يثب

لماذا العرب أقل تدينا من بقية المسلمين ؟

د. كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

بعد أن تشردنا في أصقاع الأرض وتعاملنا مع الكثير من الشعوب لفت نظري أن التدين عند الشعوب غير العربية أقوى من التدين عند العرب إجمالا ، وأن ظاهرة الغلو والتكفير تشيع عند العرب أكثر من غيرهم من الشعوب… طبعا يُفترض أن يحدث العكس ، كون العرب أهل اللغة التي نزل بها القرآن وكتب بها معظم الفقه ….

 والسبب الحقيقي لتلك الظاهرة الغريبة لا علاقة له بالعرق والمورثات كما يظن المرء لأول وهلة ، بل بطبيعة دور اللغة في الفكر ودورهما في تكوين الإيمان … كيف ذلك ؟

النص الديني وبالتحديد الكتاب المنزل باللغة العربية يتحول بشكل طبيعي لغير مفكر فيه عند غير العرب بسبب حاجز اللغة، وبذلك يرتفع من فوره فوق مستوى التفكر والعقل والجدل لمستوى التقديس المطلق ( المستحيل التفكير فيه ) ، والذي يشكل مصدرا للحق والحقيقة (مطلقا وثابتا) فوق مستوى العقل، وبعيد عن امكانية القراءة ، وهذا هو سبب قوة التدين والإيمان ، الذي يرتفع مباشرة لتابو أسطوري مبني على المدهش والخلاب المتعالي المستحيل التفكير فيه …

وبالعكس كل تدين قائم على الفكر  والتفكير يتطلب نقل المعرفة من صعيد الشك نحو صعيد التصديق القائم على الجدل المنطقي ، ثم نقلها نحو اليقين بعد إثباتها باللمس والتجربة ، وهذا الطريق صعب ومعقد لا يستطعه الكثيرون ، ويتطلب جهدا ودراية وتدريب وتجربة ونضوج خبرات ، لذلك يحاول مدرسي الدين تعليم طلابهم العرب أن يتلقوا القرآن كحقائق مطلقة غير قابلة للنقاش والجدل أي كنص تعبدي ( ممنوع التفكير فيه ) وهذا ما يتناقض مع طبيعة العقل الميال للمعرفة عن طريق الشك والتجريب ، لكون هذا الطريق التجريبي نحو الحقيقة ( العلم ) ناجح وموثوق يولد الحقائق العلمية المثبتة.

في الشعوب المسلمة غير العربية عادة يقوم الفقهاء الرسميين بترجمة القرآن لتعليمات واضحة لغير لغات ، ويقدمون للشعوب فقها مدروسا بشكل جيد يبنوا عليه إيمانهم ، لكن عند العرب الذين يعرفون اللغة يتركز جهد المدرسين على تحويل النص القرآني من مادة فكر ومعرفة وجدل ونقاش وتعدد قراءت وتأويلات مختلفة ، إلى نص تعبدي مقدس ممنوع التفكير فيه ، وبالتالي يصبح عرضة لسوء الفهم والاجتزاء عند من يتكلم العربية ولا يحتاج لوسيط مرجعي بينه وبين النص . وهذا ما يجعل العرب منبعا لمدارس الغلو والتكفير والخروج والتشيع وتعدد المذاهب وغيرها … كتعبيرات عن اختلاف دلالة النص ( الأدبي المجازي البلاغي ) باختلاف الأيديولوجيات ، أي باختلاف دوافع القارئ وفقا لمراحل تاريخية جغرافية وسياسية مفصلية ..

وهذا ما يجعل الاعتدال في الدين عند العرب يتطلب تقديس ليس فقط النص بحرفيته ، بل كل الفقه الملحق به وكل نتاج العلماء التابعين المعترف بهم رسميا ، ويوجد ضرورة لمرجيات فقهية دائمة ، معطلا بشكل كامل عملية التفكر والنقد والتمحيص والجدل والنقاش التي يتطلبها أي فهم عميق وصائب لجوهر الدين ( لأن هذا بالأصل يتناقض مع كونه ممنوع التفكير فيه)  ،  هذه الإشكالية تُضعِف عند العرب قوة وجذوة الإيمان الذي ينخفض من مستوى  الأسطرة ، أو مستوى اللمس واليقين القائم على التجربة ، لمستوى التصديق الأدبي والاحترام الشكلي المعزز بالقمع والوصاية والمحروس بسلاح التكفير … وهكذا يمارس الدين عند العرب (أكثر من غيرهم) كشكل ومظهر مبالغ به لكنه ضعيف المضمون.

يسهل على غير العربي اعتبار القرآن كلام الله الذي نزل كما هو بلغته السماوية … التي لا يفهمها إلا الفقهاء الذين ينقلون عنه ، بينما يصعب على العربي الفصل بين لغة القرآن ولغة بقية النصوص البشرية ، فالفارق بينها في الشكل والبلاغة والأسلوب ، لكن ليس في جوهر اللغة … وبالتالي هو بشكله اللغوي دنيوي غير متسامي ، ومع ذلك دلالته المعرفية ممنوع التفكير فيها ومصادرة لصالح نخبة من الفقهاء .

