يثب

إفلاس الفصائل الإسلامية

الدكتور كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

يعبر اقتتال الفصائل الإسلامية المتزايد الوتيرة عن فشل المشروع الإسلامي الجهادي في التحول لنظام سياسي قادر على إدارة دولة ، وهذا ينسجم مع فشل مشاريع الدول الأيديولوجية بمختلف أنواعها ( كدول المعسكر الإشتراكي مثلا ، والدول القومية العربية) ، فالبرغم من وحدة المنهج والعقيدة والمذهب والآيديولوجيا والوسيلة وحتى شكل الذقن والشوارب ولحن الكلمات ، تنخرط الفصائل الجهادية في صراع مرير بين بعضها ، بل داخل كل فصيل ، فمرض تشرذم المعارضة السورية ظهر أيضا فيها بعد أن ادعت أنها هي معارضة الخنادق وهي من تحمل العقيدة والرؤية الربانية الصالحة لكل زمان ومكان ، بالمقارنة مع الأيديولوجيات الأخرى الملحدة والكافرة كالديموقراطية والعلمانية …

سبق لإفلاس المعارضة السياسية وجناحها العسكري ( الجيش الحر ) أن جير لصالح المعارضة الإسلامية الجهادية  وصب في رصيدها، حيث بدا لوهلة أنها ستلون مستقبل النظم السياسية في المنطقة بالصبغة الإسلامية ، ولكن وبالرغم من الجهود الكثيرة للتنسيق بين الفصائل  وتوحيدها بعد هيمنتها على الساحة العسكرية والإدارية في معظم المناطق المحررة والتي وصلت في فترة لحوالي  75% من مساحة سوريا ، فقد انتهت كل هذه المحاولات للفشل الذريع ، حيث ظهر بضوح طغيان تضارب المشاريع ، وتناقص المصالح الشخصية الذي غطى على وحدة العقيدة والمنهج ، التي تحولت بدورها لمجرد شكل وغطاء لا يحرك سوى العناصر الغير طامحة للسلطة في السويات الدنيا ، والتي تتسلح بالإيمان لتستمد منه الإطمئنان في صراعها مع النظام الذي شن هجوم ابادة على شعبه ، وهذا هو عنصر قوتها وشعبيتها ، ولكن بمجرد الانتقال من سوية المجموعات القتالية الصغيرة لسويات السياسة والقيادة والإدارة ، يضمحل مفعول الإيمان وتبرز عناصر الشخصنة وأطماع السلطة وتضارب المصالح والمحسوبيات ، ويصبح الدين مجرد تجارة في سبيلها وليس ضوابط تحددها وتقيدها .

باندلاع الصراع المرير بين النصرة وداعش ، ثم الأحرار وداعش ثم جيش الإسلام وجيش الأمة ثم النصرة والأحرار وجيش الإسلام ….  فقد جرى تقويض مادي ومعنوي لفكرة الانتقال للنظام الإسلامي الموعود على يد الفصائل الجهادية، والذي صارت داعش نموذجه الحي … وما صراعات إدلب والغوطة إلا تعبيرا عن فشل حتى مشروع الإمارة ، من دون اعتماده على الترهيب والإستبداد المطلق على طريقة داعش . وفقا للتجربة العملية لم تستطع هذه الفصائل انتاج سلطة سياسية غير سلطة الترهيب ( إطلاق النار على المتظاهرين في دوما وادلب ، مكررة ما فعله النظام الأسدي بداية الثورة عليه )

اليوم وبعد سلسلة اغتيالات وتصفيات واختراقات في مستوى القيادات، وبعد السيطرة على التمويل صارت هذه الفصائل تعمل بتحكم القوى الاستخباراتية الخارجية ، بل سقط بعضها لمستوى التعاون مع المشروع الإيراني والتآمر مع النظام ( داعش بدرجة أوضح من غيرها ) ..  في النتيجة فقدت هذه الفصائل قرارها واستقلالها ، وبالتالي مشروعها ، وصارت تعمل لخدمة الأجندات الدولية في الميدان وفي حقول التفاوض ( اتفاق المدن الأربعة فضح التأثير الخارجي والمالي على قرارها ) ، وما ذهاب معظمها لجنيف والأستانة إلا دليل واضح على تخليها عن مشروعها واستقالتها منه … حيث كل مرجعيات التفاوض تنص حرفيا على طابع الدولة العلماني .. ناهيك عن بقاء الأسد وعن دور الأقليات، ومحاربة الإرهاب الذي تصنف معظمها ضمنه ( فالمجتمع الدولي يقبل بصعوبة وبشكل مؤقت فقط فكرة وجود فوارق فيما بينها ، فالفصائل الإسلامية بنظره ذات تكوين واحد متشابه لدرجة التطابق بما فيها الأحزاب السياسية كحزب الإخوان وحزب التحرير ) .

لا يوجد سبب عقيدي يبرر الصراع بين الفصائل الجهادية فكلها تقر بذات المنهج وتنهل من ذات المرجعيات ، ومع ذلك معظم الصراعات فيما بينها تندلع بسبب النزعات الأنانية ، مما يكشف الحاجة لنظام يمنع تضارب المصالح الشخصية من تخريب العمل العام و يصون التعاون المجتمعي المؤسس لانتاج سلطة محترمة قادرة على تحويل المجتمع والشعب لدولة سياسية بمهامها ودورها الحديث الذي بات لازما لاستمرار السلم الإجتماعي بل الحياة الإجتماعية.

