روسي بالعمل على سحب القوات الإيرانية من سورية. روسيا، حسب أقوال وزير خارجيتها، سرجيه لافروف، تعهدت بعدم الإضرار بالمصالح الأمنية الإسرائيلية نتيجة إنشاء المناطق الأمنية في سورية. ولكن تفسير روسيا لضرر كهذا ليس بالضرورة مشابه لتفسير إسرائيل. إن مجرد وجود حزب الله في سورية ينظر إليه تهديدا لإسرائيل، وبالأحرى عندما يتم وضع قوات تؤيد إيران قرب الحدود الشرقية لإسرائيل، في هضبة الجولان ومحيط مدينة درعا في جنوب سورية.
روسيا ستجد صعوبة في التسبب بإخراج قوات حزب الله من سورية، لا سيما على خلفية موقف إيران، التي ترى بهذا التنظيم أساسا حيويا للحفاظ على نفوذها في لبنان وقوة تكتيكية مهمة في الحرب السورية. وخلافا للحال في لبنان، الذي تحتاج فيه إيران لحزب الله من أجل لي ذراع الحكومة اللبنانية عند الحاجة، فإن تأثير إيران في سورية على النظام هو تأثير مباشر، وهي لا تحتاج إلى وسطاء.
روسيا التي عملت على تقييد فضاء العمل لإيران في سورية تعترف بأنها تحتاج إلى تنسيق خطواتها مع طهران إذا كانت تطمح إلى تثبيت نظام الأسد. فقد تعلمت الدرس في حلب، عندما اعتقدت أنها تستطيع تطبيق اتفاق وقف إطلاق النار في نهاية السنة الماضية من دون التنسيق مع إيران. حينها تبين لها وبأمر من طهران أن هناك مليشيات شيعية وقوات لحزب الله تقوم بمنع المتمردين من الصعود إلى الحافلات التي جاءت لإخراجهم من المدينة مثلما نص الاتفاق. التفسير الإيراني لهذا الأمر كان أنه بسبب عدم إشراكها في الاتفاق فهي لا تلتزم به. روسيا منذ ذلك الحين تمتنع عن إجراء المفاوضات المحلية أو الدولية من دون إشراك إيران فيها.
إن مهاجمة مصنع سلاح، وبالأحرى مصنع مشتبه فيه بانتاج السلاح الكيميائي، ليس من شأنها كما يبدو، أن يتبعها رد روسي شديد. روسيا التي عملت على اتفاق لتفكيك سلاح سورية الكيميائي بعد أن قامت بإقناع براك أوباما بعدم مهاجمة الدولة في 2013، ربما ستحاول الاثبات بأن المصنع لا يقوم بإنتاج سلاح كهذا. ولكن من المشكوك فيه أن تخرج عن أطوارها بسبب ذلك.
بالمناسبة، في ذلك الاتفاق لم يتم شمل غاز الكلور الذي استمر الجيش السوري في استخدامه. موسكو تدرك أن الهجوم على مصنع كيميائي مثل القصف الأمريكي بعد الهجوم الكيميائي في خان شيحون في هذه السنة يعتبر عملية مشروعة في نظر المجتمع الدولي. عمليا، هي نفسها أوضحت في 2013 أنها لن تعارض مهاجمة مخازن السلاح الكيميائي في سورية بقرار الأمم المتحدة إذا تم الاثبات أن نظام الأسد استخدم فعلًا هذا السلاح.
الأمر الجديد في هذا الهجوم، إذا كانت إسرائيل قد نفذته بالفعل، هو التعريف الأوسع لما يعتبر تهديدا. والسؤال هو هل روسيا ستوافق على هذا التعريف. إن موافقة موسكو على توسيع هذا التعريف من شأنه حسب وجهة نظرها أن يمنح إسرائيل الفرصة لمهاجمة أهداف أخرى مثل قواعد سلاح الجو أو حتى القوات البرية السورية بذريعة أنها تشكل تهديدا. إذا كان حتى الآن يوجد خط أحمر بين روسيا وإسرائيل فإن الهجوم في هذه المرة يمكنه أن يجر انضباطا جويا شديدا تفرضه موسكو. في أسوأ الحالات يمكنها الإعلان أن كل طائرة غريبة ستدخل المناطق السورية ستعتبر هدفا مشروعا لسلاح الجو الروسي، باستثناء طائرات التحالف التي تقوم بمحاربة داعش.
