الفتاوى الدينية والاستبداد السياسي

د. كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

لا يخفى على أحد محاولة السلطات الحاكمة السيطرة على المؤسسة الدينية ، وكيف أصبحت هيئات العلماء ودور الافتاء تابعة مباشرة لشعبة الأمن السياسي – قسم الأديان… أو بطريقة غير مباشرة لل   CIA  و   MI6 و KGB …  لا فرق … فأكثر مهنة مجزية ومربحة فيها المال والجاه والعز والرفاه ، ولذة المقام وطيب الطعام وحسن الختام ، هي مهنة الشيخ رجل الدين الذي يملك شرعية الافتاء ، يحتكر لنفسه الدين والدنيا ويترك لغيره اما الاتباع والطاعة ، أو السجن بتهمة الكفر والإرهاب … مشاركا باسم الدين في أنظمة الاستبداد والسيطرة … ولا يغير من هذا التحالف التاريخي بين رجال الدين الرسميين والسلاطين بعض الشذوذات التي حصلت هنا وهناك بين فترة وأخرى ، فالأصل هو خضوع رجال الدين للسلطان وليس العكس، نادرا ما كانت الفتوى تعيق السلطان ، لأن السلاطين يتحكمون بالقوة والثروة التي تتفوق عادة على المعنى والقيمة الخلقية ، ولأن الرقابة العامة على الشأن الديني غير ممكنة بالنظر لاتهامها الدائم بعدم القدرة على فهم الدين وتفسيره الذي يبقى محصورا بالعلماء الفقهاء المختصين بأمور الدين .

نحن نعترض على حرمان الشعب من حقوقه ومصادرة حريته السياسية باسم القداسة وبالتعاون بين المستبد ورجال الدين … وعلى سيطرة الحكام على مؤسسة الافتاء ، ونعترض على الفتوى كمبدأ يكرس تسييس الدين ، ويحول المواقف السياسة العابرة لجزء لا يتجزأ من هذا الدين ، من خلال الفتاوى التي تراكمت فوق بعضها على النصوص الأصلية وغطت عليها .

منذ القديم تنازعت على السلطة الاجتماعية المدينية سلطة الغلبة والقهر مع سلطة القيم والرموز المقدسة … وسرعان ما طوعت السلطات التي تتحكم بالقوة والثروة السلطات الدينية وجيرت القداسة لصالحها ، فأساس الملكية هو القوة والقدرة على الاستحواذ ، وليس الحق الذي لا يصبح سيدا من دون قوة تحرسه … على الدوام كان الملك القوي الذي يستولي على السلطة والثروة  يعتبر وكيلا للآلهة وتجسيدا لسلطتها ، التي تجمع الناس في نظام موحد كجسد اجتماعي متكامل… فالمدنية (أي الحضارة والعيش الحضري ) هي المجتمع الذي يدين بنظام قيمي مقدس يحرسه ملك مالك للأمر والقوة ، كجزء لا يتجزأ من نظام الكون الذي تحرسه وترعاه الآلهة ، والدين هو ما دان له الناس طوعا وايمانا من قيم وآلهة ممثلة بكهنة ورجال دين … ولا يمكن تصور مجتمع مديني حضري بتكوينه المعقد من دون مقدس ودين وشريعة تحكم البشر المختلفين وتجمعهم وفق نظام ، تشرف عليه سلطة تمثله وتجسده ، فالدين جزء مكون في كل الثقافات والحضارات، والسياسة هي الأساس الذي تقوم عليه الدول ، والعلاقة بينهما أي بين الدين والسياسة كانت على الدوام علاقة شراكة ملتبسة .

رغم أن الاسلام لم يأمر أبدا بوجود رجال دين ، واعتمد القرآن العربي الواضح كمرجع نصي ، ورفض فكرة تمثيل الله ، واعتبرها من الشرك والطاغوت والعودة لعبادة الأصنام والبشر … لكنه وبعكس ذلك منذ تدوين القرآن ، نشأت مهنة القارئ الذي يجيد القراءة في مجتمع أمي ، وتطورت هذه المهنة مع الفتوحات في المناطق غير الناطقة بالعربية للشارح والمعلم ، ثم للمفتي . فمن لا يجيد اللغة لا يستطيع استنباط الأحكام ويحتاج لمشورة رجل عارف غيره. وتطور عنها مفهوم شيخ الجامع الذي يجيد القراءة والصلاة ، ليصبح هو مفتي المصلين ومرجعيتهم الدينية ، وهكذا تطورت مهنة علماء الدين وتمايزت وصارت مؤسسة رسمية لها وقفها ومدارسها وتسلسلها الهرمي كما في المسيحية تماما … واستمرت حتى بعد أن كتبت الكتب الفقهية باللغات المختلفة ، و بعد تطور الطباعة وتعميم الكتاب ، والانترنت والترجمة … بل إن ذلك قلص وظيفتها الإرشادية لحساب وظيفتها القيادية والسياسية ، وساهم أكثر وأكثر في تسييس الدين ورجاله .

