يثب

آلية المحاصصة (الديموقراطية) بين المكونات الأهلية

 د. كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

لم تشكل دول الشرق الأوسط التي استحدثها اتفاق سايكس – بيكو حالة نموذجية للدولة – الأمة ، فهناك قوميات وديانات وطوائف تمدد عبر الحدود المصطنعة ، وتشكلت داخل هذه الدول شعوب لم ينضج  تحولها من مجتمع أهلي لمجتمع مدني (تزول فيه الانتماءات التي تقوم على الهويات الفرعية من قوم وعشيرة وطائفة ) ، حيث ما تزال تلعب تلك الانتماءات دورا يتفوق على دور المؤسسات السياسية المدنية والحزبية… وقد فشلت في الشرق الأوسط ثلاث دول حتى الآن في ايجاد صيغة للديمقراطية المستقرة فيها بسبب ذلك هي : لبنان ، والعراق ، وأخيرا سوريا ، وغدا تركيا وإيران … لذلك فإن أي تطبيق للنظام الديمقراطي في الدول التي لم تستكمل تحولها المدني يتوجب عليه حل مسألة التمثيل الأهلي للقطاعات العامودية ( القومية ، والدينية ، والطائفية ، وحتى القبلية ) ، إلى جانب التمثيل المدني للمجتمع ، والذي يقوم على مبدأ المواطنة المتساوية الحقوق والواجبات ، بغض النظر عن الهويات المختلفة التي لا يجب أن يعيق تباينها وظائف الدولة الحديثة ومهامها المتزايد والمعقدة والتي صارت حيوية بالنسبة لكل فرد … وكي لا يفسد أي من التمثيلين عمل الآخر توجب أن يتمثل الشعب بغرفتين : واحدة تمثل المجتمع الأهلي بمحاصصاته العامودية ولها صلاحيات محددة في شؤون الهوية والدفاع والسياسة الخارجية ، والثانية تمثل المجتمع ككل موحد بتمايزات مصالحه الطبقية والقطاعية المدنية المختلفة …

ليس هناك بد في هذه الدول من فصل نوعي التمثيل عن بعضهما ، واعتماد نظام الغرفتين ( مجلس شيوخ { أهلي }، ومجلس نواب {مدني } ) الأول يتم الترشح له بشكل فردي وفق نظام أكثرية الأصوات ، وتوزع مقاعده وفقا لنسبة كل مكون أهلي ، وينتخب الرئيس الفخري للبلاد ، ويشرف على عمل ثلاث وزارات هي الخارجية والدفاع والعدل ، والثاني مجلس النواب الذي يعطي الثقة للحكومة الحزبية التي تسيّر كل الأمور التي لا تتعلق بالهوية ( المالية والخدمية والأمنية… ) ، ويتم اختيار أعضاءه بالطريقة النسبية تبعا لقوائم حزبية مرفقة ببرنامج محدد ، في عملية اقتراع لا تدخلها الأحزاب والجمعيات التي تحمل الصفة العرقية والطائفية الدينية ( وهذا هام جدا في النظام الجديد ) لتخليص الحياة السياسية من تباينات الهوية .

فبدل الحديث عن (جمعية المناطق وجمعية الشعب ) التي تتداخل صلاحياتها وتتضارب ، بالشكل المشوش الذي ورد في صيغة الدستور الروسي ، والتي تهدف لإلغاء وحدة الدولة ، واضعاف فعالية مؤسساتها ، كان من المفترض التدقيق في تفاصيل تكوين المجتمع وطريقة تمثيله بحيث نحقق وظيفتين معا : الأولى تمثيل التنوع بشكل واضح وغير موارب  باسمه ونسبته ، والثانية تجسيد الوحدة الضرورية لقيام دولة المواطنة، لكن على ما يبدو أن الروس يريدون دولة بلا هوية ، وأن يعطوا الأهمية لرئيس الدولة وليس المجالس التمثيلة  ، لأنهم لا يرون في المجلس التمثلي التشريعي سوى مجلس ( دمى ) لا دور له كما هو الحال عندهم ، لذلك صمموا لنا دستورا يعطي للرئيس صلاحيات إلهية ، ويحرم الشعب بكامله (أغلبية وأقليات معا ) من حق حكم نفسه …

إنه كما قلنا دستور مصمم ومفصل لإعادة إنتاج سلطة الأسد بشخصه وعلى قياسه … ولم يرتق لسوية إدراك أن الشعب السوري قد دفع ما دفع ليس ليعود بخديعة مكشوفه لما كان عليه في الماضي … الذي مات ويجب دفنه . ولن ينفع في ذلك لا الطائرات الحربية ولا دستور ولد هو بذاته ميتا .

الدستور السوري الذي يكتبه الشعب بدماء مليون شهيد قدمهم على مذبح الحرية ، سيكون دليلا لكل شعوب المنطقة التي تعاني من صعوبات في التحول الديموقراطي بسبب عدم توفر صيغ وأفكار مناسبة للواقع ، لبنان ، والعراق … وأخص بالذكر الأردن الشقيق والكويت التي تحاول بشتى الطرق انتاج مجالس نواب فعالة ، فتصطدم بالانتماء الأهلي والمحاصصات وتفشل مجالسها (بالرغم من الاقتراع الديموقراطي) في لعب دورها التشريعي المطلوب … لذلك نقترح عليهم أيضا اعتماد نظام المجلسين ، والذي يسمح بتشكيل أحزاب برنامجية مدنية توجه وتقود الحكومة بناء على خطط سياسية ، بدلا عن المحاصصة الأهلية المعطلة لعملها ، والتي يجب أن تمثل أيضا لكن في مجالس ذات وظيفة أخرى .

باختصار : لمنطقة الشرق الأوسط خصوصيتها المختلفة عن غيرها وعن النظريات المدرسية ، وهي من التعقيد لدرجة يصعب على مسؤول أو دبلوماسي أو مندوب سامي أن يخطط لها ويبتدع حلولها خاصة اذا افتتح صباحه بكأسين من الفودكا المركزة … يستطيع الدب الروسي أن يضربنا بكل أنواع الأسلحة ، لكنه لا يستطيع أن يكتب لنا دستورنا … لأننا نحن أهل الدساتير والشرائع منذ حمورابي ولقمان …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.