من ناحية الولايات المتحدة، إسرائيل أخرجت لها الكستناء من النار. فمقابل التقارير عن إعادة استخدام الجيش السوري لغاز الكلور، كان ذلك يستدعي القيام بعملية تزيد من تدهور العلاقات مع روسيا. إن الخدمة التي قدمتها إسرائيل لواشنطن تضع إسرائيل عميقا داخل الساحة السورية، هذه المرة ليس كمراقبة لها مصالح تطرق أبواب الدول العظمى من أجل تحقيق مصالحها الأمنية، بل شريكة فعالة، أصبح وجودها العسكري في الساحة عنصرا من عناصر القوات التي تشارك بها روسيا وإيران وتركيا وسورية.
ولكن العنصر الإسرائيلي يهدد بتشويش العمليات التي تخطط لها روسيا. هكذا تنوي إيران وتركيا وروسيا إنشاء ـ قريبا جدا ـ منطقة أمنية في محافظة إدلب يتم فيها تركيز معظم قوات مليشيات المتمردين، ومن ضمنها جبهة تحرير الشام المتفرعة من القاعدة.
هذه منطقة يوجد لطهران وأنقرة مصالح متناقضة فيها، برغم أنهما معنيتان بوقف إطلاق النار: تركيا تريد استخدام المنطقة قاعدة استراتيجية لنشاطاتها العسكرية ضد المناطق الكردية السورية المحاذية لها. في حين إيران ترى فيها موقعا استراتيجيا يثبت سيطرتها في سورية. هذه الثلاث دول تخطط لهجوم مشترك ضد مواقع المتمردين في حالة لم تنجح روسيا في فرض وقف إطلاق النار حسب النموذج الذي بني في المحافظات الجنوبية.
لا يوجد لإسرائيل، كما يبدو، أية مصلحة في إدلب، باستثناء قلقها من زيادة تمركز إيران في سورية. ولكن السيطرة على المنطقة مثل الخسائر التي يستمر داعش في تكبدها في المعركة على دير الزور تُمهد للقناة السياسية من أجل التسوية النهائية. روسيا تسعى إلى أن يكون باستطاعتها حتى نهاية الاسبوع المقبل، وهو موعد اجتماع ممثلي الأطراف في عاصمة كازاخستان الآستانة، عرض سيطرتها على إدلب ودير الزور كانتصار كامل للنظام السوري بهدف تدمير أدوات ضغط منظمات المعارضة. إن سيطرة سورية – روسية على هاتين المحافظتين تعزز الافتراض السياسي بأن الأسد سيستمر في كونه رئيسا لسورية بعد أن رفع معارضو النظام ـ الدول الأوروبية والولايات المتحدة وتركيا والسعودية ـ طلب عزله شرطا لكل مفاوضات.
نتيجة كهذه تقتضي من إسرائيل أن تكون شريكة، ولو بصورة غير مباشرة، في عملية إنشاء النظام السوري الجديد وفي النقاش على مكانة إيران وحزب الله في سورية، وتحتاج إلى ضمانات روسية (ليس أمريكية) يمكن لروسيا أن تمنحها إياها أمام تهديدات محتملة يمكن أن تنبثق عن الاتفاق السياسي. إسرائيل يجب عليها الاستنتاج من ذلك أنه كلما زاد تدخلها العسكري في سورية، سواء من خلال الهجمات العشوائية أو تعزيز العلاقات العسكرية مع المتمردين، ستتعزز مكانها في زمن توقيع الاتفاق السياسي.
ولكن هذه النظرية يمكن أن يتبين أنها سيف ذو حدين: إيران ستجد ذريعة ممتازة لزيادة وجودها العسكري في سورية، وروسيا يمكن أن تقلص أو حتى تلغي التنسيق الجوي وتعلن الفضاء الجوي السوري «منطقة مغلقة»، وحزب الله يمكنه أن يحول هضبة الجولان إلى جبهة مشروعة جزءا من ميزان الردع أمام إسرائيل. هناك فرق جوهري بين القدرة على مهاجمة أهداف معينة والحفاظ على جبهتين ساخنتين بشكل دائم، الأولى أمام سورية والثانية أمام لبنان ـ خاصة عندما تغرق الولايات المتحدة، التي توفر الدعم الأهم، عميقا داخل نفسها، ولا تميل إلى التدخل في أي منها.
كلنا شركاء