جنيف …4… عربات بلا أحصنة

د. كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبوانيذ

سوف نفترض جدلا أن الوفدين المجتمعين في جنيف قد توصلوا بقدرة قادر لاتفاق … هل بمقدورهم أن ينفذوه ؟ هل المعارضة أو النظام يتحكمون بما يجري على الأرض ؟ أو حتى يتحكموا بأنفسهم !! … إذن ما هي الجدوى من هكذا مؤتمرات ، بل ما هو الهدف الحقيقي من هذا المسار ؟

بعد سنوات من الحرب في سوريا والتدخل الدولي الواسع فيها، أصبح كلا (النظام والمعارضة) عمليا في وضع الإهتراء ، بنتيجة سياسة الاستنزاف والإحتواء التي اتبعها الغرب … حتى صار القرار في الصغيرة والكبيرة خاضع للآخرين الذين يتحكمون بالدعم الشحيح الذي يتعيش عليه السوريون المثخنون بالجراح على طرفي النزاع.

عام 2013 صمم جون كيري مسار جنيف لتغطية سياسته السلبية تجاه سوريا : (استنزاف وإحتواء وتوريط أكبر عدد من الخصوم في الصراع الدائر في الساحة السورية) ، وإحداث أكبر قدر من الدمار والخسائر في كل الأطراف ، التي ستُمنع وفق هذه السياسة من تحقيق نصر عسكري… والسبب المزعوم هو عدم وجود البديل المناسب لأمريكا بين القوى المتصارعة.

بداية الثورة تخوف المهيمنون على المنطقة من سقوط النظام ( الشيطان الذي نعرفه ونمسكه من أذنيه ) وخروج بديل غير معروف أو غير مضمون ( شيطان منفلت لا نعرفه) ، فسمحوا للنظام باستخدام أجهزته القمعية لسحق الثورة ، تسلحت الثورة لتحمي المدنيين … فسمحوا للجيش بقتالها لتدمير (الثورة والجيش معا ) يومها لو حركت أمريكا بارجة واحدة من أسطولها لما تجرأ النظام على زج الجيش ( خاصة بعد تدخل الناتو في ليبيا ) ، وهكذا تحولت الثورة تدريجيا بسبب سوء الظروف وقسوتها لقيادة الجهاديين الإسلاميين الذين تبين أنهم قادرون عسكريا على اسقاط النظام وهزيمة جيشه بأسلحة بسيطة بسبب ما يحملوه من روح قتالية نادرة ، فسمحت أمريكا لميليشيات ايران بالتدخل لمواجهة الجهاديين السنة ، ولاستنزاف ايران أيضا ، وعندما فشلت ايران في هزيمة الجماعات الإسلامية بالمواجهات البرية ، وانكفأت تركز على ترسيخ وجودها في مناطق معينة ، جرى غض النظر عن تدخل روسيا وهمجيتها لمساعدة النظام وايران من الجو على هزيمة الجماعات الجهادية، التي تحولت للخطر رقم واحد عالميا ، بينما تحوّل النظام المجرم لحليف لا بد منه لهزيمتها ، وعندما بدأت المعركة الحامية تميل لصالح النظام بسبب سياسة الأرض المحروقه التي اتبعها الطيران الروسي  ضد مناطق المعارضة ومدنييها ( وهي كلها جرائم حرب وفق معاهدات جنيف الأربعة ) … بدا واضحاً أن انتصار النظام المهترئ هو في الواقع انتصار للنفوذ الإيراني الذي يتحكم بالأرض ، ويجري تغيير سكاني ، ويحضر لإعلان سيطرته على وسط وجنوب سوريا ، وبالتالي يدشن تحول ايران لدولة عظمى …

