يثب

العيوب الفقهية التي أنتجت الانغلاق العقلي والتشدد 

د. كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

لكوننا أمة كتاب فإن طريقة فهمنا ومقاربتنا للدين تتحمل قسطاً وافرا من المسؤولية عن انتاج سلوكنا وبالتالي عن تخلفنا وعما يشيع عندنا من تعصب وانغلاق وتطرف وعنف وتكفير وارهاب … وهذا لا يعني أن نتهم الدين بأنه هو من ينتج ذلك، بل يعني أن طريقة تعاملنا وقراءتنا له أصابها التقادم والانحراف بحيث صارت تؤدي لهذه النتيجة … التي تجعلنا عاجزين عن وضع حد للفرقة والصراعات الداخلية والعنف فيما بيننا ، والتي تجعل الآخرين يتوحدون على عدائنا وكرهنا والخوف منا رغم خلافاتهم الكثيرة.

لا يوجد في الفقه الرسمي والمدرسي المعروف غير اسلام واحد يعتمد على مراجع واضحة ومنسجمة ومتراكبة … وهذا ثابت منذ قرابة ثمانية قرون توقف فيها الابداع وساد الاتباع ، أي منذ أن حُسم الصراع لصالح تيار الإمام الغزالي ( تهافت الفلاسفة) ، الذي رد عليه ابن رشد فيما بعد (تهافت التهافت ) بينما جنح ابن عربي للرمز والتورية هربا من الجدال معهم ( الفتوح المكية ) ، فقد كانت هذه الكتب الثلاثة آخر مظاهر النقاش والاختلاف في الرأي الذي انتهى لصالح الإمام الغزالي وأصبح هو المدرسة الوحيدة التي تحتكر تمثيل الدين الرسمي …

فالحديث عن اسلام متسامح ومعتدل، واسلام آخر متشدد وارهابي ، لا يعكس وجود مدرستين فقهيتين متصارعتين بأدبياتهما المنفصلة أبدا … بل يعكس درجة ونسبة تطبيق المدرسة الواحدة الغزالية ، فمن يطبق جزء ويعف عن جزء ويختار وينتقي ما هو تسامحا وتساهلا يصبح تقييمه معتدلا، لكنه لا يشكل مدرسة ولا منهجا منفصلا ، ومن يسير في الموضوع حتى كماله وخواتيمه المنهجية، يصبح متشددا بل ارهابيا … حتى أصبح القابض على دينه كالقابض على جمرة من نار  بسبب نمطية وأحادية وشمولية هذا الفقه العصي على التطبيق … أي أن الفارق بين التسامح/ الاعتدال ، وبين التشدد/ الارهاب  هو في نسبة تطبيق الاسلام (جزئه أو كله)  … في النتيجة أيُ تطبيق كامل وحرفي للفقه الموجود بين يدينا  سينتهي للتشد والترهيب والتدعيش ، فالصورة العملية التطبيقية لهذا الفقه هو السلفية الجهادية (القاعدة) … وأي جدل منتج حول هذا يحتاج لتقديم نماذج تطبيقية وأمثلة حية تبرر التفكير بوجود غيره ، طالما أننا لم نره ولم نشهده في كتب أو مراجع فقهية أو حتى في نموذج تطبيقي لم يؤسس منهجه بعد. الكل يسأل أين هو النظام الاسلامي المعتدل ؟ أين هي الأدبيات الاسلامية المعتدلة ؟ نحن لا نرى سوى فقه واحد ومدرسة واحدة إذا طبقت جزئيا وانتقائيا فنقول تسامح،  وإذا طبقت كليا فنقول تطرف وغلو وارهاب .

حوربت المدرسة الاسلامية العقلية ومنعت وحرّمت على يد ابن حنبل ، وتركت لها فرصة البقاء على قيد الحياة لكن ضمن ساحة الحظر  بواسطة المدرسة الأشعرية ، ثم دُفنت تماما مع انهيار حضارة الأندلس، بينما انتشرت المدرسة الصوفية شعبيا وسادت وظيفيا طيلة 600 عام من الحكم العثماني وهي من أعطته جاذبيته وعناصر نجاحه ، بينما غط الفقه المدرسي الغزالي في نوم عميق على رفوف المكتبات ولم يمارس إلا بشكل صحوات مؤقتة كمرحلة ابن تيمية والمعز بن عبد السلام  في مواجهة المغول ، وأخيرا في الحركة الوهابية التي واجهت الصفوية ،  ولم تك عيوب هذا الفقه لتظهر  طالما كان مجرد كتب للخاصة أو مختصا بحالات الطوارئ ، وطالما كان الحاكم سلطانا لا يستمد شرعيته منه ، بل من جبروته وبطشه أساسا ، وطالما كان الفقهاء من اتباعه يعملون ويفتون بحدود ما يسمح لهم هذا السلطان الحاكم ، وليس ما تفرضه عليهم مدرستهم ونهجهم الفقهي العقلي …