نحن عندما نقول ذلك يخرج علينا من يكفر ويتهم ويقول نحن ضد الدين … وينسى أن الدين لا يلغي التطور والتقدم وتزايد تعقيدات الحياة ، ولا ينكر ضرورة إعمال العقل في تطوير نظم الاجتماع كما تتطور نظم الصناعة والتجارة ، وكذلك نظم السياسة والإدارة .

 باسم التدين نعود 14 قرن نحو الوراء ، ونسمي ذلك نظاما اسلاميا فقط لأن القدماء البدو الذين سكنوا الصحراء لم يكتشفوا غيره … فالدين لا يحتوي منهجا للحكم والسياسة وإدارة الدولة … ولا يريد الإسلاميون الإعتراف بالحاجة لمنهج دقيق لإدارة السياسة ومؤسساتها ، ويكتفون بتكرار الخطاب الديني التقليدي والاعتماد على مرجعية الشرعيين ؟؟ وهي وظيفة مستحدثة مبتدعة لتمثيل الدين ومصادرة حرية الشعب السياسية .

الدين لم يترجم حتى الآن لنظام إدارة وانضباط سياسي متوافق مع قيمه، لأن التاريخ السياسي في العالم الإسلامي قد طبع بطابع الحكم القهري ( حكم المتغلب ) ، ولم يرتق بعد للوصول لنظام العقد الاجتماعي ولم يطور قواعد الاجتماع السياسي المؤسسي ، رغم أن هذا مطلوب في أصل الدعوة التي لم تفرض نظاما محدد بعينه ، فالنظام السياسي الذي اقترحته الفصائل هو بيعة الأمير وطاعته وتحكيم الشرعيين كنخبة دينية تضع نفسها فوق الشعب وتحتكر سلطة الدين و ملذات الدنيا . وهي عن عمد وتجهيل خلطت بين تطبيق الشريعة القانونية الرسلامية وبين أسس النظام السياسي ، فحكم الشريعة لا يعني تحكيم الشرعيين ، بل يعني اعتماد القانون والحدود الإسلامية في المحاكم ، بينما سيطرة الشرعيين على النظام السياسي ( الأمارة ) هو موضوع مختلف كثيرا ويتعلق بنظام عمل الدولة والمؤسسات بمهامها الثلاثة الدفاع والأمن والخدمات العامة .

ماذا عن الآليات والمؤسسات التي تنتج السياسة والسياسيين وتراقبهم وتحاسبهم باسم الشعب وبتفويض منه في الدول الحديثة التي تعتمد نظام العقد الإجتماعي الدستوري ؟ … هل يكفي أن يكون الشخص ملتزما دينيا لكي يعوض عن غيابها ؟

لا أعتقد أن التدين قد غطى على هذا النقص في منهج وسلوك الفصائل ، باعتبارها نموذجاً عملياً أثبت افلاسه السياسي بالرغم من أداءها العسكري المتميز من حيث القدرة على التضحية والبسالة عند الأفراد ، مع ملاحظة ضعف الإدارة والتنسيق والعمل الجماعي ، والإقرار بصعوبة تحول هذه المجموعات الجهادية لجيوش نظامية …

باختصار ، حافظت الفصائل الإسلامية على وجودها كميليشيات مشرذمة ذات طابع طائفي ، وسرعان ما ارتهنت للخارج وتحكمت بها النزعات الشخصية ، وفشلت في تمثيل الدين ، وفي انتاج المؤسسات السياسية والعسكرية اللازمة أو القادرة على انتاج دولة اسلامية ( مع أن هذا المصطلح غير واضح أصلا ) فهل فشلها كان بسبب ظروف الثورة وطبيعة الشعب السوري الفوضوي ونزعته الفردية التي انعكست على كل شيء اسلامي وعلماني وادراي وسياسي وعسكري … أم بسبب عجز الفكر النظري ونقص أدواته أقصد الإسلام السياسي كآيديولوجيا ، الذي ما يزال يترنح بين الاستبداد والإرهاب ، بسبب حرمانية العقل وقدسية الاتباع والعجز عن التطور والتلاؤم مع متغيرات وضرورات الحياة؟

هكذا تعبُر الثورة السورية مرحلتها التجريبية الثانية أقصد المشروع الإسلامي ، بعد فشل المشروع الوطني الديموقراطي ، دون بروز ملامح لمرحلة تجريبية جديدة ، مما يفتح الساحة لتطبيق نظام الوصاية عليها في حال تقرر اسقاط النظام الاستبدادي المجرم ، بغياب مشاريع المعارضة البديلة الممكنة واقعا . حيث لا يجب أن نستغرب أن تتوافق الدول على تقاسم النفوذ في سوريا بعد تقسيمها لحصص ، فهذا يمنع انجرار تلك الدول لمواجهة مباشرة فيما بينها، وبنفس الوقت يعبر عن تضارب مصالحها ، لكن الخاسر الأكبر هو استقلال ووحدة سوريا وشعبها الذي تشتت في الأصقاع .

د. كمال اللبواني 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.