وهكذا دخلت سوريا في نفق مظلم لا ضوء فيه ، بسبب سياسة أوباما وكيري الذين اختاروا ألا يفعلوا شيئا، و موّهوا على هذه الاستراتيجية السلبية بدخان الحل السياسي المزعوم كخيار وحيد ومستحيل ، عبر اختراع مسار جنيف الذي صمم ليفشل، عندما جُرّ الطرفين المتنازعين للتفاوض على زوالهما معا ( انتاج سلطة انتقالية تستبعد كلاهما ) ، بتجاهل تام لعناصر الصراع وأسبابه ، و القوى القادرة على فرض حل …

إنها سياسة المستهتر المفلس الذي لا يريد فعل شيء ولا تحمل أي مسؤولية ، ما نما وترعرع بنتيجها ، والذي استفاد أكثر من غيره : هم قوى التطرف السني والشيعي ، والذي انتصر في النهاية ليس الخيار الذي تنتظره أمريكا العاجزة ، بل الفوضى العارمة والجريمة التي ترافقت مع تحول سوريا لدولة فاشلة منكوبة ومقسمة ومحتلة، وانتصر النظام الإيراني الذي بات على وشك احكام قبضته على دول الشرق الأوسط كلها ، والتمدد نحو دول الخليج العربي التي تنتظر دورها في زعزعة الاستقرار ، بينما شعرت اسرائيل أنها أصبحت تحت التهديد والابتزاز الذي ستستخدمه إيران للجم أي تدخل دولي محتمل لانقاذ دول الخليج الحليفة تقليديا للغرب، عندما ستطلق حشودها الشيعية باتجاه مكة المكرمة رافعة شعار القدس السليب ، ورايات المهدي الصفوي المنتظر على بحور من دماء السنة …

سياسة الاستنزاف المزدوج (الذكية ) هذه اعتمدتها الإدارة الأمريكية لأنها معدومة التكلفة أمريكيا ، ولا يهم لو كانت باهظة السعر أخلاقيا وانسانيا وعالميا ، و لو دفع  ثمنها الشعب السوري أعز ما يملك ( والذي لم يكن له اعتبار في تلك السياسة ) ، في النتيجة أدى هذا الذكاء الأمريكي ليس لاستنزاف الخصوم كما ادعى ، بل أدى لاستنزاف قوى الاعتدال وحلفاء أمريكا ، وهزيمتهم لصالح الأعداء الذين استعادوا السيطرة على الشرق الأوسط : أقصد قوى التطرف ، وروسيا وايران ، ومن ورائهما العدو الأكبر للغرب ( الصين ) ، والذين انقلبوا بعد انتصارهم العسكري على مسار جنيف ذاته ، وابتدعوا مسار الأستانة الذي يكرس نصرهم العسكري واستسلام المعارضة ، ويفرض وضع يدهم منفردين على سوريا كأمر واقع ، مما دفع الغرب للمطالبة بالعودة لمسار جنيف الدولي ، فقط لقطع الطريق على تكريس هيمنة روسيا وايران بعد أن أجروا بعض التسويات المخادعة مع تركيا على حساب المعارضة السورية .

فالمطلوب اليوم غربيا هو مجرد انعقاد جنيف على أمل اغلاق باب الأستانة الذي فضح سياساتهم … لكن الروسي والإيراني لن يتوقفوا عن سياسة فرض الأمر الواقع ، وسيستفيدوا كثيرا من الوقت الذي يقدمه هذا المسار الفاشل تصميما . وبالتالي لن يمانعوا متابعته … لذلك نقول قد ينجح جنيف بالانعقاد ، لكنه لن ينجح في تحقيق أي من الأهداف التي يدعيها ، بل سيكون فشله أكبر دعم لمسار الاستسلام في الأستانة الذي سيتابع عمله المعتاد .

