الكل والجزء ؟ … خذوا الدين كله أو دعوه

د. كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

نزلت الآية { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا } (سورة المائدة 3) لتدل على اكتمال الدين ، والصحيح منطقيا أن يطبق هذا الدين كله ، مع أن ذلك صعبٌ على عموم الناس ولا يقدر عليه سوى الخاصة ، فالله الغفور الرحيم يجزي الحسنة بعشرة ، والسيئة بواحدة رحمة بعباده وعلما بضعفهم . وغالب الناس يطبقون ما يستطيعوا من هذا الدين ويسألوا الله العفو . لكن البعض يقوم (بدل التسهيل على الناس) بالتشديد عليهم فيلغي الجزء السهل والمتسامح من القرآن ويعتمد الأشد والأكثر صعوبة، ويقدم قراءته المتشددة على أنها الدين القويم … والسبب في حدوث ذلك أن القرآن حمال أوجه ، وفيه أحكام متباينة ، علينا عمليا أن نختار منها ، مما يطرح مشكلة فلسفية خلافية حول طريقة التوفيق بين الأجزاء المتباينة والمتداخلة في هذا الكل :   هل الأصل هو التشدد أم التساهل واللين ؟ هل نهمل أو ننسخ بعض من هذه الأجزاء ؟  أم نقر بها جميعها ، ونطبقها كلها مشروطة بظرفها وبدلالة الكل وبهدي حكمته ؟؟؟ كيف نوفق مثلا بين :

قوله تعالى : { قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } (سورة التوبة 29)

وبين قوله : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ }  البقرة (62)

أو بين قوله : { وَقَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِم بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ }  المائدة (46)

وقوله {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ }  آل عمران (85)

السؤال الذي يطرح نفسه في هكذا حالات (وهي كثيرة ) : أي الأحكام نختار ؟ وما هي طريقة الاختيار ؟ هل كل جزء صحيح بذاته ولوحده ؟ هل الجزء نسبي أم مطلق؟ هل يؤخذ الجزء بظرفه وسياقه وسبب نزوله أم متجردا عنهم ، وكأنه كلّ مطلقٌ بذاته … وماذ لو تعارضت النصوص والدلالات واختلفت الأحكام … ما ننسخ وما نثبت ؟ وهل عملية النسخ نهائية أم تعطيل ظرفي معلل بسبب ؟ ثم هل التحريم المشروط أو المعلل يزول بزوال شرطه وعلته مع تغير الأحوال والأزمان …؟؟؟

قراءة القرآن الحديثة باعتماد العقل العلمي والتي يعتبر أستاذها ومنظرها سيد قطب ( في ظلال القرآن ) ، وهو من أصحاب دعوة خذوا الدين كله ، تتعامل مع القرآن ككتاب علوم إلهي ، هذه القراءة ترى أسوة بالعلوم أن كل جزء لوحده صحيح ، ومجموع الصحيح صحيح ولا يوجد في (الصحيح بكله ) أي جزء غير صحيح ، وما صح كله صح جزءه منطقيا …. فالقرآن سماوي أزلي مستقل عن الظرف صحيح في كله وفي كل جزء منه … واضح الدلالة لا يدخله الباطل … ومع ذلك الإقرار بصحة الكل والجزء معا وصحة كل جزء ، مع ذلك تغافلت عن إلغاء دائم لجزء هام من القرآن  لتجنب التباين في الأحكام … وعن تعطيل نهائي لقسم من الصحيح افتراضا ، بعكس المقدمة التي قدمها … فكيف يكون صحيح بكله وبكل جزء منه ثم نلغي منه ما نلغي بحجة تطبيق الأشد ، أو النسخ . أليس في ذلك عيب منطقي يقع فيه الفقهاء ، ولماذا لم يتابع سيد قطب في هذا المنطق الذي سار به ؟ هل ذلك بسبب تناقض استنتاجاته مع الأيديولوجيا السياسية التي استخدم الدين في خدمتها ؟

