التغير الاستراتيجي بفعل التقارب الروسي التركي .. وأثره على سوريا

د. كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

تقيم تركيا على أراضيها قواعد عسكرية لحلف الناتو التي هي عضو فيه ، لكن هذا الحليف تورط بترتيب انقلاب عسكري هز المنطقة، وأدركت الحكومة التركية (التي أنقذها قدر الله وارادة الشعب من هذا الانقلاب الدموي ) أنها عمليا قد أصبحت خارج الناتو بل عدوه ، وأنه لا بد لها من التخلي عن هذا الصديق الذي لم يعد يؤتمن جانبه  بعد أن تآمر في ليل ، ثم كشر عن أنيابه في نهار ، وأوغل في تحريض ومساعدة الانفصاليين الكرد ومجمل الأقليات … وإذا صدقت الأنباء عن الطيار الذي أسقط الطائرة الروسية ( وهو مشارك في الانقلاب ) أنه قد فعل ذلك لتوريط بلاده في مواجهة مدمرة مع الروس ، فهذا يدل على أن الناتو ذاته كان يريد هذه الحرب بين تركيا وروسيا ،  …وبالتالي يريد أن يدفع بتركيا للتهلكة والدمار . بذات الوقت الذي يمتنع فيه عن القيام بالتزاماته في الدفاع عن بلد حليف حسب صك الحلف ذاته … فيالها من صداقة وياله من تحالف .

ما أقوله أن لتركيا العديد من الأسباب المحقة لمغادرة الناتو والنأي بنفسها عن هذا الصديق الذي يعمل على تقويضها كدولة ، ولكنها قبل أن ترحّل وتطلّق هذا الصديق عليها أن تضمن عدم تغول عدوها التقليدي الروسي ، وأن تخفف من أعدائها حولها … أما الجانب الروسي فيعتبر خروج تركيا من حلف الناتو انجازا هائلا ، وفرصة ثمينة لا تتاح إلا نادرا ، فتركيا هي القوة العسكرية الاقليمية الأهم التي تهدده في أي نزاع مع أوروبا ، وضمان حياد تركيا سيعزز أوراق القوة في المواجهة المتدرجة مع أوروبا ، ليس فقط في أوكرانيا بل في كامل شرق أوروبا واسكندنافيا .

كلا البلدين مستفيد جدا من علاقتهما التجارية والسياحية التي تضررت بسبب تردي العلاقات ،  وبالتالي هذا ما سيتوافق عليه الطرفان بانتظار خطوات متبادلة في الموضوعات الأخرى ، في هذا الطريق الطويل من التقارب الذي يبدو مفتوحا وسالكا بسبب سرعة ترتيب اللقاءات وعلى أعلى مستوى . ولكنه طريق مشوب بالحذر بسبب عمق العداء التاريخي بين البلدين وطغيان انعدام الثقة في العلاقات الدولية.

على العموم تركيا  بعد الانقلاب في وضع (داخلي وخارجي ) لا يسمح لها بانتهاج سياسة خارجية هجومية وشجاعة ، فجيشها غير مرتاح وغير مأمون ، والتآمر عليها من كل حدب وصوب ، والانقسامات العامودية داخل المجتمع كبيرة وخطيرة ، لذلك سيكون سقف المطالب التركية في المنطقة منخفضا بشكل عام ، وستحرص على تخفيف الأعداء خارجها ما أمكنها ذلك ، للالتفات لترميم الوضع الداخلي وتجاوز المخاطر الوجودية التي تهددها من داخلها .

الخاسر الأكبر (في سوريا ) من هذا التقارب هم الكرد الانفصاليون  الذين سيفقدون حليفهم التاريخي الذي كان ماركسيا شيوعيا مثلهم … عندما دعمت روسيا السوفيتية الكرد الشيوعيين في مواجهة الناتو الرأسمالي ، أما في حال تطبيع العلاقات بين روسيا الجديدة المسيحية وتركيا الجديدة الإسلامية ، فلن يكون هناك سبب مباشر لدعم الانفصال أو الإرهاب الكردي الذي تحول لحليف للأمريكي والألماني المعادين صراحة لتركيا وروسيا معا … وهكذا ستضمن تركيا حليفا لها في مجلس الأمن في حال خاضت حربا لا هوادة فيها مع النزعة الانفصالية الكردية في جنوب تركيا وشمال سوريا ، ولكي تضمن تركيا المزيد من التأييد لعمليتها هذه ، فقد سارعت أيضا للقاء الإيراني والتفاهم معه على نقطة مشتركة أساسية هي مقاومة المشروع الكردي، والذي عبر عنه في البيان الختامي ( بفقرة الحفاظ على وحدة سوريا ) ، كما سبق لها وطبّعت العلاقة مع اسرائيل وهي في طريقها لضمان هدنة طويلة بين حماس واسرائيل بعد تحسين العلاقة مع نظام السيسي الذي يعترض على دور تركيا في هذه الهدنة ويعرقلها .  وهكذا كانت النتيجة الأولى لزيارة موسكو هي اغلاق مكتب صالح مسلم فيها ، وقد سبق الزيارة  تجاهل الطيران الروسي للهجوم الذي شنته وحدات المعارضة المدعومة من تركيا على الراموسة ، واستمر هذا الطيران في قصفه المعتاد المزعوم على النصرة وداعش كما هو متفق مع الأمريكيين ، فهو يعلم أن معركة حلب ذات أبعاد استراتيجية كبيرة تخص تركيا في وجودها ، وقد تكاسل في استعمال طيرانه رغبة منه في انجاح زيارة أردوغان ، فالطيران الروسي اليوم هو المحدد الأول لسير المعارك على الأرض ، وحيث يغيب هذا الطيران يتقدم الثوار دون عقبات .

