يثب

ما أغفله الدستور الروسي – 1 – (  هوية الدولة السورية )

د. كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

وجود دستور مكتوب ومعمول به هو سمة الدولة التعاقدية ( وفقا لنظرية جان جاك روسو ) في مقابل دولة الاستبداد والقهر المغلف بالقداسة ، عمليا لا شيء يستطيع جعل هذا النظام التعاقدي يعمل سوى الإرادة الجمعية في ذلك ، وهذا يتطلب توافق وطني واسع على الدستور والنظام ، ويجعل من كل دستور مفروض من دون توافق وطني ، أداة قمع معاكسة لمضمونه المفترض .

في علوم السياسة للدول التعاقدية ثلاثة وظائف رئيسية :

الوظيفة الأولى (والأهم ) هي تشكيل مؤسسات قوة تدافع عن رعاياها وتمارس السيادة القانونية التي تحفظ السلم الاجتماعي وتنظم علاقات البشر وطرق تنافسهم . الثانية (التي تتطور بسرعة تبعا لتعقد الحياة ) هي المهام الخدمية العامة ، والثالثة (التي تتراجع مع تقدم العولمة) هي مهمة التمثيل الجمعي للشعب كأمة وهوية وفقا لنظرية الدولة الأمة (العضوية وفقا لنظرية هيجل) .

وبما يخص الدستور الروسي المطروح على السوريين فهو من ناحية الشكل يناقض آليات العملية التعاقدية من أساسها ، ومن ناحية المضمون يتجاهل مناقشة ثلاث نقاط اشكالية ملحة اليوم : أولها هوية الدولة ، وثانيها المحاصصة بين المكونات المختلفة العامودية الأهلية ، وثالثها علاقة الدين بالدولة والنظام القانوني ، تلك النقاط الثلاث الإشكالية سنتطرق إليها تباعا في ثلاث مقالات .

أولا – هوية الدولة السورية :

مع التأكيد على أن هوية الشعوب لا تثبتها ولا تلغيها وثيقة (كونها شيء يفرض نفسه كأمر واقع) ، ومع ادراك أن العولمة تمحو تدريجيا الحدود والفوارق القومية ، مع ذلك نرى أن دستور الدولة السورية لا يجوز له تجاهل باب هوية هذه الدولة ولو مرحليا ، والذي يتحدد بالنقاط التالية :