في قراءات أخرى يُقرأ القرآن كنص أدبي جامع بكله وحكمته ، وتطبق أحكامه المتباينة بحسب الظرف وبدلالة الحكمة والغاية والعلة . فهي تقر بتباين الأحكام وفقا لتباين الظروف ( أي أن أحكامه ليست كالقوانين العلمية ) يجوز الاختيار من بينها جميعا ، ببذل جهد عقلي يعتمد الاستنتاج والاستدلال والقياس والإجماع والاجتهاد ، حيث لا يجوز تطبيق حكم في غير مكانه وظرفه وشروطه ، أو بعكس المقاصد العامة والحكمة الكلية التي تجمع القرآن وتوحده ، وهو ما قام به الإمام الأول أبو حنيفه ليتراجع عنه فيما بعد بقية الأئمة تباعا ، وليسود نوع مدرسي من الدين والفقه يتصف بالأحادية النمطية القانونية التي تختار الأشد وتعطل الباقي وتلغي التنوع والرحابة والابداع لصالح الإتباع والتقليد ( مبرَرة بخشية الفنتة والاختلاف ، ومشرعِنة نزعة الاستبداد ) . فينشأ التيار الصوفي المتسامح كرد فعل شعبي على ذلك ، لكنه يبقى خارج الشرعية الرسمية المعترف بها ، ويستمر التدين الشعبي الفطري بعيدا عن هذا التدين الرسمي حتى العصر الحديث ، حيث ساد نوع واحد مرخص له هو الإسلام المدرسي الرسمي .

حوربت مبكرا القراءة الفلسفية العقلية ، لصالح العلمية التعبدية ، فضاعت الحكمة الكلية التي هي أساس الرسالة ، والحكمة تعريفا ليست المعرفة ولكنها فلسفة هذه المعرفة بعد ربطها بالقيم … حيث قال تعالى :

{ وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ } (سورة النمل 77)

{ الم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ } (سورة لقمان 1 – 3)

{ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ } (سورة البقرة 269)

الحكمة هي القدرة على الحكم في القضايا المختلفة ، بحيث لا نجد تناقضا بين الأحكام المتباينة الواردة فيه ، والتي تسعى لتغطية التنوع في الشروط ، والتكيف مع المتغيرات ، مع الاحتفاظ بوحدة المقاصد والغايات .

{ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ } (سورة آل عمران 7)

إذن هناك تباين جدي في عملية قراءة القرآن تبعا للعقل القارئ، وبشكل خاص هناك تباين واضح وجلي بين عقل علمي وعقل أدبي ، والذي ساد رسميا في قراءة واستعمال القرآن الكريم هي مناهج العقل العلمي ، فقلصته من سوية الكل والحكمة والهدى لسوية القانون الصارم المقطع لأجزاء منقطعة عن غاياتها ، وحرمت القارئ من حرية التفكير والابداع ، وحولته لمجرد آلة تنفيذ عمياء  تنفذ مقاطع وأجزاء يتم التركيز عليها دون غيرها ، وبغض النظر عن سياق الحكمة الكلية ، وهذا ما فتح بوابة الانحراف والغلو والتطرف، وأنتج نوعا جديدا من الإسلام العنيف الترهيبي ، يستشهد على صحته بنصوص صحيحة ، لكن بعد فصلها عن سياقها وظرفها ونسبيتها لتصبح مطلقة صالحة بحذافيرها وحرفها لكل زمان ومكان ، و يشرعن إبطال كل ما عداها أو خالفها ،  ويغلق باب تطويرها بما يتناسب مع تطور الحياة . ليصبح القرآن أداةً لإلغاء العقل أو تحريمه ، لا يحتاج العمل به للعقل النقدي . بل يحتاج لمجرد السمع والطاعة ، باعتبار أن القرآن كتاب علوم جامع لا ينقصه شيء ، مع أن الله يقول :

{ وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا } (سورة الإسراء 85).

{ قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا } (سورة الكهف 109)

إن وجود تباين في الأحكام دفع العلماء الذين حاولوا استنباط شريعة محددة جاهزة من القرآن لتبني نظرية الناسخ والمنسوخ لتجنب ذلك التباين، فاعتبروا أن الحكم الأشد أو الذي نزل آخرا ينسخ الأخف منه أو الذي نزل قبله ( وبرروا إلغاء السابق تنزيلا بافتراض حجة التدرج بالأحكام  في زمن التنزيل ) وهو ما يفتقر للأساس منطقيا حيث يفترض أن القرآن في اللوح المحفوظ ، ومع ذلك برر الفقهاء لأنفسهم فعل النسخ والانتقاص من الكل  محرفين دلالة الآية التالية:

{ مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } (سورة البقرة 106)

مع أنها نزلت بصدد موضوع آخر هو نسيان  أو ضياع بعض الآيات ، أو حذف بعضها بعد نزولها ، كالتي وردت في سورة النجم بعد الأية 20 ثم حذفت { أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) }  وأتبعت ب ( تلك الغرانيق العلى ، وإن شفاعتهن لترتجى ) والتي أُمِر الرسول بحذفها بدلالة الآية :

{ وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا } (سورة الإسراء 73 – 74)

أي أن الله هو من يقوم بفعل النسخ ، وهو من يحفظ الذكر ، لذلك الأصح أن نعتبر كل ما نزل ولم يحذف بأمر من الوحي ذاته ، أي كل ما ثبته وجمعه مصحف عثمان هو أصيل في صلب القرآن ولا يجوز نسخه لا نصا ولا حكما … ومع ذلك طور الفقهاء مجاز معنى (النسخ) وغيروا فاعله المحدد بنص الآية وهو الله ، واستخدموه هم لإلغاء أحكام العديد من الآيات المثبتة في المصحف والتي تتناول مواضيع معينة من وجهات نظر مختلفة وبحسب اختلاف الظروف والحالات . فألغوا التسامح والوسطية وأنتجوا التشد والغلو ، بالتوافق مع السلطة والاستبداد … مثالنا هنا ما ورد في آيات الخمر :

{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ } (سورة البقرة 219)

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ } (سورة النساء 43)

{ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91 } (سورة المائدة 91)

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } (سورة المائدة 90)

وهي كلها آيات مدنية أي نزلت بعد قيام السلطة والتمكين … فكيف نطبقها جميعا ، كيف يحكم على الخمر من باب الضرر والنفع وهو ما ينطبق على المباح ، وكيف يمنع المؤمن من الصلاة وهو سكران مما يفهم منه أنه مباحا في غير وقت الصلاة أو دون مستوى السكر … وكيف يكون الخمر رجسا ، كل ذلك ورد في كتاب منزل واحد ومحفوظ ؟  وهو ما يطرح إشكالية جدية ، لم يجدوا لها حلا غير النسخ ، ولم يقبلوا بفكرة  أن لكل حكم ظرفه وشرطه ( فهذا يفتح باب الفرقة والاختلاف والإبداع والحرية التي تتناقض مع مصالح الحكام والفقهاء المتحدة المتعاضدة ) ، لأن السؤال المنطقي الذي قمع هو : أين ومتى يكون مكروها وأين ومتى يكون رجسا ، أو ما شروط اقامة حد الخمر ، وما علة ذلك ، هل هو السكر وتضييع العقل ، أم فعل تهديد السلم الذي حدث بسببه وجعل منه رجسا ، وهل نعتبره نجساً بنوعه عملا بقاعدة ما أسكر كثيره فقليله حرام ؟ هل يستمر التحريم بغياب العلة وهي السكر ؟ ماذا لو استعمل بالأدوية والطعام دون أن يحدث السكر ؟ … هذاه واحدة من كثير من المسائل التي تحتاج لإعادة تفكير وتقييم ، و ما ينطبق على قضية الخمر ينطبق على مواضيع أخرى كلباس المرأة ، وتعدد أنظمة الزواج ، وشروط القتال ، و طرق الأمر بالمعروف ، ونشر الدعوة ، وأنظمة الحكم ، ونظام القضاء ، وتطبيق الشريعة …

من ذلك نتبين أن استخدام العقل العلمي في قراءة القرآن قد اجتزأ منه فعليا ، وخالف طبيعته الأدبية الفنية ، واختزل تنوعه ، وتتشدد به ، وخرج عن وسطيته واعتداله ، وكرس حرمانية العقل ، وبطلان الحرية والإبداع ، وأسس لظاهرة الغلو والتكفير والإرهاب ، وبرر الشمولية والاستبداد ، وقد ظهر ذلك بوضوح حديثا مع تعمد استخدام الدين كآيديولوجيا سياسية تهدف للوصول للسلطة.

