اشتعلت وسائل التواصل الاجتماعي ومنابر الصحافة، في الأسبوعين الماضيين، بقضايا خلافات المعارضة السورية، وذلك على خلفية انتخابات الائتلاف الوطني، وقد تبادل المختلفون شتى أنواع الاتهامات الشخصية والسياسية، وذهب البعض منهم إلى حد إعلان وفاة الثورة، باعتبار ذلك سراً صار واجبا الكشف عنه، بما تقتضيه الأمانة الثورية في مكاشفة السوريين، واطلاعهم على حقائق الأمور!
الواقع، أن تلك الخلافات لا تعكس واقع الثورة ولا حقيقة مسارها، بقدر ما أظهرت خلافاً نخبوياً على هامشها، وحالة من تعدد الرؤى والتصورات في إدارة شؤون الثورة، والدليل على ذلك أن الثورة، وعلى عكس ما جرى تداوله، تكمل صيرورتها الخاصة بناء على ظروفها الخاصة، وواقع التحالفات الإقليمية المتشكلة على هامشها، والتي كان لها تأثير كبير في تشكيل صورة المشهد الحالي للحدث السوري برمته.
ولتكبير حجر الخلافات ومحاولة بناء سياق قضية، ذهب البعض إلى حد شيطنة ائتلاف قوى الثورة واتهام أشخاصه وأطره بالانحراف، وتحميلهم تاليا كل ما حصل في مسار الثورة من إشكالات بل ومصائب نزلت على السوريين، وجاءت تلك الاتهامات مشفوعة بمحاولات تبرئة أصحابها من الأخطاء الحاصلة، وبصيغة تنطوي على درجة كبيرة من الوعظ والتعالي. وكأن تلك الانحرافات بدأت في اللحظة التي لم يحصل مطلقوها على المناصب، التي يطمحون إليها، وليست نتيجة تراكم مراحل سابقة كانوا يشغلون فيها مواقع تقريرية، في أطر المعارضة العتيدة؟
ولأن واقع الحال كذلك، بدت جملة الاتهامات وكأنها خارجة عن سياق الخبرة العملية للثورة، بل ظهرت وكأنها ابنة سياق تأملي تنظيري، منفصل تماما عن الواقع وتعقيداته واشتراطاته القاسية، ذلك أن جميع من تابع مسارات الثورة يدرك أن الائتلاف أنبنى بشكله المؤسسي في لحظة كانت الاصطفافات الوطنية قد أنهت حالة تموضعها، ولم يعد بالإمكان إحداث أي اختراقات قد تؤدي إلى زحزحة تلك المواقف والاصطفافات. وهذا بحث آخر يمكن إيجاد تفسير أعمق له ضمن دراسة شبكة التحالفات التي صممها نظام الأسد على مدار عقود. وبالتالي، فإن تحميل الائتلاف الناشئ وغير القادر على إيجاد حيثيات داخلية له، مسؤولية عدم القدرة على طمأنة الموالين للنظام على مستقبلهم، يبدو نوعا من التعجيز الواضح، أو محاولة لإدخال الائتلاف في مساحات من استنفاذ الجهود، لا تملك قوى الثورة ترف الانشغال بها في ظل الظروف الضاغطة التي وجدت نفسها فيها.
ثم من يطمئن من؟ إذا اعتبرنا أن تلك كانت واحدة من ساحات الفشل، والتي على أساسها تصوب السهام على أداء أطر الائتلاف! لم يحصل أن الثورات في تاريخها انشغلت بمثل تلك الجزئيات، وإلا لما كان هناك شيء اسمه الثورات المضادة والدولة العميقة. وفي التجربة العملية لما وجدت حالة فيتنام الجنوبية وفيتنام الشمالية، ذلك أن أي نظام في الدنيا له نسبة من المؤيدين والمرتبطين به مصلحيا وإيديولوجيا، بالأصل هم يشكلون الرافعة الاجتماعية له. فهل من يتصور أن نظام الأسد كان سيستمر طوال أربعة عقود من دون تلك البنية الاجتماعية؟ وكيف يمكن كسب هؤلاء لصف الثورة إذا كانوا يشكلون علة من علل قيام الثورة؟
وحتى على الصعيد الدولي، وهو المستوى الآخر الذي شكّل مادة دسمة لنقد الائتلاف، لم يكن ممكنا إحداث تغييرات مهمة فيه، فهذا النسق أيضا، بمواقفه واستجاباته، تشكّل قبل تأسيس الائتلاف وتأطير قوى المعارضة السورية، وبنى مواقفه على أسس ليس لها علاقة بدرجة أو أخرى بالثورة السورية، بقدر ما اعتبرت الحالة السورية واحدة من ساحات الصراع الدولي، ومنبرا للتعبير عن تضارب الرؤى في إدارة شؤون النظام العالمي الراهن. وبالتالي، فإن هذا المستوى لم يتأثر كثيرا بمدى فعالية الائتلاف، وأما رد عدم الفعالية الدولية إلى مسألة عدم تشكل بديل لنظام الأسد، فتلك قضية تنطوي على أوهام كبيرة لن يستطيع الائتلاف تحقيقها، لوجود استراتيجيات مقابلة ظلت تعمل على الدوام لتصعيب توطين الائتلاف وتحوله إلى بديل حقيقي على الأرض. لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا، بديل عن ماذا؟ إذا كان النظام نفسه كطرف سيادي حاكم قد انتهى من الوجود وبات مجرد شكل صوري!
لم يشكل الائتلاف في يوم من الأيام مركزا ناظما للثورة وفعالياتها، ولم تتعامل معه الأطراف الإقليمية بجدية كافية في هذا الإطار، تماما مثلما لم يعد النظام يشكل تلك الصفة على الأرض السورية. هما ليسا أكثر من مجرد واجهات سياسية، في إطار صراع مكاسرة الإرادات الدولية الحاصلة في الإقليم السوري، مطلوب منهما تأدية وظائف محددة ليس لها علاقة غالبا في مسارات الحدث، ولن يكون لها دور في مآلاته.
غير أن ذلك كله يبدو منفصلا عن وقائع الثورة الحقيقية. صحيح أن ثمة أخطاء كبيرة حصلت، لكن الأكيد، وما تثبته الوقائع المتواترة، أن الثورة استطاعت على الدوام تجاوز تلك الأخطاء وتصحيح نفسها، من واقع حاجتها وضرورات الصمود والبقاء. واستطاعت إجراء تعديلات مهمة على مستوى هيكلتها وكذا على صعيد أدائها، وهي تتقدم باستمرار صوب تحقيق أهدافها، وفي الوقت الذي ينشغل فيه ساسة المعارضة بالخلافات الناشبة بينهم وبتنظيراتهم التأملية، تتقدم الثورة على جبهات القلمون ودرعا وحماة. وقد كشفت كراسة عثر عليها الثوار وكان قد كتبها الجنرال «عبد الله السكندري» الرئيس السابق لشؤون قدامى المحاربين والشهداء في مدينة شيراز في إيران، والذي قتل في سوريا قبل أشهر، الوضع المزري لقوات الأسد وحلفائه، وصعوبة استمرار مواجهة قوى الثورة لفترة طويلة، جراء الاستنزاف الكبير على المستوى البشري وصعوبة تأمين مقاتلين على كافة الجبهات، وأمام ذلك لا يملك الثوار سوى شكر المعارضة السياسية لأنها خارج الجبهات.