  • – اسمها ، علمها ، وسلامها الوطني … (مختلف عليه)
  • – نوع نظامها (سوريا دولة مدنية ديمقراطية برلمانية) بدلا عن ( جمهورية عربية سورية ) أو ( دولة الخلافة الاسلامية ) ….
  • – عاصمتها (مدينة دمشق ).
  • – لغتها الرسمية : (اللغة العربية) . ويحق لمن لا يجيدها الحصول على ترجمة ، ويجوز اعتماد الوثائق المكتوبة باللغة الكردية الكرمنجية واللغة الانكليزية ، وفتح مدارس تعليمية بهذه اللغات وغيرها. ويحق لكل المكونات القومية استعمال لغاتهم الخاصة الأم دون أن تكون لغة رسمية للدولة.
  • – مكانتها التاريخية : تقع دولة سوريا في منطقة الشرق الأوسط ملتقى القارات الثلاث ومهد الديانات السماوية والحضارات القديمة ، حيث الهوية العربية والثقافة الإسلامية هي هوية وثقافة الأغلبية في هذه المنطقة تاريخيا ، ومع ذلك هي كدولة لا تقوم على أساس الهوية القومية أو العقيدة الدينية ، بل العقد المدني التوافقي الذي يحترم حقوق جميع المكونات بغض النظر عن العدد .
  • – الأرض : لم تكن سوريا في التاريخ دولة مستقلة متمايزة ، بل أنشئت بقرار  أممي، و لا تشكل حدودها الحالية حواجز طبيعية  في وجه التداخل القومي والثقافي والديني والاقتصادي والجغرافي مع جيرانها ( القومية العربية موجودة في كل دول الجوار ، وكذلك القومية الكردية في أغلبها ، والتركمانية أيضا … وكذا حال الطوائف والأديان ، كما لم يكن أي جزء منها دولة مستقلة مستقرة  لوحده  اتحد فيما بعد مع غيره ..لذلك فان حدودها كدولة محدثة هي حدود مصطنعة غير طبيعية ، تقوم شرعيتها على القانون الدولي والاعتراف المتبادل ، و أي تعديل عليها سوف يحتاج لموافقة الأغلبية المطلقة في الاستفتاء العام ، ولا تقبل أن يقتطع من أراضيها أو يحتل أي جزء بالقوة . وهي لذات السبب منفتحة على كل الصيغ الاتحادية مع بقية دول المنطقة .
  • – علاقتها بالقانون الدولي : سوريا دولة مستقلة ذات سيادة ، تسعى إلى أفضل العلاقات مع محيطها ، وتساهم في التعاون الإقليمي والدولي الإنساني. وفي الجامعة العربية والإسلامية والمتوسطية . وتحترم الشرعية الدولية وحقوق الإنسان والأمن والسلم العالميين . وتشارك في المؤسسات والجمعيات الأممية وبرامج التعاون الدولي المختلفة ، وتلتزم بالتوقيع على المواثيق الناظمة لها .
  • – الشعب: الشعب السوري شعب واحد، متعدّد القوميات، متنوع الديانات والطوائف، فيه أغلبية عربية مسلمة واضحة ، ولا يقبل التمييز العرقي أو الديني أو الأهلي، وتقوم وحدته على العدالة بين المواطنين ، وعلى الاعتراف بالتنوع وليس على إنكاره. لذلك يكفل الدستور الحقوق المشروعة لبقية القوميات ، وفي مقدمتها القومية  الكوردية والتركمانية والآشورية والأرمنية والشركسية،  و حقوق الديانات المختلفة خاصة المسيحية ، و كافة الطوائف المختلفة .
  • – نوع ادارتها : الدولة السورية تعتمد نظام الإدارة اللامركزي الذي يقوم على التقسيمات الادارية الجغرافية بصلاحيات محلية واسعة ، وعلى الفيدرالية الثقافية التي تضمن التنوع الثقافي والمساواة في الحقوق الثقافية .
  • – حقوق المكونات الأهلية فيها : تكفل الدولة لكل مواطنيها والمقيمين فيها احترام هويتهم وحريتهم في الاعتقاد الديني وممارسة الشعائر , وتشييد المعابد , وبشكل متساوي للجميع . كما تكفل الحقوق المدنية والثقافية والسياسية لكل المكونات القومية والدينية . ولكل فرد من أفراد المجتمع على السواء. وتكفل حق التنوع الثقافي والحق بالحرية ، والمساواة أمام القانون ، وتكافؤ الفرص  والحقوق المدنية ، والحصول على الخدمات العامة، وذلك ضمن إطار الدولة الديمقراطية، وعلى أساس الشراكة المتكافئة في الوطن .
  • – المشاكل التكوينية الملحة التي تواجهها : القومية الكوردية قومية رئيسة إلى جانب القومية العربية والقوميات الأخرى خاصة التركمانية والآشورية والسيريانية, والتي تعيش حياة مشتركة على الأرض السوريّة وفق إرادتها الحرّة. ومن الضروري حل القضية الكوردية  ضمن الأطر الديمقراطية وميزان العدالة ، عبر إلغاء كافة القوانين والمراسيم والمشاريع والسياسات التمييزية  المطبقّة بحق الكورد ، ومعالجة أثارها السلبية واعادة الحقوق وتعويض المتضرّرين ، وهذا ينطبق على كل المتضررين من نظام الاستبداد والاجرام . وترى أن الحل المثالي للمسائل القومية يكمن في مسار تعاوني واتحادي اقليمي وليس تقسيمي ، نظرا للتداخل الديموغرافي بين القوميات العابرة للحدود ، ونظرا لتداخل المصالح الاقتصادية والتاريخ المشترك ، واتجاه العالم كله نحو الوحدة والاندماج بمفعول العولمة ، و ترى أن أي مسار تقسيمي مقترح ليس له أساس حقوقي تاريخي ، وسيكون من الصعب رسم حدوده الجغرافية المتصلة ، و تنفيذ أي تقسيم جغرافي سياسي سيتطلب عمليات تهجير واسعة ، وتجاوزات ضد الانسانية.
  • – علاقاتها الخارجية : الدولة السورية تحترم كل الشعوب والقوميات والدول الأخرى، لكنها تفضل أن تقيم علاقات تعاون وشراكة مع الدول المتداخلة معها قوميا وجغرافيا ، وعلاقات صداقة مع الدول التي تشاركها المبادئ الديمقراطية وتحترم حقوق الإنسان، ولا تضطهد شعوبها ولا تعتدي على شعوب أخرى. وتأمل في تفعيل النظام العالمي والمنظومة الدولية التي أثبتت فشلها في التعامل مع القضية السورية مما حول سوريا لساحة نزاع دولي واقليمي دفعت ثمنه غاليا جدا .

في المقال التالي سنعرض للنظام القانوني الحقوقي وعلاقته بالدين والشريعة … ثم بعده لنظام التمثيل الأهلي والمدني للشعب السوري بانقساماته العامودية والأفقية (أي طريقة تمثيل مكوناته الأهلية ، وتمايز مصالحه الطبقية والاقتصادية) .   يتبع .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.