لقد تزاوج الفكر السياسي الإسلامي التحديثي العلمي العقل  (الإخواني كنموذج ) مع الفكر السلفي الاتباعي الموروث والمتزايد تشدداً (الحنبلي – الوهابي كنموذج )، والذي يرى الأصل في الدين هو الماضي ، وليس الأصل في الجوهر المتجدد الأشكال ، ولّد هذا التزاوج نوعا من السلفية الجهادية السياسية العنيفة التي نشأت عليها ظاهرة الإرهاب ، وصارت صفة من صفات الإسلام ، لا يستطيع الكثيرون التمييز بينها وبينه ، بل طغت على الخطاب الديني والتدريسي بشكل متزايد مع شيوع استخدام العقل العلمي وتقدم أدوات الطباعة والنشر ، و لم يتمايز نمط فكري فلسفي للاسلام المعتدل حتى الآن … وهو ما نسمع عنه ونشعر به دون أن نفهم بالضبط ما هي الفروق الفقهية والعقلية التي تميزه عن الفكر المتشدد والمتطرف الذي ينتج ظاهرة التكفير والاستبداد والإرهاب باسم الإسلام ، والذي هيمن على الربيع العربي وولد موجة عداء وخوف من الاسلام عند كل الدول، التي تستنفر لإعلان حربها على الإسلام من دون تمييز ، فهذا التمييز غير واضح للمسلمين أنفسهم فكيف يكون واضحا لغير المسلمين .

المسلمون اليوم أمام خيارات صعبة ، فالمسلم المعتدل اليوم تعريفا هو بكل أسف نصف داعشي يطبق نصف أوامر الإسلام المدرسي ، لذلك هو بحكم المقصر والمرتد المباح دمه ، أما إذا طبقها كلها وفق المنهج العقلي السائد فسيكون داعشيا مباح دمه أيضا ،  والسبب ليس كون هذا المنهج يطبق فعلا كل القرآن ، بل بالعكس : السبب هو اجتزاء وحذف كل ما يعطي الإسلام صفة الاعتدال ، واختيار ما يناسب الاستبداد والعنف  ونسخ ما تبقى ، وهو ما وضع الدين الإسلامي على تناقض وجودي مع العصر ومع الآخر  ومع طبيعته التي نزل بها ، ووضع المسلمين في مأزق حقيقي ذاتي ومع الآخر .

فالمشكلة كما نشخصها ليست في القرآن الكريم بل في العقل الذي يُقرأ به ، وأي اصلاح ديني (أصبح ضروريا ) يجب أن يتناول العقل الذي يستخدمه علماء الدين ويكرس تشويهم للإسلام ، خاصة وأنهم يحرسونه بالترهيب المعنوي والمادي . ولا يستطيعوا الخروج من أسر ترهيب بعضهم البعض ، من دون مد يد المساعدة لهم من خارجهم ، وهو عمل الفلاسفة والمناطقة ، واختصاص علماء اللغة والقراءة والدلالة والأدب والمجاز والبيان وهي العلوم الإنسانية التي تطورت كثيرا في القرن الماضي ، وحان وقت الإفادة منها في تصحيح العقل الذي يفهم به رجال الدين وغيرهم هذه الرسالة السماوية،  التي ستستمر هدى ورحمة على مر العصور

فالقرآن كما نزل بكله وبما يحتويه من أمثلة تطبيقية متناسبة مع لبه، منفتح على تغير الزمان والمكان والظرف في سياق الهدي العام الذي جاء به ، كما أنه لا يغلق باب استخدام العقل والابداع ، في سياق كليته التي هي حكمته:

{ طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3) تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَا (4) الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } (سورة طه 1 – 5)

{ وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } (سورة الأَعراف 52)

{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ } (سورة يونس 57)

{ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } (سورة يوسف 111)

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.