الدور الفرنسي في حل الأزمة السورية

د. كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

الدكتور كمال اللبواني

حرصت خلال عملي السياسي على كتابة مقالات توضح المسارات التي تسير بها الأوضاع ، عملا بمبدأ ارتباط السياسة بالناس ، وارتباط الفكر بالعمل ، وتابعت ذلك بالرغم من قلة من يقرأون المقالات ، نظرا لطغيان الاعتماد على البوست والتغريدة ، ولا أدري ماذا ستكون عليه حال الثقافة السياسية التي تعتمد على الجزئي ، ويغيب عنها الكلي والتحليل والتركيب ، الذي يتيح فهم آليات انتاج السياسة فكرا ومواقف .

يلاحظ من يتابع الأحداث في الشرق الأوسط أن حدود سايكس بيكو تحافظ على نفسها ، فليس هناك نية جدية عند الدول النافذة في تغييرها ، ولو كانوا لأعلنوا تقسيم العراق المقسم عمليا ، ربما لأن مثل ذلك سينتهي باتحادات وليس تقسيم . وعليه فإنه من الطبيعي أن يقع الاختيار على فرنسا في إيجاد حل للوضع السوري ، لكون سوريا حصتها في اتفاق سايكس بيكو …

الإدارة الأمريكية الجديدة أدركت بشرح واف من اسرائيل أن سياسة الاستنزاف التي اعتمدتها الإدارة السابقة قد انتهت لتنامي قوى التطرف السني والشيعي ، وأن المستنزف الأكبر هو قوى الاعتدال ، ناهيك عن الثمن الأمني والإنساني الذي تدفعه دول الغرب ويتفاقم باستمرار .

لم يكن استخدام النظام بتشجيع من روسيا للسلاح الكيميائي في خان شيخون هو السبب ، بل هو الذريعة لإعلان هذا التحول في السياسات ، وما تبعه من مواقف  وتحركات أثبت جدية السعي لتدخل فاعل يحاصر الفوضى التي ضربت أطنابها في عموم الشرق الأوسط الكبير ، ومنها سوريا طبعا .

لكن ليست هناك حتى الآن نية جدية في حسم الأمور بالقوة العسكرية ، نظرا للعجز المالي الكبير الذي تعاني منه الدول ، ناهيك عن عدم الإيمان بجدوى هذه الحلول ، لذلك سيفضل التحالف الدولي الذي ستقوده أمريكا أن يستخدم القوة الناعمة ، والقوى المحلية الحليفة ، وأفضل الأسلحة المتوفرة هو استغلال جرائم الحرب المرتكبة ومتابعتها ، وتحويل ذلك لآلية ضغط على النظام وايران وروسيا ، بذات الوقت متابعة تنظيم وتشغيل قوى محلية في الحرب العسكرية مع تنظيم الدولة وبقية جماعات التطرف الرديفة ، ومع دول المنطقة لتقليص النفوذ الإيراني …

مهندس هذه السياسة ومحركها هو ( العدو الصهيوني كما يسمونه)  أو دولة اسرائيل التي تعتبر نفسها هي صاحبة الفيتو في أي سياسة تخص دول الطوق ، بل الشرق الأدنى كله . فهي من رصدت وتابعت وبادرت وحرضت الدول والإدارات والإعلام ضد الضربة ، وهي من دفعت الدول نحو تشكيل تحالف للحرب على الإرهاب وتقليص النفوذ الإيراني ، الذي احتفل باعلانه في قمة الرياض حتى لو لم تحضر هي بوفد مستقل . لأنه عمليا كل الدول النافذة بما فيها روسيا والصين تراعي كثيرا المصالح الاسرائيلية وخطوطها الحمر …

حتى ديمستورا استعد للعودة لمجلس الأمن بعد الضربة ، لكن الجميع فوجأ بذهاب وفد الأستانة وكأن شيئا لم يحدث ، ثم انعقاد جنيف ، فأدرك الجميع أن المعارضة السورية فاقدة تماما لاستقلال قرارها ، وأنه في حال عدم توحدها على موقف يتماشى مع الخط الجديد يجب عمليا البحث عن اعادة هيكلة شاملة فيها ، والتي قد لا تحصل بسبب التجارب السابقة الفاشلة ( المجلس الوطني ، ثم الإتلاف ، ثم توسعة الإتلاف ، ثم هيئة الرياض ) لذلك جرى اعتماد فرنسا لتكون دولة مشرفة على هندسة الحل بالتشاور مع رموز سورية معارضة وموالية أيضا ، تتعامل معهم كأفراد ومستشارين وليس أصحاب قرار …

وهكذا تحرك الرئيس الفرنسي الجديد الذي يفترض أنه مشغول في اعادة ترتيب البيت الداخلي خارجيا وبفاعلية في الملف السوري ، وحرص على المشاركة شخصيا وليس فقط وزير خارجيته ، وفتح حوارا مع الروس ، وأكد على عدم السماح للنظام بتحقيق نصر عسكري ، عندما أكد على الرد العسكري على أي استخدام للساح الكيماوي ، والذي صار هو الوسيلة الوحيدة المتبقية بيد النظام لتحقيق انتصار كامل ونهائي ، ثم استدعى هيئة الرياض ، ثم استدعى ديمستورا … وهكذا توضح من خلال التحركات الفرنسية السريعة أن اعادة بناء سوريا كوطن ودولة أصبح مهمة فرنسية نظرا لفشل وارتهان المعارضة أولا ، وفشل النظام وإجرامه ثانيا …وعقم التفاوض بينهما ثالثا .