لكن مع دخولنا العصر الحديث وتطور الطباعة أتيح للعامة فرصة سهلة للاطلاع على هذه الكتب، التي حظيت بأفضلية كبيرة على الصوفية التي كانت مدارسها شفهية وتفتقر كثيرا للأدبيات المفهومة والتطبيقية ، فاحتكرت وسادت المكتبة الاسلامية التي نتجت منها حركات اسلامية جديدة أصولية سلفية تعود للمنهج القويم . أقصد في سوريا تحديدا : حزب التحرير وحركة الإخوان والتيارات السفلية الجهادية التي لم تتبلور في أحزاب سياسية ، بل ظهرت بشكلها العسكري مع انطلاق الثورات ونموذجها الأبرز هو النصرة وأحرار الشام وجيش الاسلام، وكذلك نذكر حركات وأحزاب دينية سلفية رسمية بقيت خاضعة لأجهزة الأمن والسلطات وكررت دورها التاريخي التقليدي في أولوية الخضوع للسلطان الظالم على الخضوع لله الغفور الرحيم ، أقصد تحديدا الكفتارية والبوطية والبانية والقبيسيات و معظم المشايخ المعروفين في مساجد دمشق وحلب وحمص وغيرها ، ومعظم مدرسي المدارس والكليات الشرعية المعتمدين الذين يطبقون جزءً من الفقه متعلق بالعبادات، ويغفلون جزءً آخر متعلق بالحاكمية والجهاد …

فمع قيام  الدول الحديثة واندلاع الثورات ضد السلاطين ، أصبح لهذا الفكر الديني شعبية خاصة عند المتنورين والمتعلمين ، وأيديولوجيا خاصة به تعبر عن نفسها صراحة ، وتقدم نماذج تطبيق مباشرة ، وهكذا وحيث نجح الاسلاميون المدرسيون في الفوز أو الوصول للسلطة أو تحرروا من سلطة الحاكم الظالم، ظهرت بنية هذا العقل على سلوكهم  في دولتهم كاستبداد وقمع، أو على سلوكهم المعارض كعنف وترهيب … ولا ينقصهم الحجة الشرعية التي تبرر هذا الاستبداد والعنف والترهيب، وما يقدمونه من براهين وحجج فقهية شرعية هي من دون شك مطابقة لجوهر ما توارثناه من فقهه مدون مدرسي حفظته المدارس الدينية الرسمية وخاصة مؤسسة الأزهر والأموي وغيرها، وتزخر به كتب المدارس ، دون أن يتاح اختبار تطبيقاته طيلة قرون إلا في فترات عصيبة تعرضت فيها المجتمعات للغزو الهمجي حيث شكل هذا الفقة ردة فعل عنيفة وقوية أعطته مقدارا من الاحترام ، لكنه لم ينجح في تشكيل دولته بسبب نفور المجتمعات من تشدده .

بقيت هذه المدرسة في الكتب ولم تخرج للعامة أو للتطبيق الا بعد شيوع الطباعة وسقوط حكم السلاطين وتفكيك السلطنة العثمانية . فطغت منذ بداية عهد الاستقلال وتعممت وأصبحت هي الدين القويم الذي تقوم  عليه الأحزاب والحركات الدينية السياسية التي استمدت فقهها من المكتبة الاسلامية الرسمية … والتي انتهت بتقديم نماذجها العملية كدولة الخلافة وأمثالها الطالبانية والإخوانية، بتسلسل وتراكم نضالي منسجم ومتماسك من دون انقطاع بينها جميعا ، وأصبحت هي البديل الشرعي التحرري عما تبقى من ممالك وسلطنات وراثية مدعومة أو مكملة لمرحلة الاستعمار . وعند قيام الربيع العربي كثورة سياسية ضد هذه النظم المستبدة الفاسدة (الكافرة) ، وجد هذا الفكر فرصته للهيمنة على الربيع بسبب عنف وغطرسة وبطش النظم القائمة، وغياب الثقافة السياسية الديمقراطية والمجتمع المدني ، وأهم من ذلك غياب وتغييب المدرسة العقلية في الفقه الديني ، وانزواء المدرسة الصوفية واستغراقها في رمزيتها التجريدية، واحتكار الاسلام المدرسي الاتباعي للمكتبة الدينية وتمثيل الدين بمراجعه الأصيلة المعروفة والمتوافق عليها من قبل السلف الصالح والفقهاء المعتمدين .