الشيعة عادة وبسبب نمط تنظيمهم الاجتماعي ( ديني اقتصادي سياسي موحد .. يشبه الكنيس المسيحي التاريخي الذي له أب روحي، والذي جمع كل من لا تربطهم روابط الدم البطريركية في أخويات دينية اقتصادية اجتماعية كنسية) لا يفصلون بين سلطة الدين وسلطة السياسة ، ولا بين الدين والاقتصاد فكل مجموعة لها مرجعية تنظم أمورها ، السلطات الدينية والسياسية والاقتصادية موحدة بشخص متّبع ومقلد كإمام ولي فقيه … هو رمز وحدة الجماعة، ضمن نظام بطريركي اقطاعي لا يعتمد أخوة الدم القبيلة بل أخوة الايمان، فنمط الاقطاع عندهم هو نمط من الإقطاع الديني السابق للعصر الرأسمالي، موجود عند المسيحية والشيعة و عند الصوفية بطرقها المختلفة ، وبقي سائدا حتى تشكل المجتمع المدني والنظام الطبقي ، و قامت الدول الحديثة التي تربط كل مواطن مباشرة بها، التي قلصت دور الترابط الأهلي لصالح الترابط المدني والمؤسساتي … لكنها عند الشيعة استعارت النظام القديم وطبعت به طابع الدول الحديثة الدينية وأقامت لنفسها دولة ولايه الفقيه ، الذي ألغى دور السلطان واحتل مكان كسرى . ( نظام الثورة الاسلامية في إيران ) .

بينما السنة الذين يتكونون على الأغلب من عشائر لديهم نظامهم القبلي الذي يحفظ لهم تمايزهم ضمن الدولة، أو من التجار والحرفيين والمزارعين في المدن الذين يعتمدون على سلطة ملك المدينة ذاتها أو سلطانها … فهم يفْصلون عادة بين سلطة الملك الذي يعتمد في ملكه على القوة الغير مستقرة أساسا (ابن خلدون) ، وبين سلطة الدين الذي يهتم بالشأن الاجتماعي والأخلاقي، وبين النشاط الاقتصادي وسلطة المال المتحررة من كل ذلك، البدو وهم أساس قوة وعزوة السلطان لا يقبلوا بسلطة رجال الدين فلديهم مشايخهم القبليين وعرفهم الصارم ، والتجار الذين يسرعون للمساجد والتبارك بالشيخ يريدون منه إعطاء الشرعية لكسبهم خوفا من الغوغاء ، وحمايتهم من تسلط السلطان ، ويريدون من السلطان أن يحرس ثرواتهم من العامة والطامعين بتقديم المال له ، وهكذا لم يكن مقبولا توحد السلطات معا، الذي قد يستخدمه الحاكم ليعطي لقراراته السياسية طابعا مقدسا ويشرعن الاستيلاء على الثروة، متحولا لطاغوت يفسد حياة مدينته ، التي كانت بسبب نظامها المتمايز هذا، القائم على الفصل بين السلطات هي النظام الأرقى الذي جعلها تقود الحضارة في كل القرون الوسطى قبل العصر الرأسمالي. فمسألة العلمنة غير مطروحة عند السنّة لانفصال الدين عن ساحة السياسة في كل التاريخ السني منذ معاوية وحتى نهاية الخلافة العثمانية . والتي استمرت أيضا بعد التحول الرأسمالي الحديث وقيام الدول الإسلامية المعروفة اليوم كدول علمانية التكوين حتى لو كانت تطبق الشريعة … إلى أن ظهر نمط جديد من الاسلام السياسي السني يعتمد الطريقة الشيعية في دمج السياسي بالديني . يريد أن يلغي دور السلطان ويعطيه للشيخ الذي يتحول لإمام قائد .

احتاجت أوروبا الاقطاعية لثورة اقتصادية وسياسية وثقافية كي تفكك المجتمع الأهلي الاقطاعي الكنسي المتداخل مع الدين، و تبني بدلا عنه المجتمع المدني الطبقي ، الذي اشترط ابعاد رجال الدين عن السياسة … و أتاح لأوروبا تحقيق قفزة سياسية واقتصادية وعقلية جعلتها في مقدمة الحضارة ، بعد أن بقيت هذه الحضارة بقيادة المدنية السنية طوال العصور الوسطى كأرقى اجتماع انساني في عصره.

