القصص الرمزية في الكتب المقدسة (أدم وحواء نموذجا)

د. كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

كما يقول د. محمد شحرور( لا يمكن التعامل مع القصص الواردة في النصوص المقدسة إلا من باب اعتبارها من المتشابه الذي لا يقصد فيه الإخبار بل الحكمة ) ، فالقصة نص مسرحي فني تشبيهي يفترض فيه أن يحمل معنى وحكمة ، وليست خبرا عن حدث واقعي صحيح بذاته ، والأسطورة هي ذلك النوع من القصص الرمزية التي شخوصها آلهة … وهي الشكل الأقدم للديانات التي تجسدت فيها ليسهل تناقلها ، ولذلك احتفظت الديانات كلها بذلك الارتباط مع الفنون وبجذر أسطوري حتى في آخر الكتب المقدسة .

مؤخرا اكتشف عالمان هولنديان نسخة قديمة جدا لقصة آدم وحواء، قالا إنها تعود إلى 800 عام قبل سفر التكوين في التوراة. القصة منقوشة باللغة الأوغاريتية على لوحين من الطين وتعود إلى القرن الثالث عشر ما قبل الميلاد، وعُثر على اللوحين في سوريا عام 1929. وفي السبعينات، تم تفكيك رموز الكتابة الأوغاريتية المسمارية في اللوحين، ولكن بشكل منفصل عن بعضهما البعض. ولأول مرة تمت دراسة اللوحين سويا من قبل الدكتورة مارغو كوربل ويوهانس دي مور الأستاذ الفخري في جامعة اللاهوت البروتستانتية في أمستردام. وتوصلا إلى اكتشاف أن اللوحين يحملان نسخة قديمة لقصة الخلق التوراتية.

في القصة القديمة يسود الإله “إل”، وهو الإله الأعلى (حسب الميثولوجيا الكنعانية) على “حقل كرمة الآلهة العظام”، الذي يقع على جبل أرارات في شرق تركيا اليوم. لكن سلطته هذه عارضها الإله الشرير حورون، سلف الشيطان. وعندما عُوقب حورون بالطرد من الجبل سمّم “شجرة الحياة”.

وهنا يظهر آدم في القصة: فهو إله أُرسل إلى الأرض لوضع حورون عند حده، لكن نهاية مهمته كانت مأساوية. فقد حوّل حورون نفسه إلى ثعبان سام ولدغ آدم، مما أدى إلى خسارته لطبيعته الخالدة. وكنوع من العزاء لما أصاب آدم، قدمت آلهة الشمس له “امرأة طيبة القلب”، ليتزوجها ، وبالتالي يمكن أن تتكاثر البشرية وتستمر ، ويسترد آدم بعضاً من طبيعته الخالدة بخلود ذريته .

أوجه التشابه بين هذه القصة وقصة الخلق في التوراة والقرآن قوية من حيث النفخ من روح الله ، والاستخلاف بالأرض ، والجسد المكون من طين لنفس خالدة باقية … لدرجة دفعت الباحثين للاعتقاد بأننا أمام نسخ مختلفة للقصة نفسها. الاختلاف الرئيسي، كما يقول البروفسور دي مور، هو أن “هناك العديد من الآلهة في هذه الأسطورة الأوغاريتية. آدم والثعبان هما من الآلهة. وهذا يتناقض بالطبع مع الأديان التوحيدية”. والاختلاف الثاني هو أن سقوط  آدم لا يعود إلى خطأ أرتكبه هو: (في القصة، وحسب ما استطعنا أن نفكك رموزها، ليس هناك خطيئة وعقاب ، تسببت بالخلق كما جاء في المسيحية ) .

كما توصف امرأة آدم على أنها من طينة جيدة: حواء في هذه القصة لا ذنب لها فيما حدث لآدم، على عكس قصة الخلق التي يعتمدها  اليهود والمسيحيون والمسلمون  كديانات نزلت بعد انتصار الثقافة الذكورية .