يصبح إذن على إدارة ترامب أن تعيد النظر جذريا بالسياسة التي ابتدعتها الإدارة السابقة ، وأول ما ستفكر فيه هو التفاوض مع الروس لتحصيل تسوية مقبولة ، وهو ما تخطط له روسيا وتنتظره ، لكن أمريكا ستفشل في تحقيق صفقة مع روسيا لأن روسيا غير قادرة على إخراج إيران من سوريا ، وأعلنت أنها لا تستطيع وليست في وارد تشكيل ضغط لتقليص النفوذ الإيراني، لذلك لا يبدو أن التفاوض مع الروس سوف ينتج عنه سوى الاتفاق على تقاسم النفوذ ( أو على استراتيجية المناطق الآمنة التي سيدعمها ترامب ) ، والتي ستستفيد منها ايران أكثر من غيرها لأنها تسيطر عمليا على وسط وجنوب سوريا التي هجر نصف سكانها ، والتي ستترك أيضا مناطق آمنة للمنظمات الجهادية ، وتقدم لها فرصة البقاء والانتشار كلاعب هام في المنطقة التي أصبحت على كف عفريت …

في الواقع لم يبق أمام المعنيين بالاستقرار غير استراتيجية واحدة ايجابية لكنها مكلفة : هي تشكيل حلف سياسي عسكري هدفه الوقوف في وجه النتائج الكارثية التي أفضت إليها سياسة الإدارة الأمريكية السابقه … وبشكل خاص تحجيم دور ايران التي هيمنت على الشرق الأوسط  بواسطة الحروب والمجازر وزعزعة الاستقرار ، ومعالجة حالة انتشار وازدهار التطرف السني الذي اجتاح دول وشعوب المنطقة وصار هو الجواب الوحيد المتوفر على الظروف التي وضعت بها تلك الشعوب …

وعليه فإن مسار الحل في سوريا لا يمكنه أن يبدأ بحوار سوري سوري في جنيف أو الأستانة ، بل بحوار دولي بين واشنطن وموسكو وتل أبيب ، مرورا بباريس ولندن واستانبول والرياض ، مع الأخذ بعين الاعتبار أنه قد يحتاج لتدخل عسكري من كل هؤلاء … أما الشعب السوري المحطم الذي لم يعد له دور في تقرير مصيره فعليه انتظار جيوش الدول العظمى لتحسم الحرب وتعيد له دياره وحياته كي يستطيع أن يستعيد دوره ، لكن (قبل ذلك أو بدونه ) ليس لديه خيار غير تنظيم نفسه بطريقة فعالة ، أو متابعة لعبة الفوضى والتخريب  وخلط الأوراق والمقاومة بكل أشكالها بما فيها التطرف والتشدد ، لمنع ايران وحلفائها من استخدام تفوقهم العسكري لتكريس هيمنتهم السياسية ، وهو ما تكفل مسار الأستانة في تحقيقه عبر جر الفصائل لهدن والمناطق المعارضة لمصالحات .

أي أنه لا أمل يرتجى في أي حل من دون تحقق أمرين : فعل مجتمعي سوري منظم ، إضافة لتدخل دولي جدي ( بدأنا نسمع عن مشاورات تجري من أجله وراء الكواليس ) ، ولا فائدة إطلاقا من أي اجتماعات أو تفاوض بين وفود ذوي الاحتياجات الخاصة التي تدعى للمرة الرابعة في جنيف …لتجتمع في ساحة الأمم عربات (دفش)  معطلة ينقصها الأحصنة لا تستطيع الحركة على أي مسار …

أما السوريون  فلم يعودوا  يهتمون بمن يكون في وفد المعارضة ، فالنظام يفاوض نفسه ، بعد أن فرض شروطه كاملة في بيان موسكو وقبله في بيان فيينا ، وتدخل حتى في تشكيل وأسماء وفد المعارضة التي عليها منذ الآن أن تستمع لمحاضرات الجعفري عن الوطنية .

لذلك تصر الدول المهيمنة على تشكيل وفد المعارضة من مندوبي وعملاء علي مملوك ، لأن ذلك يسهل بنظرها الحل السياسي المنتظر عجل الله فرجه .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.