المكان .. الزمان .. الوطن

د. كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

ظل المكان ثابتا لدرجة أنه لم يتغير طيلة عشر سنوات ، أما الزمان فكان يمر ثقيلا ومتكررا ،

هناك في ذلك المكان الضيق الذي لا يتسع لواحدة من أحقادي

حيث ينتهي المشوار الطويل بخطوتين

خلف باب الحديد ،   أراكِ فقط عندما أغمض عيني …

تغيب الأشياء فتبقى الكلمات

يضيق المكان فيتسع المعنى

يتوقف الزمان وندخل في الأبدية …

الأبدية،  التي كانت عنوان سجني حتى اندلاع الثورة ، حيث تغير كل شيء ،

ألغيت الأبدية التي وصفت الحاكم والمحكوم ،  وانطلقت عجلة الزمان وأصبح يتغير بسرعة ، وتحرر المكان حتى صرت لا أعرف أين أنام ، وأين استيقظ … انتهت عشر سنوات من الاتحاد بالمكان والتعفن مع الجدران ، وأعقبتها ست سنوات من السفر والترحال لا بر ولا رصيف ولا ميناء… دون انتماء ودون مكان ودون وسادة ، أهلي في كل البلدان ، حارتي توزعت على القارات الخمس، وبيتي أصبح حقيبة سفر في محطة قطار … صور أطفالي تغطي أحياء التشرد والتسول والمخيمات … لكن مع جنون المكان وتغيره باليوم والساعة ، كان الزمان متوقفا عند صور الموت والدمار  وصراخ الثكلى وقصص الألم والحزن ، وأخبار فقدان اصدقائي تتوالى تباعا واحدا اثر الآخر …

ومع استشهاد آخر صديق ، توقف المكان المجنون أخيرا في البعيد ، حطت به طائرة أرغمها على الهبوط  تراكم الصقيع القطبي ، وسحبتها الدببة نحو بوابة الكهوف ، ورست السفن التائهة على شاطئ صخري تلطمه الأمواج ، بعد أن جنحت بفعل العواصف وتناثرت حمولتها ، ورقدت أم الأطفال مع أسرتها أسفل ركام بيتها لم تنتظر مأتما ولا مدفنا ولا سيارة اسعاف ، وتدحرج جسده الرطب إلى عتمة زنزانة تحولت لقبر ، ينتظر فيها مع بقية الجثث كي تحضر العربة التي تنقله لحفرة عميقة ، في سفح جبل ناء …

مع جنون المكان والإنسان توقف الزمان عند مشاهد الموت والرحيل، و عند بقاء النظام المتوحش الذي عادت إليه أبديته بقرار من الإنسانية والنظام العالمي .

فدخلت أبديتي ووحدتي وغربتي ، وصار وطني هو الكلمات ، هو اللغة التي أحب أن أتكلم بها ، حيث وجدتْ ، وجدتُ ، صرت أبحث عن لسان عربي وقصة سورية لكي أتنفس وتستمر نبضات قلبي في هذا الزمن الأعجمي … غابت الابتسامة والورود ، وضحكات الأطفال  ، وقهقهة المقاهي وصخب الأسواق ، وساد السكون والسواد … فبقيت الكلمات ، غابت الأشياء وبقيت القصص ، غاب البشر والأحبة وبقيت الوحدة والعزلة ، وساد الصمت الذي هو أبلغ  حزنا من الكلام …

أطبق صمت الحداد في زنزانات ، لفظ  فيها آخر المعذبين نفسه الأخير …

ففُتح بابها على مصراعيه ، وغادر عنها الحراس .

حدقت الأخت في جسد أخيها

خدشت وجنتيها… مزقت فمها

صدر عنها نواح

مر فوق السيد المسجى

أواه يا أخي الذي لم تكن أيامه طويلة

أواه يا أخي الذي جلب الحزن لأمه

أن تنام نومة قلقة ولا تنهض

السماء … مزقيها أيتها العاصفة

أقيمي مأتما يا سراطين النهر

أقيموا جميعا مأتما واحدا

ولتنطلق منكم كلكم صرخة عويل

يراعة نبتت وحدها . تحني رأسها إليه

على مثواه الطاهر لا ينسكب الماء

ما من لبن يسكب للفقراء

كله قد شفطوه

غيلان ينقضون على كل شيء

سرعان ما يبددون جثث ضحاياهم

هنا والآن يسدل الستار على ملحمة الانسان ، ملحمة المكان والزمان في وطن يموت ويتبدد .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.