أمريكا تفهم أن قواعدها العسكرية في تركيا عمليا قد أصبحت مقيدة منذ رفضت تركيا استخدامها ضد العراق وبعدها ضد المعارضة السورية ، وتدرك أنها ستغلق عاجلا أو آجلا بعد الانقلاب ، لذلك هي تركز منذ مدة طويلة على بناء قواعد بديلة في شمال سوريا كراتشوك وعين عرب ، وهي تحتاج لدويلة حليفة تعطيها الأرض ، يجب أن تكون معادية لجيرانها وبحاجة دائمة للحماية الأجنبية، وهي لهذا السبب تقدم كل أشكال الدعم للوحدات الكردية وتبدي تعاطفها ((الانساني)) الكبير مع الشعب الكردي ، وتنسى من هذا التعاطف الإنساني أشقائهم العرب وحتى الكرد في بقية المدن السورية ، وتتغاضى عن جرائم وحداتهم العسكرية الارهابية التي يقودها المخابرات السورية والايرانية، وتضرب عرض الحائط بالاحتجاج التركي أو احتجاج السكان العرب الذين يهجّرون من المنطقة بذات الفيلم العراقي ( من لا يهرب من داعش ، يهرب من الكرد الذين يتهمونه بالتعاون مع داعش ) داعش تدخل المدن العربية بدعم وسكوت أمريكي مريب ، وتخرج منها بمسرحيات عسكرية كردية يوجهها الطيران الأمريكي الذي يحرق أمامها كل شيء ويهجر ما أمكنه من المدنيين . ومنبج خير مثال ، وتفجير مبنى الطابو فيها أفضل اعلان عن الهدف .

ستكون اليد التركية مطلقة في جنوب تركيا (روسياً ) ، لكن في شمال سوريا سوف تصطدم بالموقف الأمريكي ، وهذا سيضع الجيش التركي على احتكاك خشن جدا مع الجيش الأمريكي ، لذلك قد يكون استخدام الورقة العروبية بالنسبة للأتراك في مواجهة النرعة الكردية الانفصالية أفضل من التورط بمواجهة مع حليف الأمس،  أقصد الناتو الذي سيكشر عن أنيابه ويتابع التآمر (العلني هذه المرة) على نظام الحكم في تركيا ، وسيبقى الرهان على تخاذل أمريكي قائما وواردا جدا كما تعودنا في عهد أوباما ، وهو ما سيجعل الكرد في ورطة حقيقية لو اعتمدوا على أوباما ، أو أوروبا العجوز وخسروا ما تبقى من أخوّة بينهم وبين أخوتهم المسلمين .

توطيد العلاقات الروسية التركية سيسهل الدور الروسي في سوريا ، وسيقلل من اعتماد الروس على الإيرانيين ، وبالتالي فإن تطبيع العلاقات التركية مع اسرائيل ، سيجعل من محور روسي تركي اسرائيلي عنصرا فاعلا يغير الخريطة الاستراتيجية السابقة ، وإذا تعاون مع دول الخليج التي ضاقت ذرعا من دعم أمريكا لإيران في المنطقة ، سيكون حلفا واسعا يعوض عن انسحاب الأمريكان وانكفاء الأوروبيين ، ويشكل بديلا عن حلول الإيراني مكانهم في العراق ولبنان وسوريا وغدا الكويت والبحرين وشرق السعودية وشمال اليمن . لتتحول ايران بنتيجته لدولة عظمى تهيمن على المنطقة كلها مستفيدة من الفراغ الذي يتركه تقلص محور الغرب  وتقوم هي بدور شرطيه في المنطقة … وبالتالي إيران أيضا خاسرة من هذا التقارب والخط الاستراتيجي الجديد ، وقد يكون حزب الله هو الخاسر الثاني ، حيث سيصبح الطريق نحو استهدافه عسكريا مفتوحا أمام اسرائيل التي تصنفه العدو رقم واحد ، أو العدو الوحيد المتبقي خارج العناية المشددة . وضمان حياد روسيا وتفهمها سيكون ضروريا جدا لخوض أي معركة عسكرية مع الحزب بسبب عدم موافقة أمريكا التي تريد أن ترى ايران تهيمن على المنطقة كشرطي لمصالحها وتقسم العالم الاسلامي بواسطة هلالها الشيعي ( المجوسي ) .