تحرك الأمين العام للأمم المتحدة ، على غير العادة ( التعبير عن القلق ) ، وحمل النظام مسؤولية ارتكاب فظاعات ،و طالب بشكل واضح بالتحرك لانشاء محكمة دولية ، حتى بدون قرار مجلس الأمن المعطل بالفيتو الروسي … وهذه التصريحات تعكس جدية تنفيذ الخطة المرسومة وتوزيع الأدوار .

اختار الأمريكان التعاون مع وحدات الحماية الكردية وليس الجيش التركي في تحرير الرقة ، ورفضوا اتفاق الأستانة الذي سيتيح تفرغ النظام وميليشيات ايران للذهاب للدير والبوكمال وتأمين تواصل جغرافي بين طهران وبيروت ، بل هاجموا قوافل النظام وحسن نصر الله في التنف . وبدأوا مفاوضات جدية مع الروس في دولة عربية لفرض منطقة آمنة في الجنوب ، وبدأت التحضيرات لتحرير دير الزور من يد داعش ، لكن ليس لصالح الحشد الشيعي والنظام السوري الحليف ، بينما تغرد تركيا بعيدا عن هذا التحول وما تزال تفكر بتنظيم وحدات عربية لقتال وحدات الحماية في الوقت الذي تستعد فيه الأخيرة لتحرير الرقة من داعش بمساعدة عسكرية ولوجستية أمريكية صريحة ومعلنة ، مما سيؤدي لتدهور جدي في العلاقات بين العرب والكرد في شمال سوريا ، وأكثر منه خطورة في العلاقات بين الغرب وتركيا .

لذلك فإن التحرك السياسي المطلوب ليس وقف القتال مع النظام والدخول معه في هدن وتغيير ديموغرافي سعيا وراء سراب الحل السياسي كما حصل في الأستانة ، بل فتح حوار جدي مع وحدات الحماية بإشراف دولي بهدف التوصل لصيغة دستورية ترضي الكرد ، وتحفظ وحدة سوريا ،واتفاق على نظام مؤقت لإدارة المناطق المحررة خاصة المدن الرئيسية … مثل هذا الحوار والتفاوض سيحظى بدعم دولي طالما أنهم لا يريدون الوصول بسوريا لمرحلة التقسيم ، فالغرب ينظر للقضية الكردية كقضية هوية قومية ، ولن يذهب بعيدا لتحويلها لدولة مستقلة على الأقل في الفترة المنظورة ، مثل ذلك الحوار والتوافق السوري السوري من شأنه أن يخفف من المخاوف التركية ، ويوفر عليها دفع المزيد من الأثمان ، لأن الروسي عاجلا أو آجلا سيدخل في صفقة مع أمريكا ، وتبقى تركيا وحدها مضطرة للاعتماد على حليف وحيد مراوغ وغدار هو ايران …

المطلوب من المعارضة السورية أن تتخلص فورا من منصات النظام وموسكو، ومن وكلاء الدول ، وترفع سقفها وتساير التحرك الدولي الجديد كهيئة متحدة مستقلة القرار ، وهي كما أرى عاجزة عن أي شيء سوى التنازع فيما بينها كما يحصل حاليا بين الائتلاف وهيئة الرياض في سياق النزاع العلني بين قطر والسعودية ، لذلك تنتقل المسؤولية للشخصيات الوطنية المطالبة ببذل جهود شخصية مع الدول وخاصة فرنسا لتقديم الرأي والمشورة بالطريقة الأمثل لحلحلة الأمور ، ولإطلاق مبادرات الحوار بين مكونات الشعب السوري ، ولتبدأ من الشمال السوري حيث التطورات سريعة ، والإدارة الفرنسية الجديدة كما أعتقد منفتحة تماما على مشاركة السوريين بتقرير مصيرهم ، فهي قد تخلت منذ زمن عن ذهنية الانتداب وأصبحت تعتبره واجبا ثقيلا ومكلفا  …

باختصار أعتقد أنه بسبب فشل المعارضة ، صار على السوريين أن يتخلوا طوعا عن 17 نيسان إذا أرادوا الخلاص من 8 آذار و 16  تشرين .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.