دلالات التعديلات الدستورية في تركيا

د. كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

أدبيا كان من الواجب انتظار صدور نتائج الاستفتاء احتراما للدولة التركية ، وحرصا على عدم التدخل في الشأن الداخلي لشعب شقيق ، إضافة للتنويه على أن ما أقوله هنا هو مجرد ملاحظات تخص النظام الرئاسي بشكل عام ، من دون أن يفهم كموقف من شخص الرئيس أردوغان وحزبه الذي نكن له كل المودة .

على ما يبدو أن نتيجة الاستفتاء قد عبرت عن المشاعر تجاه أردوغان وحزبه ، أكثر مما عبرت عن مضامين و مدلولات التعديلات الدستورية بحد ذاتها ، فقد كان مفهوما لعامة الشعب أن التصويت (بلا) هو معارضة لأردوغان والتصويت (بنعم) هو دعم لشخص أردوغان ، و يعبر عن الحاجة التقليدية الموروثة في الشرق لزعيم وقائد ، بالنظر لغياب التجارب الديموقراطية الناجحة …

السؤال المطلوب الجواب عليه : هل هذا التعديل يخدم فعلا قضية الديموقراطية المتعثرة في الشرق ؟

من حيث المبدأ لا يجوز اعطاء شخص صلاحيات دستورية واسعة خاصة إذا لم يكن بالإمكان محاسبته إلا بانتظار الدورة الانتخابية القادمة ، فالنظام الرئاسي خطير من هذه الناحية ، وطالما وجد أردوغان في قمة السلطة فالعيب لن يكون ظاهرا ، لكن في حال وصول شخص غيره سوف يجد أمامه فرصة مفتوحة لارتكاب الكثير من الأخطاء قبل أن يتمكن الشعب من ايقافه أو محاسبته ، فالرئيس المنتخب مباشرة من الشعب وبهذه الصلاحيات ليس كالحكومة التي تستمد شرعيتها من البرلمان ، الذي يستطيع سحبها في أي لحظة ، بل يستمدها من الشعب مباشرة بالانتخابات ، ويتوجب انتظار سنوات طويلة قبل العودة لسؤال هذا الشعب في دورة انتخابية جديدة . ناهيك عن أن عملية انتخاب شخص للرئاسة تخضع لحسابات ومعايير وشروط عادة ما تحرم الأكفأ والأكثر قدرة من الوصول بعكس المتوقع … فخيارات الناس العاديين لا تبنى على خبراتهم السياسية وتقييماتهم العلمية ، بل على عواطفهم وحدسهم الذي يسهل التلاعب به … في الكثير من الأحيان يتم التضحية بالمرشحين الأكفاء لكونهم اشكاليين وغير شعبيين ، من أجل تأمين أغلبية لمرشح بلا كفاءة ، لكنه ليس اشكاليا لذات السبب ، فالقاسم المشترك بين وجهات النظر المتباينة هو غالبا بلا لون ، خاصة إذا كانت مضطرة للتحالف معا في مواجهة خيارات أسوأ… وبالتالي من يصل للسلطة بالتوافق ليس خيار أي فريق ، بل خيار الضرورة التي تفرض نفسها على الجميع الذي ينتصر فقط بمقدار ما يتخلى عن خياره الحقيقي . مثلا خيارات الناخب الأمريكي تبقى محصورة عمليا في عدد محدود جدا من الأشخاص الذين تتوفر لهم فرص النجاح ، وغالبا ما يكونوا ممن ليس لديهم خبرة سياسية كافية للقيام بدور الرئيس ذو الصلاحيات الدستورية الواسعة.

فالأصح أن يكون النظام برلمانيا والرئيس فخريا ، وأن ينتخبه ويعزله مجلس شيوخ ولا ينتخب مباشرة من الشعب ، وأن تكون صلاحياته رمزية ومحصورة في سلامة عمل النظام وحسن تطبيق الدستور وحل الخلافات بين المؤسسات …

صحيح أنه هناك وزارات سيادية لا يصلح أن تتقلب سياساتها دوما ، بل يجب أن تكون فوق حزبية تعبر عن تكوين المجتمع الثابت وليس الحزبي المتقلب ( أقصد الدفاع والخارجية والعدل ) وهذه تعطى عادة للرئيس في النظام الرئاسي ، لكنها أيضا بهذه الطريقة تخرج خارج دائرة الرقابة الشعبية التي تحتاج لتفوض هيئة منخبة للقيام بذلك بدلا عنها … لهذا السبب هناك في الكثير من الدول غرفتين تشريعيتين واحدة تمثل الحالة الحزبية والطبقية ، وواحدة تمثل الهوية والمكونات الثابتة ( مجلس نواب وعموم ، ومجلس شيوخ ولوردات ) يقوم كل منهما بمهمات رقابية وتشريعية مختلفة طبقا لذلك ، يمكن لمجلس الشيوخ أن ينتخب الرئيس ويشرف على حسن تنفيذه لمهامه السيادية بدل أن يعطى تفويضا كاملا صالحا لخمس أو سبع سنوات من الشعب .

