تمشاية مهاجر

د. كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

خرج من  الأسيل بونده ( سكن المهاجرين ) ، يحمل معه أحدث نوع من الموبايلات وسماعاته في أذنيه ، يرتدي البوط الأوروبي من أحدث ماركة ، وبنطال لا تستطيع الجزم بأنه ) بنطال بيجامة أو بنطال عمل أو خروج ) فهو من النوع المحير … سبورت   ، سار فوق الأرصفة النظيفة وشاهد حدائق الورود المرسومة والتي يتمتع بها الكلاب أيضا على طريقتهم في الحرية فلا يبولوا إلا في أحضانها … كل ما يدور في ذهنه وعقله وشكله ولباسه هو الشعور بالفخر والرضى والمجد والرفعة والنجاح … كيف لا وهو فهو في أوروبا ، وغدا سيصبح مواطنا أوروبيا … لذلك كلما سار عدة خطوات تذكر أن يأخذ صورة سيلفي ليضعها على صفحته ، أو يرسلها لمن بقي في سوريا أو في المخيمات التي صارت مدنا للسوريين الحالمين بالهجرة ، فالشيء الوحيد الذي يعوض عن فقدان الوطن هو الهجرة نحو العالم المتدمن.

تلفحه نسمات الريح التي تتغير حرارتها ورطوبتها كل ساعة وقد تصيبه بعض الأمطار الصيفية الغزيرة ، فعليه أن يتسلح بجاكيت صيفية أيضا هي بسبب ذلك يجب أن تكون غريبة وعجيبة برمائية ، بحيث أنك لا تعرف هذا الشخص هل هو في الصيف أم في الشتاء ؟؟؟ ذاهب ليعمل أو مستريح في غرفة النوم ؟؟ سائح غريب  أو لاعب رياضة  أو عارض أزياء أو متسكع … فهو كل شيء معا ( إنه سوري مهاجر ) … لباسه من دون هوية موحده ومحددة ، ومشيته لا توحي بأنه يقصد مكانا أو لديه وقت محدد  ، فعمله اليومي الوحيد هو أن يرتدي هذا اللباس الذي جمعه بحرفية ، وأن يمشي بزيه هذا المتعدد الجنسيات ( الكوسموبوليتي ) في الشارع من دون وجهة ولا سبب (في ازدحام العولمة ) ،  انتقل من سوريا الإشتراكية لعرين الامبريالية وسوف يحمل الجنسيتين معا محققا ازدواجية مطلقة في كل شيء … فهو مزدوج الجنسية والثقافة وشكله عكس مضمونه ويحمل كبكوبة من العقد التي تمزج بين الفخر والنقص …

يعيش في أوروبا المتحضرة ويلبس مثلهم ، ويبتسم لهم ، ومع ذلك هو لا يستطيع ركوب الباص لأنه لا يملك بطاقة بنك يدفع بها بعد أن ألغي التداول بالعملة واعتمدت البطاقة . بل عليه الذهاب للسنتروم وشراء بطاقة محددة قبل أن يفكر بركوب الباص ، وكيف يذهب إذا كان الأسيل بعيدا ؟  وفوقها عليه أيضا أن يعود قبل موعد الغداء الذي يوضع بساعة محددة من قبل متعهد الطعام الذي يقدم ذات الصنف كل يوم مثل ثكنات الجيش ولا يراعي اختلاف عادات الطعام ، ومن الصعب عليه أن يشتري طعاما بديلا لأن المئة يورو لا تكفيه شحن موبايل ومواد تنظيف …

ومع ذلك هو سعيد معنويا ، لأنه أوروبي يسير مختالا في حدائق أوروبا ويرتدي أزياءها ويشاهد فتياتها وكلابهن ، ويبتسم له مساطيلها وعجزتها المتنقلون فوق كراسي سيارة … إذا دخل مكتبا أو متجرا فيواجه بالتحية الحارة والابتسامة العريضة التي تشبه ابتسامة الغرسون في المطاعم التي تطبق نظام البخشيش … ويجلس على الحشيش الرطب الذي كان شيئا نادرا في صحاري بلاده وحاراتها المكونة من اسمنت وواسفلت وأكوام رمل وقمامة … قبل أن يدمرها جيش بلده ورئيس دولته الذي أطلق ورشة هدم مركزية لهدم كل سوريا المتخلفة في مسيرة التطيير والتهجير … وها هو أحدهم أخيرا قد طار في بلم بحري ووصل بلاد الأحلام ، وصوره على صفحته التي تتكرر كل يوم تدل على سعادته الغامرة التي يستمدها من المكان والتي تستفز الحسد من قبل من لم تطيرهم سياسة رئيسهم بعد … وبعد سنة أو أكثر سيحصل على الاقامة ثم الرقم الوطني ويدخل برنامج الترسيخ . فيترسخ كلاجئ ، وقد يتمكن من لم الشمل حتى بعد القوانين الجديدة ، وقد يحصل على منزل وعقد إيجار عندما تحل أزمة السكن في بنغلادش وعش الورور ، أو في الدول الاسكندنافية .