هناك اليوم من يدعوا لتطبيق الدين الذي لا يرى أنه مطبق منذ 14 قرن ، في كل المراحل التي سيطر فيها المذهب السني على الخلافة الاسلامية  ( عربية 600 سنة  و تركية 500 سنة  ) ويبتدع طرق تقلد الشيعية السياسية … تهدف لإقامة ولاية الفقيه، وإدخال القرارات والمصالح السياسية في صلب العقيدة عبر فتاويه ، التي تستعمل كأنها استمرار للوحي الذي انقطع واختتم…

لذلك نرى اليوم أن ألد أعداء الاسلاميين (وليس المسلمين) الطامحين بشدة للسلطة الدنيوية باسم الدين… هي العلمانية التي تحرم رجال الدين من أي سلطة سياسية وتفصل بينهما، مع أن ذلك هو ما ميز المذهب السني المديني تاريخيا، بما فيه الصوفي ، والمسيحي الشرقي أيضا .. عملا بقول المسيح : أعط ما لقيصر لقيصر، وما لله لله… فالإسلاميون الجدد يربطون العلمانية والدولة المدنية  بالكفر بمقدار ما يقلدون المذهب الشيعي سياسيا ، مع أنها ضمانة لتحرر الانسان في علاقته مع ربه من سياسات الحكام ومصالح الفقهاء المنتفعين على موائدهم، وتعطي لكل متدين الحق في التعبير عن دينه بخياراته السياسية الحرة ..  فالإسلام السياسي السني الحديث ينهل من مناهل الفقه الشيعي ويقلده ، ولا يعتمد على التأصيل التاريخي لمذهبه ، بل يشكل حالة انقطاع عنه .

الله سبحانه وتعالى قد ارتضى لنا هذه الرسالة ، وحفظها للأجيال القادمة ، وطالما أن الله لم يفرط في الكتاب من شيء، وطالما أننا نملك العقل ونعرف اللغة ونستطيع الوصول لأي معلومة مترجمة ومشروحة عبر النت … لذلك نستغرب منهم كثرة الكلام وحشر الأنوف واصدار الفتاوى التي تخص هذا الشأن أو ذاك ، بما فيها الشأن السياسي جوازا وبطلانا … ألا يهدف هذا لمصادرة حقوق الناس في التفكر والاختيار الحر ، باسم العلم الذي يتحول لوسيلة استبداد عندما يصاغ على شكل أحكام وليس رأي واجتهاد بآلية الفتوى… ويحرم الناس من حقهم في اختيار سياسات دولهم و سياسييهم ومحاسبتهم… ألا يجعل هذا من العلمانية شرطا للحرية وللديمقراطية، وليس كما يُدّعى مرادفا للكفر…

لذلك نرى كمسلمين سنة أن كل عالم (رجل دين) هو مجرد مجتهد يقدم رأيا وشهادة لا يجوز أن تسمى فتوى دينية شرعية … لكي لا يتم دمجها بالحديث والكتاب وتصبح جزءا من الدين، بل تبقى رأيا شخصيا يتحمل من يتبعه مسؤولية اتباعه، ولا تشفع له أمام الله ولا أمام القانون… حيث لا تزر وازرة وزر أخرى.

(إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَىٰ  )

حتى نقول أنه لا مخرج اليوم مما نحن فيه إلا بسحب الشرعية عن مهنة الفتوى، وتجريد رجال الدين من أي سلطة مقدسة تتجاوز حق التعبير بالتي هي أحسن (الكلمة)، أما إعطاء هذه الكلمة قوة تنفيذية وسلطة شرعية عبر الافتاء ومؤسساته، فهذا تخليد للعبودية والاستبداد عبر الاتباع الملزم المتسبب بالتخلف أولا، ثم في اتهام الدين بأنه هو سبب الارهاب .

{ وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (68) } (سورة الأحزاب 67 – 68)

شعار الحرية لا يعني فقط انتاج السلطات السياسية التي يرتضيها ويحاسبها الشعب ، بل يعني أيضا التحرر من الوصاية عليها من قبل رجال الدين ، والوصاية على الدين والكتب المقدسة والرسالات التي أنزلت هداية ورحمة للناس كافة ، فتم احتكارها وتجييرها لصالح التسلط والاستبداد بابتكار نظام الكهنوت الذي اندس في الدين الإسلامي ، وتحول لسلطة وصار يأمر وينهى بواسطة الفتوى التي تخدم الشراكة بين رجال الدين والحاكم المتغلب برعاية التاجر ، الذي يدس النقود في جيب الحاكم ويسرع للصلاة والتبارك بتقبيل يد الشيخ ، لتستمر تجارته التي لا تخشى الله. فتجريد رجال الدين من سلطة الافتاء هي من تساهم بتفكيك هذا الحلف المدنس الذي يكون أنظمة الاستبداد والتخلف وهي شرط لازم لانتصار ثورة الحرية والديموقراطية.

{ قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28) } (سورة سبأ 25 – 28)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.