أما في النصوص اليهودية فحدود الجنة هي نهري دجلة والفرات في الغرب وسيحون وجيحون في الشرق وهم قرب جبال هيملايا ، وفي الأساطير العربية  القديمة فإنه بعد نزول آدم وحواء من الجنة للأرض تاها طويلا وهم عراة حتى تعارفا في جبل عرفات ، وازدلفا في المزدلفة ، ونزل من آدم منيا ملأ وادي منى بمقدار شوقه لحواء ، وهي اقدم طقوس الحج العربية المعروفة قبل الإسلام بزمن طويل … والتي أضيف لها قصة ابراهيم وزوجته هاجر وولده اسماعيل فيما بعد بطريقتين مختلفتين قوميا في التوراة والقرآن لكن بمضمون دلالي واحد يعبر عن طقس القربان المقدس الممتدة جذوره لطقوس احياء التموز إله الربيع المتجسد في القمح ، كما في الأساطير الآرامية والآثورية التي تتظاهر بوضوح أيضا في طقوس معظم الديانات السماوية ، حتى يقال أن المسيح والحسين هما تجسيد لهذا الإله القتيل تموز ، حيث يقول المسيح وهو يقسم الخبز ويوزعه في العشاء الأخير هذا جسدي فكلوه ، وأمهم تجسيد لعشتروت ، أما الندب واللطم على تموز عند الكنعانيين فبقي عند اليهود والشيعة ، وطقس الخصاء تحول لنظام الرهبنة المسيحية والتصوف ، واختصرته اليهودية لمجرد ختان سطحي .

{ وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (6) وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) } (سورة الفرقان 5 – 7)

أي أن عرب الجاهلية لا حظوا تداخل هذه القصص مع ما كانوا يسمعون من أساطير قديمة . والأسطورة الأوغاريتية تظهر أن قصة الخلق لديها خلفية تاريخية عميقة ، وسيرورة تاريخية تكاملت وعدلت مع الزمن ، واستخدمت كأشكال للتعبير عن الفكر الديني التأملي الإلهامي الذي اختص به نخبة قليلة من البشر ومنهم الأ نبياء  ، وتظهر مدى تشابك الإلهي والبشري وتداخلهم ، في العلاقة التكوينية بين الإنسان والآلهة ، وفي تواصلهم المستمر عبر التدين . فالآلهة تعيش في قلوب المؤمنين الذين يصلّون لها ، وتأمر الأنبياء بقراءة أفكارهم الموحاة لهم باسمها ونيابة عنها للناس …

ها هو جبريل يأمر محمد في الغار في ليلة القدر   اقرأ . فيقول مستغربا ما أنا بقارئ .. حيث لم يك ثمة كتاب يقرأ منه … ويزول هذا الاستغراب عندما يفهم أن القراءة مما أوحاه الله لهؤلاء البشر المصطفين كل بلغته وبحسب زمانه ومعارفه وأساليبه التعبيرية ، فالنصوص الدينية ذات شكل بشري تاريخي ، ومضمونها موحى ومتجاوز ومتجرد ، لكونه منسوخ ومنعكس عن ناموس الكون الخالد ،  لا يدخله الباطل طالما كان مصدره هو الحق :

اقرأ بإسم ربك الذي خلق ،خلق الإنسان من علق ،….     لذلك صرنا نكرر عند البدء بقراءة النصوص المقدسة حصرا للإلتباس عبارة:  باسم الله الرحمن الرحيم …. أي بالنيابة عنه وبتفويض منه …

فما المشكلة إذا تراكمت المعرفة وتراكم الإلهام وتطورت وسائل التعبير الفني واللغوي عن تلك العلاقة الحميمة بين الخالق والمخلوق الذي نفخ فيه من روحه فأحياه واستخلفه ، وسوف يتوفاه إليه ، بعد امتحان وتجربة الحياة التي تتحول لقصة كتبناها ألما ودموعا وعرقا وأملا ، لتدون وتحفظ في عالم الغيب الذي منه أتينا وإليه راجعون .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.