أما من حيث التطبيق فإن الاستفتاء وسيلة ديموقراطية شكلا ، لكنها قد تستخدم فعلا لتضليل النظام الديموقراطي ، عندما يتم الاستفتاء على أسئلة معقدة ، جوابها ليس نعم أو لا ، ولكن نعم إذا ، ولا بشرط … فموافقة الغالبية على التعديلات جملة ومعا لا يعني أنها الأفضل ، فلو سُئل كل فرد عن التعديلات التي يطلبها لربما أوصى بشيء مختلف ، وبالتالي هكذا مواضيع لا تحسم بالاستفتاء المباشر ، بل عبر لجان مختصة بكتابة الدساتير يختارها الشعب … لأن غالبيته لا تعرف معنى ومدلول هذه التعديلات ، ولا حتى مدلول البرامج الحزبية ، وعندما تصوت فهي تصوت على الثقة بشخص أو حزب وليس عن فهم ودراية ببرنامجه ، لذلك تعتبر الديموقراطية المباشرة وسيلة ديماغوجية لتضليل الرأي العام وحرف مسار النظام الديموقراطي في بعض الأحيان ، فالأصح عند النظر في أمور معقدة هو أن يطلب من المواطن اختيار خبراء يثق بهم ويفوضهم ، هم  من يسمون ويحاسبون ويصوغون القوانين والدساتير ، ويستمروا في مهمتهم هذه بشكل يومي ، بدل أن يسأل الشعب مرة واحدة كل أربع أو خمس أو سبع سنوات ، فوظيفة الانتخابات في الديموقراطيات ليست اختيار السياسات والأشخاص الحاكمين ، بل اختيار هيئة حل وعقد وتشاور وقرار مفوضة من الشعب وممثلة لسيادته ، يعاد تجديدها دوريا ، تشرف على هذه المواضيع المعقد التي تحتاج لخبرات وتمرس ودراية ، ولا يعقل أن نتوقع من الناخب العادي إدراك مدلولات الدساتير والبرامج الحزبية والاقتصادية ولا قدرته على التقرير فيها ( حتى البريطانيين العريقين في الديموقراطية قد اكتشفوا عشية الاستفتاء على الانسحاب من الاتحاد الأوروبي أنهم لم يدركوا نتائجه) … لذلك فالديموقراطية غير المباشرة أفضل وأصح وأكثر قدرة على اختيار الأكفأ من البرامج والأشخاص ومراقبته ومحاسبته وبالتالي على التعبير عن مصالح المواطن والوطن ، ونادرا في الدول الديموقراطية ما يتم اللجوء للاستفتاء .

في الشكل تظهر التعديلات الأخيرة على الدستور التركي كانتصار سياسي  شخصي لأردوغان ، لكنها قد تكون خطوة نحو الوراء في مسار الديموقراطية التركية ، في منطقة ذات تاريخ عريق بالاستبداد  الشرقي ، وذات ميل ثقافي كبير للنكوص نحوه ، نحن نخشى فعلا على هذه التجربة الفريدة لأننا ننظر إليها كدليل ومرشد في سياق سعينا للحرية والكرامة والحقوق …

أخيرا نطلب من الأخوة الأتراك المعذرة لأننا شعب معقد نفسيا من منصب الرئيس … ونعتقد أنه في سوريا المستقبل لن ينجح النظام الرئاسي ، لأن مليون شخص على الأقل يفكرون بالترشيح لهذا المنصب ، مما يحول العملية الانتخابية لمهزلة وهذيان جماعي . ولا بد من اعتماد نظام سياسي لا يقوم على الزعامة والقائد بل على مؤسسات القيادة المنضبطة المراقبة أي على النظام البرلماني ذو الغرفتين ، فهو الأصلح لشعوب ما تزال ثقافة الديموقراطية غير متجذرة فيها .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.