بعد سنتين ينتهي هذا البرنامج وينتهي معه الحلم ، فينتقل بشكل أوتوماتيكي لنظام الرعاية الاجتماعية ، كغيره ممن سبقوه ولم يتمكنوا من ايجاد فرصة عمل … فكل شهاداتهم غير معترف بها ، وكل خبراتهم لا قيمة لها ، ولا تتطابق مع معايير الخدمة في أوروبا … أمامه فقط فرصتين للعمل ، واحدة بالأسود وبدوام طويل في مطعم بيتزا يملكه الأخوة الأكراد والأتراك ، أو أن يحصل على رخصة سوق بعد طول عناء ودراسة وامتحانات تمكنه من قيادة سيارة عامة فيتوظف بدوام جزئي مع شركات لنقل العجزة والمعاقين ، أو شركات التكسي الشبه مفلسة والباهظة السعر . وغير ذلك إذا كان شابا فعليه أن يعيد دراسة البكالوريا الأوروبية مهملا كل تحصيله السابق ، وينتقل تدريجيا للجامعة وهذا يتطلب لغة جيدة جدا ، وسفر حيث الجامعات ، وتأمين سكن ، وإذا فعل كل ذلك عليه ايجاد قرض لتمويل دراسته فإذا تخرج ونجح بعد عمر طويل   يبقى عليه أن يجد فرصة عمل في بلد نسبة البطالة فيه تتجاوز 10% من سكانه الأصليين ، وتفضل توظيف ابنائها قبل المهاجرين لألف سبب وسبب ليست كلها عنصرية …  لتبلغ نسبة البطالة بينهم 90%  .

باختصار سرعان ما يعود من تمشايته لمخيم اللجوء ، ليس بسبب انتهاء شحن الموبايل ، بل بسبب انتهاء الحلم ، يعود إلى حيث يقطن الواقع ، إلى مكان يشبه السجن ، مع أشخاص عرب وصوماليين ، وأفغان ، يتشاجرون كل يوم ويكرهون بعضهم حتى العظم . ويقضون ليلهم على النت يتشارك السوريون في معارك حلب والراموسة ويشتمون كل من يكتب على الفيس ومهما كتب ، ينتصرون مع كل منتصر ، ويشعلون النار في كل محترق … فكل ما عداهم سيء وفاسد وخائن وهم أصل الثورة وأمها وأبوها … كيف لا وهم قد حققوا أهدافها وأحلامها فارتدوا الأزياء الأوروبية ليس في طريق الصالحية والسبيل ، بل في شوارع المدن الأوروبية ذاتها ( أليست هذه هي الحرية والديمقراطية ) … صحيح أنهم خسرو الوطن الذي حلموا فيه أن يصبحوا مثل الأوروبيين ، لكنهم انتصروا وحققوا أهداف الثورة وصاروا أوروبيين بالفعل ، ليس كما كانوا  أوربيين في سوريا مع كل عقد النقص تجاه أوروبا ، بل سوريين في أوروبا مع اضافة بسيطة أنهم فيها لاجئين منبوذين …

إنها تمشاية في الوهم إلى حيث الضياع ، نقيضها حقيقة واحدة هي الأرض … الوطن الذي لابد من اعادة بنائه ليحقق طموحات مواطنيه على أرضهم ، أرضهم فقط هي من تجسد أحلامهم ، ومن دونها لا وجود ولا أمجاد . فمن يعيد سوريا والسوريين ؟  هل أصبح ذلك مجرد حلم أيضا !!! يبدو لي أن افضل قرار اتخذته دول الجوار هو اغلاق حدودها ورفضها دخول اللاجئين … لأن الهجرة والموت شيء متشابه ومتساوي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.