وهكذا …. نحن لا نعود ثمانية قرون لنكمل ما اختلفوا عليه ، بل سنبدأ من الراهن والمعاصر لنبين مباشرة ووضوح وبساطة ، ما هي برأينا العيوب الفقهية الموجودة في الفقه الرسمي المدرسي المعتمد، والتي ينتج عنها ظاهرة التشدد والارهاب وبالتالي الفشل في تشكيل دول قابلة للحياة في هذا العصر وغيره ، وفشل المسلمين بالتلاؤم معها ، وفشل الاسلام الرسمي بالتلاؤم مع قيم العصر ونماذجه الحياتية، وعيش المسلمين درجات من التناقض الصدامي مع الذات أولا و مع الآخر ثانيا، ومع الحداثة والحضارة أيضا،  تظهر بصور وأشكال متعددة وجارحة تتناسب مع مقدار تمسك المسلم بإسلامه فإذا اكتمل تدينه واتباعه للسلف الصالح ، دخل دائرة الارهاب بنظر الآخرين.

المدرسة الرسمية لا تقدم مروحة خيارات لنماذج قابلة للحياة يمكن الاختيار منها ، بل تقدم صورة نمطية واحدة ملزمة ومقيدة حرفية مضادة للواقع عصية على الرسوخ والتمكين ، والخلل ليس في الفلسفة والعقيدة الاسلامية بل في العقل الذي تقرأ به والمدرسة الفقهية التي تفسره وتطبقه …. لأن هذه المدرسة تقوم أساسا على الانغلاق العقلي ( الدوغمائي ) الذي يتصف باعتماده على مبدأ واحد من مبادئ العقل وهو الضدية ( خير / شر ) ( صح/ خطأ ) (كفر / إيمان ) وتعممه وترى كل القضايا بواسطته ، وتقيم الحرب بينهما ، وتمحورهما على جبهتين ضديتين متناقضتين هما:  الاسلام الخير الذات المختصرة بمذهب وفئة وإمام ، والشر الكفر الآخر المختصرة بفكرة أو جماعة صليبية او ماسونية ، ووفقا لهذا العقل لا يوجد تفاعل وتشارك وجدل بين الأضداد ، ولا يوجد شر وكفر في الذات ، كما لا يوجد ايمان وخير في الآخر ، فكل شيء ثابت وراسخ ولا أمل في تغييره … أما اكتشاف اي خلل وعيب أو تساهل في جبهة الأصدقاء فيتطلب تكفيره ونقله مباشرة لجبهة الأعداء. والصراع بين الجبهتين هو صراع وجود لا يصح بينهما المهادنة… وهكذا لا يجب أن نتوقع أي درجة من التدرج أو التسامح في هذا النمط الضدي من العقل حيث التسامح يعني التفريط والخيانة وربما الكفر …

نعدد من هذه العيوب:

  • – الافراط في تقديس القرآن و اعتباره كلام الله بذاته وليس موحى به قرأ باسمه … واعتبار كل جزء منه صحيح بذاته، وعدم اشتراط صحة جزئه بدلالة كله ، واعتماد مبدأ الناسخ والمنسوخ بدل تفاوت الأحكام بتفاوت الظروف ….
  • – عدم التمييز بين القضاء والقدر ، والوقوع بالجبرية ، والغاء الحرية والابداع .
  • – الخلط بين سلطة الله وسلطة البشر و بين الإلهي والبشري ( الخلافة وحاكمية الله التي تطبق على يد البشر وليس الملائكة)
  • – اعتبار المتشابه محكم وأخذه بحرفه بدل غايته ومقصده ، ومنه موضوع تطبيق الشريعة بشكلها وحرفها وليس بمقصدها.
  • – التركيز على الخضوع لسلطة الإسلام  التي يطبقها الحاكم المتشدد المطلق الشمولي ، وليس الخضوع الحر لسلطة الضمير التي يولدها الإيمان ، و الخلط بين المعجل وبين المرجأ حسابه، والتدخل السلطوي في كل صغيرة وكبيرة وصولا للباس المرأة .
  • – الخلط بين الحياة الدنيا والحياة الآخرة عبر تخليد الدنيوي ( وكأنها  دار كمال وعدل وحق )  و بنفس الوقت تدنيس الحياة الآخرة بتصويرها  كدار اباحة لكل المحرمات .
  • – تغييب ضوابط استخدام العنف والاكراه ، من قبل الأفراد أو من قبل السلطة ( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) متى يجوز تغيير المنكر باليد ، ومن هو المفوض به ، …

      بعد مقالاتنا السابقة عن أركان الإيمان ، سنفصل في توضيح هذه العيوب في مقالات متتابعة

سنصنع فيها مفاتيح تفكيك العقل الدوغمائي وبناء عقل قارئ آخر يتم بواسطته اعادة قراءة الرسالة والكتاب ومراجعة الفقه المتوارث، والذي نتوقع له أن ينتج نماذج تطبيقية أخرى للدين يتوقف عليها تجاوز أزمتنا الحضارية الراهنة … لكننا سنبدأ من مقال فلسفي عن أنظمة العقل ( الابستمولوجيا ) نشرح فيه الفارق بين العقل الدوغمائي الذي يستخدم الضدية فقط والعقول الأخرى الأغنى التي تستخدم التشاركية الجمعية والوسطية النسبية …

المقال السابق كيف نؤمن بالله

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.