لعنة الاستقلال وعودة الوصاية

د. كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

لقد فرح الشعب السوري بالاستقلال وبالعلم والنشيد الوطني ، فقام حماة الديار بتدمير هذه الدار وقتل وتشريد أهلها ، ولم يذهب الشعب إلى السؤدد بل للسويد ، وهو ذات الشعب الذي عارض مشروع أيزنهاور لملئ الفراغ في الشرق الأوسط . وتبنى في فترة الانتداب نزعة الوطنية مقلدا النظرية الغربية ، حيث يقارن فارس الخوري بين سوريا وفرنسا ويطالب بالمعاملة بالمثل في مقاعد الأمم المتحدة ، وهكذا وبصبيانية سياسية مفرطة تضخمت محاولات تحويل الكيان المنتدب لدولة أمة … سرعان ما أخذت شرعيتها بعد الحرب الثانية من الأمم المتحدة،  التي تبين أن استقلالها كان بمثابة كارثة حقيقية على شعبها الذي يتفقد الآن أشلاءه هنا وهناك بعد أن دمر وطنه وألغى امكانية العيش فيه.

بعد 25  قرنا من الحكم الخارجي الآشوري الفارسي الإغريقي الروماني ، ثم العباسي الفاطمي السلجوقي العثماني ، وبنتيجة الحرب العالمية الأولى وضعت (سوريا ) : [ منطقة من بلاد الشام (ذات الهوية العربية-الآرامية ) كان يسميها الروم : آثوريان بلد الآشوريين السريان ] تحت الوصاية الفرنسية ، في اتفاق سياكس بيكو الذي هدف لتقاسم مناطق النفوذ وليس رسم حدود لدول بمعنى الدول ، فلم يكن ذلك وارد بحسبانهما، فما رسموه هو خريطة تقاسم بينهما وليس حدود بين الأمم ،  ليبدو اليوم وبعد قرن على ذلك أن ما ردده المستعمر في وجه دعاة الاستقلال من عدم أهلية هذه الشعوب لتشكل دولا مستقلة صحيحا ، لكنه مع شديد الأسف بنتيجة الحرب العالمية الثانية أجبرت بريطانيا وفرنسا على إلغاء نظام الانتداب ، حيث اعتبر ذلك عنصرا أساسيا في اندلاع الحرب بين الدول المتقدمة ، وبذلك أعطيت هذه الكيانات المصطنعة المشوهة غير الناضجة استقلالها لتتصرف كدول مستقلة ذات سيادة سرعان ما سقط معظمها في أتون الاستبداد العسكري ، وتبنى النظام الستاليني ، وبعد تفككه سقطت في الفوضى وتحولت لدول فاشلة ، في حين حافظت بعض هذه الدول على أنماط حكم تقليدي قديم سلطنات لا تشبه أبدا مفهوم العقد الاجتماعي المؤسس للدولة الأمة الحديثة …

منذ اعطاء سوريا المصطنعة استقلالها وبعد اقتطاع أجزاء منها تباعا ، ومنذ أن أعلنت كدولة أمة عضوا في الأمم المتحدة ، مرت بمراحل من عدم الاستقرار السياسي منها الانقلابات والوحدة مع مصر ، ثم بخمسة عقود من الاستبداد العسكري الطائفي الذي انتهى بست سنوات حتى الآن من الحرب الأهلية الطاحنة التي قتل وشرد فيها أغلب أبناء الشعب … فصار الحل الوحيد المتاح لأنصار الحفاظ على خريطة سايكس بيكو ، وعدم الشروع في تغيير حدود الدول الذي سيفتح باب اعادة تكوين المنطقة تبعا للقوة العسكرية في غياب نظريات تعاقدية مقبولة ، هو عودة الوصاية على سوريا لكنها الوصاية المتعددة ، مناطق نفوذ متعددة لدول متعددة ، كوسيلة وحيدة لوضع حد للصراع الذي يبدو أنه لن ينتهي من دون فناء الشعب نظرا لعوامل داخلية تجد من يستفيد منها ويوظفها خارجيا …

فالقول أن الصراع في سوريا سببه خارجي ، صحيح من حيث أن بنية سوريا مصطنعة بطريقة يصعب فعلا أن تشكل حالة من الدولة الأمة ، لكن هذا الخارج ما كان يستطيع أن ينجح في افتعال الصراع الوحشي لولا العوامل الداخلية المناسبة … فلو سلكت الدولة التي تتحكم بها طائفة سلوكا مختلفا مع التمرد الشعبي عليها لما كنا نعيش اليوم في الشتات والمخيمات ونحلم بدخول قوات الناتو والجيوش الاستعمارية لتنقذ من تبقى من أهلنا على قيد الحياة … بعد أن استعان أشقاؤنا في الوطن بالميليشيات الإيرانية والهمجية الروسية .

فالصراع في سوريا وعليها ليس فقط خارجيا بل هو داخلي ، وليس طائفيا أو عرقيا ، أو طبقيا واقتصاديا بل هو صراع بين الجميع وعلى كل شيء ، إنه فشل النظام العالمي وفشل العقد الاجتماعي وفشل الدولة ، وقبل ذلك فشل الشعب في أن يشكل حالة مؤهبة لقيام الدولة … وهذا انعكس بشكل واضح على المعارضة والمناطق المتحررة من سيطرة النظام حيث انعدمت كل امكانية للعمل المؤسسي والجامع … مما جعل الدول المهتمة بانهاء الصراع تلغي كليا اعتمادها على الحالة الوطنية السورية ، وتتعامل مع السوريين بالمفرق وكأشخاص ، من دون أن تعتبرهم حالة سياسية ما … وهذا بسبب السوريين أنفسهم الذين لا يريدوا أن يتفقوا على أي شيء … فيبقى الحل الوحيد هو فرض الوصاية الدولية عليهم ، ولكن وبسبب نهاية عهد الانتداب تتهرب الدول المتحضرة من هذه المهمة . فتتنطح دول همجية لفرض احتلالها ومتابعة ابادتها للسكان وتقويض ما كان يوما ما اسمه دولة سوريا ، ماتزال تحتفل بعيدها الوطني وذكرى استقلالها المشؤوم …

الدرس الذي يجب أن نتعلمه من محنة سوريا أن تكوين الأمم لا يعتمد فقط على الجغرافيا التاريخية بل على الإرادة … على العقد الاجتماعي الثقافي الاقتصادي القادر على حراسة قيام سلطة ودولة قانون ومسؤوليات … وهذا يتطلب نظريات جديدة في مفهوم الدولة الحديثة يتجاوز مفهوم الدولة الأمة العنصري الأوروبي ، ويعيد تجديد مفاهيم الدول التحالفية التعاقدية التي قامت عليها الاتحادات التاريخية الكبرى في المنطقة بغض النظر عن الهوية القومية والطائفية ، بل بغض النظر عن التاريخ والجغرافيا التي لم تنفع في منع المذبحة السورية .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.