فالعربي بهذه الطريقة متدين بقدر قبوله بالاستلاب والوصاية والتبعية ( اتباع ) ، مع أنه بسبب قدرته على تمييز البلاغة والفرادة والسرد والتكرار والسجع والرجز والتقفي والتشبيه والتأويل والدلالة والمجاز والتشبيه وكل فنون اللغة ، قادر على القيام بقراءة  ذاتية للآيات شكلا ومضمونا ومؤهل لذلك بل مفروض عليه … لكن هذا التحرر من الاستلاب يحول النص من جديد لمفكر فيه ، ويهبط بالتدين من سويته الأسطورية المدهشة ، من عالم المذهل والساحر والعجيب الخلاب لعالم المقنع والنافع القابل للنقاش والتقييم … وهذا  يحول الدين من أسطورة مطلقة إلى قناعة نسبية . فهو ببساطة بالنسبة للعربي ليس مستحيلا التفكير فيه ، بل ممنوع التفكير فيه ، أي أن التقديس عند العربي مرتبط بتحريم العقل ذاته ( خاصة العوام ) … وهذا أيضا يتسبب بالعداء التاريخي القائم بين العلم والدين ويتسبب بتخلف العرب أيضا .

وبالعكس كل حرمانية للعقل والانفتاح والنقاش ، ستولد العقل الدوغمائي ، الذي هو الأرضية المناسبة لمذاهب الغلو والاجتزاء والانحراف  الناجمة عن سوء الفهم الذي لا يمكن تقويمة بسبب تعطل الآلية ( التفكير والعقل ) . لذلك فتدين العرب محكوم بمدرستين :  إما المدرسة العقلانية التي تعتمد الفكر والنقد والتمحيص … بما تحتويه من حرية وتحتاجه من جهد واجتهاد ، وتولده من مخاطر … أو مدرسة حرمانية العقل و منع التفكير الدوغمائية بما تولده من استلاب وشطح وخروج ونزعات استبداد وتكفير وإرهاب …

فالعرب كما نرى ممتحنين في دينهم وتدينهم أكثر من غيرهم … ولن يصلح حالهم ويخرجوا من عالم الدوغمائية والإرهاب من دون حسم هذه المسألة وإعادة بناء الدين والتدين على العقل المنفتح النقدي ، لكي يخرجوا من أزماتهم التي لا أمل قريب في حلها ، والتي يلعب الدين دورا كبيرا فيها أقصد (الاستبداد والإرهاب والتخلف )، الذي لا نقول أنه أصيل في الدين ، بقدر ما تولد عن سوء القراءة والعقل القارئ ، وتكرس بفعل التعامل الخاطئ مع هذا الدين (بدوافع نبيلة أحيانا ) منها الحرص والخوف على التقديس ، والسعي لتوليده بأكبر قدر حتى لو عن طريق الجهل .

ملاحظة : 

عندما تصبح المعرفة بالواقع ( العلم ) هي بذاتها موضوعا للمعرفة ، نكون قل وصلنا للفلسفة (معرفة المعرفة) ، وعندما نضيف لهذه الفلسفة معايير قيمية أخلاقية نكون قد انتقلنا للحكمة التي هي جوهر الدين … فالدين معرفة قيمية راقية ومعقدة في أعلى مستوى ، وليس جهلاً  ولا يصح أن يبنى عليه .

المدارس الفلسفية الحديثة تناولت المعرفة الانسانية بالدراسة والتحليل وابتدعت مفاهيم جديدة مثل : المفكر ، وغير المفكر فيه، والممنوع التفكير فيه، والمستحيل التفكير فيه  (لغياب الأدوات العارفة كالتعليب اللغوي والمفاهيم المفتاحية ) … وقد طور فوكو الفيلسوف الفرنسي طروحاته بتقسيم هرم المعرفة الانساني لسويات ( أركيولوجيا ) وقطاعات ( جينالوجيا ) ، كما تطورت مفاهيم القراءة والدلالة واللغات ، ومع ذلك لم تتطور قراءاتنا للحكمة والدين ، فتحدث الفيلسوف العربي محمد أرغون نهاية القرن الماضي عن تراكم كم هائل من (اللامفكر فيه)  أمام الوعي العربي ، بسبب عطالة الفكر والاستبداد وحرمانية العقل ، لينفجر هذا الكم الهائل من الجهل في مواجهة الشعوب العربية التي أرادت الخروج نحو الحرية …

هذا المقال هو تطبيق لهذه المدارس الفلسفية الحديثة على التراث، وفي خدمة هذه الثورات التي تعثرت بسبب أساسي هو نقص الوعي … و التي نكصت نحو الماضي وظهر عجزها عن متابعة مسارها ودخول المستقبل . ذلك الدخول الذي سيكون مجرد تشرذم وانقطاع تاريخي إذا لم تعيد قراءة  تراثها ، ولم تقلص ساحة اللامفكر فيه والممنوع التفكير فيه ، كوسيلة وحيدة لإلغاء القطيعة بين الأصالة والحداثة … بين الهوية والحرية .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.