الروس الذين فوضهم العالم بالملف السوري ، سوف يرضون بأي حل يضمن لهم بقاء قواعدهم العسكرية الجوية والبحرية ، وبالتالي لن يكونوا متمسكين بشرعية الأسد لو حصلوا على ضمانات من الدول التي تهمين على المعارضة وتأمرها بقبول ذلك … وبالتالي فالخاسر الثالث  هو نظام بشار ، وليس الطائفة العلوية التي سيستغل الروسي حاجتها للحماية من الانتقام للإبقاء على قواته . أيضا يمكنه تقديم ورقة القضاء على داعش وتفكيك النصرة كجائزة ترضية للأمريكان ، الذي سيخسرون أهم أدواتهم في اعادة رسم خريطة المنطقة بخسارتهم لداعش والبكيكي .

عنفوان الهجوم الروسي سيخف تدريجيا ، وتفاهمات روسية تركية وربما ايرانية ستكون ممكنة حول حل في سوريا ( نوه عنه رئيس الوزراء التركي وحدد مدة ستة أشهر (هي مدة بقاء أوباما فقط) لأن أي خليفة له سيتصرف بطريقة مختلفة ) ، لكن الغرب لن يكون مرتاحا لهذا لو شعر أن مصالحه لم تراعى ، وخاصة منع قيام دويلة كردية تحت حكم الناتو … كما أن اسرائيل لا تقبل بنفوذ ايراني في سوريا ،  وكذلك العرب ، وبالتالي مثل هكذا جهود للسلام ستحبط ، وستخير روسيا عندها بين التحالف مع العرب ومعهم اسرائيل ، وبين التحالف مع إيران ، بينما لن تمانع تركيا في كلاهما ، وأعتقد أن روسيا ستختار الأول لكن بثمن مرتفع ، خاصة بعد التقارب والغزل الإيراني الأمريكي الذي اعتبره الروس طعنة لهم في الظهر .

في حال حصول تفاهم روسي ايراني تركي ، سيكون الجنوب السوري محور اهتمام عربي وغربي واسرائيلي وهذا سيضع سوريا على بوابة التقسيم العملي لمناطق نفوذ من قبل الجيران . وهذا الاحتمال هو الأرجح حدوثا ضمن المعطيات الحالية ، والذي سيكون مشرعنا بمجرد سقوط الأسد ، وأعتقد أن الخطة هي تأخير سقوط الولد بانتظار نضج ظروف التقسيم هذه .

التقارب الروسي التركي ، يوازي التحالف الغربي الإيراني ، ويرسم محور استراتيجي شمال جنوب مضاد للمحور الغربي السابق ، وتركيا التي قفزت من محور الغرب ستكون بديل ايران في هذا المحور الجديد الذي سيشمل دول عربية ستقفز أيضا ، الرابح الأول من هذا التقارب مع تركيا هو الروس ، والخاسر الأهم هو أمريكا ، وهكذا يسجل أوباما هدفا آخر في مرمى فريقه فهو سريع في تسجيل الأهداف لكن في مرماه فقط ، فيخسر منذ بداية عهده خسارات مخزية … لكنها ليست بسبب قوة خصمه  ولا بسبب ضعفه !!!! بل بسبب سوء تقديره ومحاكمته .

أما في سوريا فستزيد حصة القوى الداخلية نتيجة انحسار الخارج ، وهذا سيكون في صالح الشعب أكثر فأكثر ، لكنه قطعا لن يحمل السلام ولا الحل في القريب ولا وحدة سوريا … لأن نظام بوتين ذاته ونظام أردوغان ونظام الملالي مهددة أيضا ، فهي تحالفات ضعف وليس قوة … وأوباما سيغادر قبل بشار ، بل يبدو لي أن مغادرة أوباما هي شرط لمغادرة بشار … بعد أن تغاضى عن اسقاطه وسعى لاسقاط أردوغان بدلا منه .  فكان من الطبيعي أن يظهر أردوغان عينه الحمراء ويتجه نحو روسيا ،  مما يدفع بصانعي السياسة الأمريكيين لمراجعة حساباتهم ، والذين لا يريدون رؤية شمسهم تغرب اعتبارا من الشرق … فهم يرون أن التقارب الروسي التركي ما هو إلا ردة فعل ، تزول بزوال الفعل . وأنه يمكنهم استعادة دورهم بواسطة سياسة جديدة في الشرق الأوسط ، ولكن مها جرى أو سيجري فإن الخريطة الاستراتيجية الآن تهتز بشدة ، وهذا ما سيفتح الطريق نحو تحالف اسلامي واسع لكن بالتدريج … هو البديل عن سعي الدول الاسلامية وراء التحالفات مع الغرب والشرق كليهما.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.